منوعات

بكر أبو بكر: الهم والغم حتى علا وطم!

بكر أبو بكر 27-8-2023: الهم والغم حتى علا وطم!

سألني أحمد: هل تعرف الفرق بين الهمّ والغم؟

فقلت له: كلاهما يعطيان معنى الحزن ربما بدرجات.

قال: ربما.

قلت: وما المعنى؟

قال: سأقول لك، لكن دعني أتوسع فهل تسمح لي؟

قلت: تفضل، كلّي آذانٌ صاغية.

قال:الهمُ والغم في اللغة العربية يأتيان معًا في الاستخدام، فتجد المهموم مغموم ما أثار فيّ عقلية البحث في هذه المحاورة بين المصطلحين فبحثت

قلتُ هازًا رأسي: جميل، تابع.

قال مكملًا فرِحًا أنه اكتشف شيئًا جديدًا: كان من المعاني أن الهم هو الحزن، والجمع هموم، وأن الغم والغُمة يعني الكرب، فلم أقتنع كثيرًا أو اكتفي، فلجأت الى معجم لسان العرب

قلت: أتفق معك، فلسان العرب لابن منظور كتابٌ مُلهم للمعنى والمصطلح واستخداماته واشتقاقاته الكثيرة والغنية تمثل غنى هذه اللغة العظيمة، التي يهملها أبناؤها اليوم.

قال: نعم صحيح، وأنظر ما وجدت

إذ كان الهم هو الحزن كما يورد المعجم، فإن النظر باللاحق من المعاني يُظهر الفروق الدقيقة حيث قيل ما أَهَمَّكَ أَي ما أَحْزَنَك، وقيل: ما أَقْلَقَك، وقيل: ما أَذابَك. 

هل لاحظت هنا دخول لفظة الذوبان التي تبدو شاذة بالمعنى السائد بينما يتقارب الحزن والقلق؟

قلت: نعم فعلًا! 

ولكن يقال أذوب شوقًا قد تكون قريبة!

قال: تمامًا، قريبة وفي ذات الاتجاه، وجاءت مفردة الذوبان هنا من ابن منظور استنادًا الى الهامومُ وهو: ما أُذِيبَ من سنام الجمل

وعليه يمكنني الاستنتاج بوضوح أن الهمّ تعني الحالة التي يكون فيها الحزن جالب القلق ومذيب القلب.

قلت: وماذا بشأن الغم؟

قال: من معاني الغم اللُبس، ومن المعاني المَظَلمة والضيق كما ورد أيضًا. 

وفي الغم أيضًا طمس كأن تغم رؤية الهلال على الناس أي طمس فلم يُرى. 

وغَمَمْتُه: غَطَّيته فانغَمَّ والغَمامة، بالفتح: السحابة، والجمع غَمام وغَمائم الغَمام الغَيْم الأبيض وإنما سمي غماماً لأنه يَغُمُّ السماء أي يسترها، وسمي الغَمّ غَمّاً لاشتماله على القلب.

وهنا ومن ابن منظور العظيم يستبين  الفرق 

فالغمّ حزن عميم وضيق يغطي، ويسبب الالتباس، ويغشى القلب والنفس وقد نقول يستر العقل عن التفكير السليم أو يطمسه مؤقتًا في مساحة الاغتمام. 

وهو بالسياق الإيجابي التفكير بالضرورة زائل، لأن الغمامة في السماء سرعان ما تزول وفي آنها ووقتها هي ثقيلة على القلب والعقل.

قلت: كلام ذو منطق سليم!

قال: أحببت في البداية محاولة التفريق بين الكلمتين لسبب ما أعانيه هذه الأيام من أحد الأصدقاء من هم وغم شديدين.

قلت: ياساتر!

قال: هل تصبر عليّ وتسمع.

قلت ولن أفوه ببنت كلمة، انطلق. (وسينطلق)

***

الاعتذار 

قال منطلقًا وكأنه يخبيء حزن كل السنين

جاورته بالمنزل والباب في الباب وعاشرته سنوات وأنا أمنّي النفس أن أتوافق معه، فهو صديق رغم أنه متذبذب العلاقة وقديم منذ أيام الجامعة. واقترنت به بمعنى أنهم كانوا يقولون أننا شيء واحد.

فرقتنا السنون ثم عُدنا للسكن بذات المكان، فكأن التذبذب والاختلاف القديم قد عاد واستقر. وأنا أحاول كل جهدي طوال سنين كثيرة أن أغيّر بالرجل لأنني أحبه فعلًا، وحفاظًا على ذكرى وعِشرة سنوات طويلة سابقة بيننا، رغم مدة الافتراق على قصرها بالسنوات.

أكلمه كثيرًا فيختار متى يسمع، وحين يكلمني يصرّ أن أسمعه بكليّتي!

أتحدث بمنطق اكتسبته عبر حكمة التجارب وصراعات الأيام فيجيب بعاطفة منفلتة غير مفلترة

أتحدث بلباقة اكتسبتها مع اختلاف الزمن وتطور الفهم ولكن عقله هو كأنك وضعته في بوتقة زجاجية! لم تؤثر بها الظروف ولا الرزايا، بل بقي كيوم ولدته به أمه!

أفضيت إليه بمفاهيم كثيرة تدلّ على أهمية الكلام، ودقة اللغة المستخدمة وعِظم الكلمة ومعانيها وتأثيرها الكبيربالناس، وصدمتها حين تحيد عن الهدف، وضرورتها في وقتها، وجمالها حين تتأنق، وفضلها حين تكون في موقع الإشادة والتربيتة على الكتف، وحين اقترانها بالابتسامة وشيء من قسمات الوجه الصادق معلنًا عن مودة قديمة متجددة.

حدّثته عن الكلمة في موضعها، وفي سياقها، وفي وقتها. وعن الكلمة ضمن آداب التواصل بين البشر وحيث يقع منها في قلب الآخر كل الرحابة والاتفاق….

هو أحيانًا يسمع لك، وأحيانًا كثيرة لا يسمع… ويفترض حين يعلو تذمره أنني إنما ألقي عليه محاضرة… فيشيح بوجهه!

يعود ليقول ما اعتاد عليه منذ زمان مضى، ولم يغيره!

وهو ذات الزمان الذي مضى عليّ وطورت فيه من ذاتي. لقد اختلف الزمنان!

يعود فيصف الأشياء بكلمات لا تهذيب فيها ولا تشذيب ولا مراعاة ولا عدل.

وتجده يضحك مقهقهًا من فلان، ويغضب بدويّ العاصفة من علان فلا توسط عنده.

وهو عندما يحزن تفرّ منه الكلمات الجارحة أو المتقرّحة الى الدرجة التي لا يستطيع أن يتتبعها. بالفترة الأخيرة اضطررت أن أسجل له، نعم سجّلت له بالجوال، وواجهته بما قال.

واجهته بكلماته النافرة فما كان منه إلا التبرير! أو الصمت!

لم يعرف الاعتذار مطلقًا، كما لم يعرف معنى الاعتراف بالخطأ بتاتًا.

بل وللصدمة أحس فيه أن الاعتراف بالخطأ بالنسبة له وكأنه اعتراف بضعف شخصيته (أوحتى طعنًا في رجولته) واضطرابها، وكأن الاعتذار نقيصة ومثلبة جالبة لعار!

ما زلت أنا أستمع وأتفكر، فالحالة جدّ ملتهبة.

واصل أحمد يقول: حاولت أن امتنع عنه، وابتعد فلم استطع…

وكيف ذاك والباب بالباب، وهو صديق قديم كما قلت لك!

ذكرت له يومًا أن المعاملة تكون بالمثل كما الثقة والمصداقية والمحبة.

وكل شخص يحب أن يعامل بالمثل، بمثل ما يعامل هو الآخرين، بتبادلية، وطبّقت ذلك بالطبع ولكن لا يجد هو أي صلة بين كلامي وتطبيقي لينعكس عليه، فهو بما هو عليه سادر.

حاولت أن أتجنبه أحيانًا فأغيّر مواعيد خروجي من المنزل أو عودتي كي لا اصطدم به، لكنه يجد من الأوقات ما يعود اليّ بالشكوى والتذمر دون أي انتباه لما سبّبه لي أنا شخصيًا من ألم ومن حزن علا وغم كما بدأتك بتعريف المصطلحين.

حاولت أيضًا أن أدفعه للقراءة في مساقات حديث النفس، ومسارات العقل، ولقاء الأرواح، وحلاوة الإيمان واليقين، وتنمية الذات والشخصية وقراءة القصص والروايات الجميلة أوالاطلاع على كتب التنمية البشرية.

أقول حاولت وعملت جاهدًا… لكن!

حاولت دفعه لاكتساب الايمان والرضا أو اكتساب فضيلة الصبر أو التامل أو التفكّر بما يبتغيه ويهدف اليه قبل قوله. ولكن لسانه دومًا سابق لعقله. وكلما أخطأ يبرر أولا يعترف، ولا يعود ليعتذر مطلقًا، فالاعتذار ليس في قاموسه مطلقًا، كما قلت لك.

ابتعدت كثيرًا عن الجُمَل العلمية التي لربما استخدمتها مستعارة من دراستي في علم الاجتماع كما تعلم وحاولت أن أقرّب له المفاهيم بالأمثلة والقصص، فأوضحت له أهمية الاستماع والانصات والاصغاء وعدم مقاطعة المتحدث ولكنه كان إما ساهٍ أو لاهٍ أو يلعب بجواله، أويضحك لا أدرى على ماذا!

كان حين يستمع أو حين استجلب انتباهه قسرًا، يقول نعم أنا استمع لك! ولكن الحقيقة أنه حين كان ينظر الىّ لا ينظر الىّ! بل ينظر في مساحة ما يتذكره أو يتخيله هو في معقله! في قوقعة تخيلاته، ما يظهر من نظراته الساهمة أو بالحقيقة البلهاء. إنها نظرة أو نظرات زجاجية بلا معنى وكأنه منوم مغناطيسيًا.

قلت -لا حول ولا قوة الا بالله. طيب والآن أين وصلنا بهذا الصديق؟

قال-وصلنا الى أنه تغلّب علي، فأورثني الحزن والغم والهم فهل تراني بحالة غير التي بادرتك بالسؤال عنها؟

كنت وهو يسرد حديثه أفكر كيف انتشله من الحالة، لكنه ما إن استمر حتى وصل للنهاية حتى غمرني بحالتيه من الغم والهم، فآثرت الانسحاب، فما العمل يا أهل العقل والتدبير؟

 

 

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى