الأسرى

مصطفى إبراهيم: شهادات الاعتقال والتعذيب في السجون الإسرائيليّة

مصطفى إبراهيم: شهادات الاعتقال والتعذيب في السجون الإسرائيليّة

(1)

خليل الوليد الذي استجوبته “العصافير” 

هنا حكاية خليل الوليد، المُسعف الذي حاول تفادي الاعتقال، لكنه فشل، لينتهي به الأمر لمدة 40 يوماً بين السجون و”الأقفاص” أمام أجهزة كشف الكذب والحبوب المهلوسة.

ما زالت صور اعتقال الفلسطينيين وإذلالهم في قطاع غزة تُتداول عبر وسائل التواصل الاجتماعي. الانتهاك الصارخ لحقوق الإنسان وقوانين الحرب، تبرره إسرائيل بشبهة “الانتماء الى حماس”، لتقود المعتقلين إلى معسكرات اعتقال مجهولة، يختبرون فيها أنواع التعذيب والإذلال حسب التقارير الصحافيّة، ناهيك بموت بعضهم.

لا يستطيع المعتقلون التواصل مع العالم الخارجي، إذ تمنع إدارة السجون دخول المنظمات الدولية والمحامين وأقرباء المعتقلين، ليكون مصدر الشهادة الوحيد، المعتقلين الذين أفرج عنهم. ناهيك  تفعيل ما يسمى “قانون المقاتل غير الشرعي”، الذي يتيح إصدار أمر باحتجاز” المقاتل غير الشرعي” لمدة 45 يوماً بدلاً من 7 أيام، وأن تتم المراجعة القضائية خلال 75 يوماً بدلاً من 14 يوماً، ومنع المعتقلين من لقاء محاميهم لمدة 180 يوماً. 

الشهادة التالية وثقها الكاتب والناشط الحقوقي مصطفى ابراهيم، كتبت كلها بضمير المتكلم، وتم تحريرها وإعادة ترتيب الضمائر للضرورة الصحفية، كل ما ورد فيها من وصف، وتفسيرات، وإحالات وأحداث يعود لخليل الوليد.

الهروب من القناص

 

يعمل خليل الوليد مُسعفاً في جمعية صحيّة، هو من سكان مدينة غزة، متزوج وأب لثلاثة أطفال. يروي لنا  خليل تفاصيل اعتقاله، ومحاولاته تفادي الاعتقال، وما تعرض له حين تمكّن الجنود الإسرائيليون من الإمساك به ومراحل التحقيق والاتهام.

في 13/11/2023، نحو الساعة 10:00 صباحاً، قابل خليل صديقه الدكتور مروان في حي تل الهوى في مدينة غزة، وكان يرتدي زي المسعفين الذي لا يثير اللبس، مريول أبيض عليه خطوط صفراء وإشارات الصليب الأحمر والهلال الأحمر، كما كان يحمل حقيبة إسعاف أولي.

اتّجه الطبيب مروان والمسعف خليل إلى تل الهوى، لمتابعة جروح 3 مصابين نتيجة القصف الإسرائيلي. بعد الانتهاء من متابعة جروح المصابين، سار الاثنان معاً باتجاه ملعب برشلونة في حي تل الهوى.

بعد نحو ساعة، وصل الاثنان إلى شارع الصناعة، وفي الجهة الشرقية لملعب برشلونة، سمع خليل صوت إطلاق عيار ناري أصاب صديقه الدكتور  في بطنه، يقول خليل: “نظرت باتجاه الغرب، مصدر إطلاق العيار الناري، ولاحظت وجود جنود إسرائيليين في عمارة سكنية غرب ملعب برشلونة. وفي غضون ثوانٍ معدودة، أطلق الجنود الإسرائيليون من القناصة عياراً نارياً آخر (ثانياً) أصاب الدكتور  في رأسه، فسقط على الأرض وظلّ ينزف حتى مات”.

واصل  القناصة إطلاق النار تجاه خليل، فاختبأ خلف مقطورة (شاحنة) كانت متوقفة في المكان، ولم يتعرض للإصابة. أثناء اختبائه، سمع ضجيج مرور الدبابات الإسرائيلية، التي كانت تطلق نيران رشاشاتها وقذائفها المدفعية.

 بقي خليل خلف الشاحنة حتى الساعة 01:00 فجر اليوم التالي/14/11/2023، وتمكن بعد ذلك من قطع شارع الصناعة زحفاً، ودخل شقة في الطابق الثاني في عمارة سكنية خالية، ومكث فيها حتى منتصف الليل(15/11/2023)، حينها سمع صوت انفجارات متتالية، وشاهد وهجاً أحمر أضاء المكان تبعه صراخ.

على سطح الفيلا

اقتحم الجنود العمارة التي اختبأ فيها خليل، وفجّروا أبواب الشقق، بما فيها باب الشقة التي كان فيها، فاختبأ في خزانة الملابس. فتّش الجنود الشقة، ولم يعثروا على خليل.

بعد خروج الجنود من العمارة، أطلقوا تجاهها القذائف والقنابل الحارقة، فاشتعلت فيها النار، خرج خليل من الشقة باتجاه المصعد الكهربائي الذي سقط في الطابق السفلي.

مكث خليل في الفيلا بعض الوقت، ومن التعب نام حتى الظهر، ثم صعد إلى سطح الفيلا، حيث شاهد خيماً لجنود إسرائيليين وحولها عدد كبير من الدبابات والآليات، فنزل عن السطح وأرسل رسالتين نصيتين من جواله لزوجه ومدير الجمعية التي يعمل فيها وأخبرهما بالظروف التي يمر بها.

في نحو الساعة 03:30 مساء يوم الأربعاء/15/11/2023، اقتحم الجنود الإسرائيليون الفيلا وهم يطلقون النار، ووصلت أضواء الليزر إلى حيث اختبأ خليل فبدأ بالصراخ : “ريجا.. ريجا” أي توقفوا بالعبرية، و “اتسيلو…أتسيلو”، أي النجدة.

توقف الجنود عن إطلاق النار، وطلب منه أحد الجنود خلع ملابسه، باستثناء اللباس الداخلي السفلي (بوكسر)، والركوع على ركبه والنظر إلى الأرض. يقول خليل: “قيدني الجنود بقيود بلاستيكية خلف ظهري، ووضعوا عصبة على عينيّ، ثم  خرجوا بي من الفيلا إلى منزل آخر”.

حين رفعوا العصبة عن عيني خليل، وجد نفسه في منزل يحوي حوالى 20 جندياً يرتدون زياً أخضر اللون مموهاً، ومن دون مقدمات ضربوه على جميع أنحاء جسده بأيديهم لبعض الوقت، ما تسبب في كسر بعض عظام الصدر.

الركل أمام جهاز كشف الكذب

 

 يقول خليل إن الجنود أحضروا جهاز كشف الكذب، وأوصلوه بجسمه وسألوه عن سبب وجوده في المنطقة التي اعتُقل فيها، فأجاب سارداً كل التفاصيل. ثم سأله الجندي “هل أجريت اتصالات من جوالك؟”، قال خليل: “نعم”،  فأصدر جهاز كشف الكذب صوتاً مميزاً، فضربه الجنود وصعقوه بالكهرباء. 

صحّح خليل إجابته قائلاً: “لم أتصل من جوالي وإنما أرسلت رسالتين نصيتين لزوجتي ومديري في العمل”، وعلى رغم إجابته الصادقة، ضربه الجنود، ثم عرضوا عليه صور نفق، واتهموه بأنه خرج منه.

يتم “التحقيق” في المنزل، خليل محاط بالجنود، الذين قرر أحدهم بعد انتهاء “الاستجواب”، توجيه تهم عدة الى خليل، وهي: “خطف إسرائيليين وأميركيين، الانتماء إلى قوات النخبة في حماس، نقل معلومات عن الجيش الإسرائيلي، الوجود في منطقة قتال ممنوع الوجود فيها”.

أنكر خليل هذه التهم، فتعرض للصعق بالكهرباء 5 مرات بواسطة جهاز يحمله الجنود، الذين اعتدوا عليه بالضرب الشديد على جميع أنحاء جسمه. يقول خليل:” كان الألم شديداً بسبب كسور عظام صدري والجروح في رأسي، وعدم قدرتي على التحمّل، فاعترفت بكل التهم الموجّهة إلي”.

بعد اعتراف خليل، نُقل مقيّد اليدين خلف ظهره ومعصوب العينين ومن دون ملابس، (باستثناء اللباس الداخلي)، في ناقلة جنود، التي سارت نحو مكان مجهول، ثم توقفت. يقول خليل: “أنزلني الجنود على الأرض، ثم قاموا بضربي مرة أخرى، وبصقوا وبالوا عليّ أيضاً”.

الطريق إلى إسرائيل معبّد بالشتم والركل

 

أعيد خليل إلى ناقلة الجنود، التي كانت تسير ثم تتوقف عند مواقع تمركز جنود آخرين، وفي كل توقّف، كان خليل يتعرض للضرب، لينتهي به الأمر في منزل مدمر  مكث فيه طوال الليل. 

في المنزل المدمر، أجبر الجنود خليل على النوم على الأرض، حيث الزجاج المحطم وُركام المنزل المدمر. يضيف خليل: “كان الجنود يمشون فوقي، ما تسبب بجروح في أنحاء جسمي، وفي الصباح نُقلت في ناقلة الجنود إلى داخل إسرائيل”.

بامبرز وحبوب هلوسة

 

عُرض خليل على محقّق، عرّف عن نفسه بأنه محقق عسكري من فرقة جولاني، وأجبره على شرب حبة دواء، يصفها خليل بأنها “حبة هلوسة”، بوعد شربها مع كمية محدودة من الماء، طلب خليل شرب المزيد من الماء لكن المحقق رفض.

 يتابع خليل: “ألبسني الجنود حفاظة (بمبرز) وأفرهول بني أو زيتي اللون، واستلقيت على سرير بعد وضع طوق من الحديد (أسورة) حول رأسي وقيود حديد في قدميّ استُخدمت لصعقي بالكهرباء في رأسي وقدميّ بشكل متقطع”.

بدأ المحقق يذكر كلمات محددة وينتظر من خليل الإجابة مثل (السلاح – حماس – المختطفين – الانفاق – 7 أكتوبر)، وعندما لم يرد أو لم تعجب المحقق إجابة خليل، كان يصعقه بالكهرباء.

يقول خليل وكأن “الحبة” أخذت مفعولها: “كنت أشعر بشيء غريب، كأنني أحلق في السماء،كنت غير واعٍ بدرجة كافية للرد على الأسئلة، وبقيت على هذا الوضع أياماً عدة، أجبر على شرب حبوب الهلوسة وأصعق بالكهرباء، وأتخيل نفسي في منزلنا وأنادي على أهلي”.

لم يقدَّم لخليل الطعام أو الماء، وبقي مرتدياً الحفاظة، ولم يشعر برغبة في الذهاب لدورة المياه، و بعد أيام عدة لم يستطع خليل تحديدها، نُقل إلى معتقل لم يتمكن أيضاً من تحديد مكانه أو اسمه بواسطة حافلة سارت ساعات عدة بينما خليل داخلها مقيد اليدين ومعصوب العينين”.

 عُرض خليل على مجموعة من الأطباء داخل عيادة المعتقل (السجن)، لاحظ الأطباء حالة الإعياء التي كان فيها، فقرروا احتجازه من دون تحقيق لمدة يومين  في غرفة من دون نوافذ وفيها سرير.

أول أمنية بالموت

 

 بعد مرور اليومين، نُقل خليل الى التحقيق، وقف أمامه محققان،  قال أحدهما إنهما من الشاباك، كان معهم 5 أفراد ملثمين، وقفوا خلف الكرسي الذي قُيدت إليه يداه خلف ظهره، بينما القيود في قدميه تثبّته في في أرجل الكرسي.

قبل بداية الاستجواب والتحقيق، أُجبر خليل على شرب حبة دواء (هلوسة)، ثم جذب الملثمون يديه الى الخلف بقوة لـ”شبحه”، يقول خليل “تسبب ذلك بألم شديد لي، فغبت عن الوعي لبعض الوقت، ثم بدأ استجوابي وتكررت الاتهامات لي بأنني أنتمي الى حركة حماس وعضو في نخبة القسام وشاركت في أحداث 7 تشرين الأول/ أكتوبر”.

أنكر خليل كل التهم، فشبح من يديه خلف الكرسي، يقول: “تمنيت الموت للراحة من الألم والعذاب، واستمر ذلك ساعات عدة على فترات متقطعة، بعد ذلك أخرجوني لساحة المقر لبعض الوقت ووضعوا قيوداً بلاستيكية في يديّ (عضاضة)، وكل ما أحرك يديّ تشتد القيود حولها، وهو ما سبب جروحاً فيهما لا تزال آثارها واضحة على المعصمين”.

أُعيد خليل إلى غرفة التحقيق، حيث “شبح” من يديه الى الخلف على طول باب الغرفة لساعات عدة، وبعد ذلك نًقل الى سجن قد يكون اسمه “إيتمار” حسب ما تعرف عليه بعض المعتقلين في ما بعد. 

السجن  الذي بقي فيه خليل عبارة عن أقفاص من الحديد، وكل قفص فيه حوالى 100 معتقل، ويحيط به سلك شائك، وكل المعتقلين مقيدو اليدين للأمام بقيود بلاستيكية ثم قيود حديدية، ومعصوبو الأعين.

يرتدي المعتقلون زياً موحداً رمادياً، ويحصل الواحد منهم على فرشة وبطانية، أما الطعام فـ 3 وجبات قليلة جداً، ولا تكفي شخصاً واحداً،  وبصعوبة يُسمح للمعتقلين بالذهاب الى الحمام.

زيارة من “العصافير”

 

كان روتين السجن يتكرر بشكل يومي، من الساعة 05:00 صباحاً حتى الساعة 12:00 منتصف الليل، ويجبر الجنود خلالها المعتقلين على الجلوس على الأرض على ركبهم، ويمنعونهم من التحدث لبعضهم البعض طوال الوقت، يتخلل ذلك نقل غالبية المعتقلين الى التحقيق كل يومين.

في إحدى جلسات التحقيق، واجه خليل محققاً قال إنه من جهاز الموساد، وإنه حضر للتحقيق مع خليل بحجة تورّطه في خطف أجانب، بخاصة أميركيين. يقول خليل: “هددني بالقتل إذا لم أعترف، واعتدى علي عدد من المرافقين له بالضرب بأيديهم، ونقلوني إلى غرفة ثانية”.

في الغرفة، يصف خليل ما اختبره تحت تأثير حبّة هلوسة، من دون أن يعلم الحقيقة من الوهم قائلاً : “سمعت صوت إطلاق نار، وتمثل هروب للجنود الإسرائيليين، وسيطرة أفراد من حماس على المكان، ودخولهم الغرفة التي أوجد فيها، وسألوني عن الكتيبة التي أنتمي لها ومكان سكني و المسجد القريب مني”.

يقول خليل إنه كرر إجاباته السابقة، مؤكداً أنه يعمل مُسعفاً، ولا ينتمي الى حماس أو القسام، ويشير هنا إلى أن من “رآهم” يصنفون كـ”عصافير”، التسمية التي تطلق على عناصر استخباراتيّة في السجون الإسرائيليّة، مهمتهم خداع المعتقلين واستخراج اعترافات منهم.

البحث عن السنوار 

 

يقول خليل إنهم تركوه، دخل بعدهم جنود ونقلوه إلي مكان آخر، حاوية حديدية (كونتينر) فيها محقق، لفت الى أنه من وحدة جولاني. ربط الجنود بعدها قدميّ خليل بجنزير ورفعوهما إلى السقف، ليتدلى رأسه الى الأسفل. يضيف خليل، “غمروني في وعاء فيه ماء، ومن العطش شربت كمية كبيرة من الماء، واستمر غمر رأسي في الماء لبعض الوقت، ثم شبحوني من يديّ وقدميّ بحيث لا تلامسان الأرض على سلك مشبك أمام غرفة التحقيق لساعات عدة، وبعد إنزالي أعادوني إلى الغرفة”.

في الغرفة، رسم المحقق سيارة إسعاف على الحائط، وطلب من خليل الذهاب بها لإحضار السنوار، زعيم حماس. فأجاب خليل: “لا يوجد بنزين في سيارة الإسعاف”، فصعقه المحقق بالكهرباء بواسطة جهاز كان يحمله. يتابع خليل: “مثلت قيادتي سيارة الإسعاف والتوجه الى حي تل الهوى في مدينة غزة، وبعد عودتي قلت له: السنوار ذهب إلى مصر”، ضحك المحقق وقال إنه سيذهب إلى حي النصر في مدينة غزة، ويحضر السنوار. 

بعد ذلك، دخلت مجندة وأعطت خليل قطعة شوكولاته ثم أعادوه إلى “القفص”، وفي إحدى جولات التحقيق، أخرجوه إلى ساحة عارياً  عدا الثياب الداخليّة السفلية، يقول خليل: “سكبوا ماء بارداً على جسمي، وشغلوا مراوح تجاهي فتجمدت من البرد”. يلفت خليل الى أنه أثناء وجوده في القفص داخل السجن، توفي أحد المعتقلين في القفص نفسه، وثار المعتقلون وحملوه، وهتفوا بأنه” شهيد التعذيب “، فاقتحم الجنود القفص الذي يوجد فيه والأقفاص المجاورة وألقوا القنابل الصوتية، واعتدوا على كل المعتقلين بالضرب بالهراوات.

تشييع داخل القفص ثم ركض نحو المعبر

 

بعد يومين، توفي معتقل ثان من ذوي الإعاقة (مبتور القدم)  في قفص مجاور نتيجة الضرب الذي تعرض له على رأسه خلال اقتحام أقفاص السجن. وعلى الرغم من العصبة على عينيه،  إلا أن خليل كان يلاحظ شبح معتقلين آخرين في البرد والمطر، سواء أثناء التحقيق معهم أو بسبب عقابهم لأنهم تحدثوا مع بعضهم البعض. يقول خليل: “كنت أسمع أسماء معتقلين ينادي عليهم الجنود للتحقيق أو للعقاب أو للشبح، ومن الأسماء التي سمعتها اسم الدكتور محمد أبو سلمية، مدير مجمع الشفاء في مدينة غزة، والدكتور سيف الجمل، والدكتور عبد ربه الذي لا أعرف اسم عائلته”.

يؤكد خليل أنه تعرض للشبح على السلك مرتين بسبب حديثه مع معتقل بجواره، وفي آخر ليلة له في السجن، نادى الجنود على حوالى 30 معتقلاً، كان خليل من ضمنهم، نُقلوا بعدها في حافلة سارت بهم ساعات عدة، مقيدي اليدين والرجلين ومعصوبي العينين.

تعرض خليل ومن معه في الحافلة للضرب طوال الطريق، حتى وصلوا إلى معبر كرم أبو سالم في مدينة رفح، وبعد وصولهم طلب منهم جنود حرس الحدود جمع الورق وتنظيف ساحة داخل المعبر لبعض الوقت.

 بعد التنظيف، قال لهم الجنود: أركضوا باتجاه الغرب، نحو نقطة للأونروا، وعندما وصلوا استقبلتهم موظفة في الأونروا من جنسية أجنبية، وقدمت لهم طعاماً وشراباً (أرز ولحوم وبسكويت وشكولاته وشاي وقهوة).  

سار خليل ومن معه حتى وصلوا إلى معبر رفح، هناك قابلوا أفراداً قالوا إنهم من الأمن الداخلي، وسجلوا بياناتهم الشخصية، وسمحوا لهم بعدها بالذهاب، فصعدوا  حافلة صغيرة أوصلتهم إلى مدينة رفح.

 بعد وصوله إلى رفح إلى منزل بعض الزملاء، عرف أن التاريخ هو يوم 23/12/2023، وبذلك تكون فترة اعتقال خليل نحو 41 يوماً.

(2)

أيمن لبد المُعتقل رقم 059775

ما زالت صور اعتقال الفلسطينيين وإذلالهم في قطاع غزة تُتداول عبر وسائل التواصل الاجتماعي، الانتهاك الصارخ لحقوق الإنسان وقوانين الحرب، تبرّره إسرائيل بشبهة “الانتماء الى حماس”، لتقود المعتقلين إلى معسكرات اعتقال مجهولة، يختبرون فيها أنواع التعذيب والإذلال حسب التقارير الصحافيّة، ناهيك بموت بعضهم.

لا يستطيع المعتقلون التواصل مع العالم الخارجي، إذ تمنع إدارة السجون دخول المنظمات الدولية والمحامين وأقرباء المعتقلين، ليكون مصدر الشهادة الوحيد، المعتقلين الذين أُفرج عنهم. ناهيك بتفعيل ما يسمى “قانون المقاتل غير الشرعي”، الذي يتيح إصدار أمر باحتجاز “المقاتل غير شرعي” لمدة 45 يوماً بدلاً من 7 أيام، وأن تتم المراجعة القضائية خلال 75 يوماً بدلاً من 14 يوماً، ومنع المعتقلين من لقاء محاميهم لمدة 180 يوماً. 

الشهادة التالية وثّقها الكاتب والناشط الحقوقي مصطفى ابراهيم، كُتبت كلها بضمير المتكلم، وتم تحريرها وإعادة ترتيب الضمائر للضرورة الصحافية، كل ما ورد فيها من وصف وتفسيرات وإحالات وأحداث، يعود الى أيمن لبد.

أيمن لبد (30 سنة)، متزوج ولديه ثلاثة أطفال، من سكان شمال قطاع غزة، ويعمل في المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان. كان يسكن في مدينة غزة، وعند اندلاع الحرب اتّجه نحو منزل عائلته في بيت لاهيا.

 في 7 كانون الأول/ ديسمبر 2023، نحو الساعة 10:00 صباحاً، سمع أيمن عبر مكبرات الصوت، الجيش الإسرائيليّ يأمر سكان الحي بالخروج من منازلهم إلى الشارع وتسليم أنفسهم.

 أمروا  النساء والمسنين بالذهاب إلى مستشفى كمال عدوان في مشروع بيت لاهيا، أما الرجال والصبية الذين لا تتجاوز أعمارهم الـ 14 عاماً، فأُمروا بخلع ملابسهم والركوع على ركبهم في الشارع.

أثناء ذلك، أطلق الجنود النار على محمد الكحلوت، ما أدى إلى إصابته في يده، صوّر بعدها الجنود المعتقلين “بشكل غير لائق  إنسانياً”. 

يقول أيمن، “كنا نصف عراة، وأجبروا عدداً منا على الرقص، كما أحرقوا أمام أعيننا منازل عائلات المقيد والمهدي والكحلوت وسرور”.

المعتقل رقم 059775 

ظُهر ذات اليوم، نُقل أيمن ومن معه إلى منطقة “زيكيم” بجانب البحر، حيث مكثوا هناك حتى وقت متأخر من الليل. علم أيمن لاحقاً أنه أُطلق سراح بعض المعتقلين حينها. أما الباقون فنُقلوا إلى قاعدة “أوفيكيم” العسكرية، مقيدي  الأيدي ومعصوبي الأعين.

يقول أيمن إنه بمجرد وصولهم إلى القاعدة العسكرية،  أعطي الرقم 059775، وعُرض على أحد المحققين لتقديم معلوماته الشخصية، وعندما علم المحقق أنه يعمل في منظمة لحقوق الإنسان، قال مهدداً: “سأعلمك حقوقك جيداً في السجن”.

في وقت لاحق، نُقل المعتقلون  إلى مركز احتجاز مخصص للمعتقلين في غزة، محاط  بأسلاك شائكة، وفيه نقطتا حراسة مرتفعتان لتمركز الجنود. كان عدد المعتقلين  ما بين 500 إلى 700 معتقل، وفي كل المكان حمام واحد.

كان الجنود الإسرائيليون يعتدون على المعتقلين بالضرب بشكل يومي منذ الساعة الخامسة صباحاً وحتى منتصف الليل. وأُجبر أيمن والمعتقلون على الجلوس على ركبهم، وإذا حاول أي شخص أن يتحرك أو يرفع العُصبة عن عينيه كان الجنود يعتدون عليه بالضرب، أو يخضع لعقاب قاس بإجباره على الوقوف مع رفع يديه فوق رأسه لأكثر من ثلاث ساعات. 

لاحقاً، نُقل أيمن مع مجموعة من المعتقلين إلى سجن عسكري، لا يعرف أيمن  أي معلومات عنه. كان ومن معه يسمعون الطائرات من دون طيار وهي تنطلق أو تهبط في المعسكر.

يقول أيمن، “أثناء نقلي، تعرضت للضرب مراراً على يد الجنود الإسرائيليين من دون أي سبب. كانوا يضربونني باستمرار على قفصي الصدري، لم أستطع النوم لمدة ليلتين من شدة الألم”.

يوم الاثنين 11 كانون الأول، نُقل أيمن إلى مركز احتجاز جديد، كان أفضل من المكانين السابقين. احتُجز ومن معه من دون وضع قيود على اليدين أو عصبة على  العينين. يتابع أيمن، “تمكنا من الحركة والنوم من دون اعتداء أو اعتراض  من الجنود. وعلمت لاحقاً من بعض المعتقلين أننا كنا في مكان يقع في جبل المكبر بالقدس”.

قبل الظهر من اليوم نفسه، استُدعي أيمن للتحقيق، الذي استمر متواصلاً حتى الساعة 10 مساءً. سجّل المحقق بيانات أيمن الشخصية وبدأ التحقيق معه قائلاً: “أنا مريض نفسي وتوقفت عن تناول الأدوية”.

“لكلّ كلب يومه”

طلب المحقق من أيمن أن يخبره بجميع المعلومات التي لديه عن أعضاء حماس والجهاد الإسلامي. وسأله عن عمله في المركز، وطلب رأيه في ما حدث يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر. وقال إنهم سيبدأون بمعاملة أهل غزة “مثل الكلاب”.

سأل المحقق أيمن عن أقاربه وعلاقتهم بحماس، فأخبره أيمن بأنه لا يعرف عن أقاربه شيئاً، مضيفاً: “أنا شخص غير اجتماعي ولا علاقة لي مع  هؤلاء الأفراد من  العائلة”، فهدده المحقق وشتمه وضربه على وجهه غاضباً، لأن إجابات أيمن لم تعجبه.

استمر المحقق في الضغط على أيمن وتكرار الأسئلة نفسها، طالباً منه أن يتذكر. يشير أيمن: “كان يخرج من الغرفة من ثم يدخل مجدداً. وفي كل مرة، كان يضع العصبة على عيني”. وفي المرة الأخيرة التي عاد فيها الى الغرفة، سأل أيمن  الأسئلة نفسها، فكرر الأخير الإجابات ذاتها: “لا يوجد لدي أي معلومات أو تفاصيل عن أي شيء”. 

بعد انتهاء التحقيق، وقف المحقق أمام أيمن بعصبية وغضب، ووضع العصبة على عينيه وأخرجه بعنف من الغرفة. يضيف أيمن، “أجبرني على الجلوس في الخارج في البرد الشديد نحو ساعة، والركوع على ركبتي معصوب العينين. لم أتحمل البرد القارس”. يتابع أيمن أنه تعرض للضرب من الجنود الذين كرروا عبارة: “لكل كلب يومه”.

معتقلون عمّال ونازحون 

أثناء وجود أيمن في الساحة، كان يسمع صراخ المعتقلين حين تعرّضهم للتعذيب والضرب الشديد، وخاف أن يتعرض للتعذيب والضرب، هو الذي لا يستطيع تحملّه. وبعد نحو ساعة، حضر عدد من الجنود وأعادوه إلى غرفة الاعتقال. 

خلال الاعتقال، كان مع أيمن عدد كبير من العمال من غزة، اعتُقلوا في إسرائيل بعد 7 تشرين الأول، وعدد آخر من الذين اعتُقلوا على طريق صلاح الدين أثناء نزوحهم من غزة وشمالها  إلى جنوبها. وعلم أيمن أنه تم احتجاز معظم المعتقلين لمدة تتراوح بين 30 إلى 40 يوماً.

بعد منتصف ليلة الأربعاء 13 كانون الأول 2023، أيقظ الجنود أيمن ومن معه  من  النوم، فلاحظ أن الجنود يحملون صندوقاً فيه قيود، تبين أن فيه حاجاتهم الشخصية. وفي الأثناء، شاهد أيمن باصات مدنية، فعرف ومن معه أنه سيُطلق سراحهم. وفعلاً، تم نقلهم إلى الباصات، وربط الجنود القيود بأيديهم وأرجلهم، كما  ربط كل اثنين من المعتقلين معاً.

وفي يوم الخميس 14/12/2023، في نحو الساعة 12:00 ظهراً، تحركت الباصات من معسكر الاعتقال، ووصل أيمن ومن معه إلى معبر كرم أبو سالم، شرق مدينة رفح، نحو الساعة 5:00 . 

قص الجنود القيود من أيدي المعتقلين وأرجلهم، وأنزلوهم من الباص آمرين إياهم بالسير باتجاه الجانب الفلسطيني. لم يكن مع أيمن حينها سوى هويته الشخصيّة. 

اتصل أيمن بأفراد من عائلته بقوا في منطقة بيت لاهيا، ليبلغهم بإطلاق سراحه، وليعلم في الوقت ذاته أن أقاربه نزحوا إلى رفح، التي توجه إليها للبحث عنهم.

أيمن الآن نازح في رفح عند أقاربه، وبقيت عائلته وزوجته وأولاده الثلاثة في مشروع بيت لاهيا.

(3)

أبو محمد صديق الطفولة والنزوح

ما زالت صور اعتقال الفلسطينيين وإذلالهم في قطاع غزة تُتداول عبر وسائل التواصل الاجتماعي. الانتهاك الصارخ لحقوق الإنسان وقوانين الحرب، تبرره إسرائيل بشبهة “الانتماء الى حماس”، لتقود المعتقلين إلى معسكرات اعتقال مجهولة، يختبرون فيها أنواع التعذيب والإذلال حسب التقارير الصحافيّة، ناهيك بموت بعضهم.

لا يستطيع المعتقلون التواصل مع العالم الخارجي، إذ تمنع إدارة السجون دخول المنظمات الدولية والمحامين وأقرباء المعتقلين، ليكون مصدر الشهادة الوحيد، المعتقلين الذين أُفرج عنهم. ناهيك بتفعيل ما يسمى “قانون المقاتل غير الشرعي”، الذي يتيح إصدار أمر باحتجاز “المقاتل غير شرعي” لمدة 45 يوماً بدلاً من 7 أيام، وأن تتم المراجعة القضائية خلال 75 يوماً بدلاً من 14 يوماً، ومنع المعتقلين من لقاء محاميهم لمدة 180 يوماً. 

الشهادة التالية تمسّ الكاتب والناشط الحقوقي مصطفى ابراهيم شخصياً، كونها عن أبو محمد، صديق طفولته في المدرسة. كُتبت كلها بضمير المتكلم، وتم تحريرها وإعادة ترتيب الضمائر للضرورة الصحافية، كل ما ورد فيها من وصف وتفسيرات وإحالات وأحداث يعود إما الى مصطفى ابراهيم أو أبو محمد.

خلال الفترة الماضية، التقيت عدداً من المعتقلين الذين أفرج عنهم من معبر كرم أبو سالم. ومن خلال مشاهدتي، كانت  تظهر  عليهم حالات الإعياء والتعب والإرهاق والمرض، ناهيك بآثار الضرب الواضحة على أجسادهم، واحد منهم كان أبو محمد، الذي أُفرج عنه في اليوم الخامس للهدنة 28/11/2023.

 أبو محمد، رجل ستيني، (يعاني من إعاقة في النطق والسمع منذ الصغر)، وجاري في النزوح في رفح وزميلي في المدرسة الابتدائيّة. اعتُقل أبو محمد لمدة أسبوعين، أثناء عمله في البناء، من الشرطة الإسرائيليّة في مدينة رهط.

منذ وصول خبر اعتقاله، اتّصل ابنه الكبير الذي علم باعتقاله من أحد العمال الذين أفرج عنهم، وطلب مني المساعدة لمعرفة مكان وظروف اعتقاله، وقد فشلت جميع المحاولات للحصول على أي معلومات حول اعتقاله.

 أخبرني أبو محمد بعد إطلاق سراحه، أنه نُقل من مدينة رهط إلى معسكر للجيش الإسرائيلي في مدينة القدس، كان معه المئات من المعتقلين، غالبيتهم من العمال الذين لم يتمكنوا من العودة إلى غزة.

قال لي أبو محمد إنه بمجرد وصوله إلى مبنى السجن وهو معصوب العينين ومقيد اليدين والقدمين، وُضع في إحدى الغرف. استُدعي لاحقاً الى التحقيق في ساعات الصباح وهو مقيدٌ ومعصوب العينين.

نُقل أبو محمد بعد انتهاء التحقيق إلى ساحة خارجية، ليعاني من البرد لساعات، وهو ما زال مقيداً ومعصوب العينين. تكررت جلسات التحقيق ثلاث مرات، وتمت بالطريقة نفسها. لكن بسبب سنّه، لم يتعرض للضرب.

أخبرني أبو محمد عن ظروف الاعتقال قائلاً، إن التجربة كانت قاسية، إذ لم يتوقف الجنود عن ضرب المعتقلين. وتعرض بعضهم، بخاصة الشباب، لتعذيب، واختبروا معاملة عنيفة ولا إنسانية.

يضيف أبو محمد أن “الغرف” كانت مُكتظّة بالمعتقلين الذين ناموا مُلتصقين ببعضهم البعض، وخُصصت لكل معتقل بطانية واحدة، ولم يوفروا  لهم ملابس. كما حصل كل معتقل على أربعة سجائر، وثلاث وجبات طعام، لكن الكميّة لم تكن كافية.

حُرم المعتقلون من الاتصال الخارجي، ولم يعرف ذووهم أماكن احتجازهم، ومُنع التواصل مع المؤسسات الحقوقية الإسرائيلية والفلسطينية، وكذلك اللجنة الدولية للصليب الأحمر.

فجر اليوم الخامس للهدنة، علم المعتقلون أنه سيتم الإفراج عنهم، فعُصبت أعينهم وقُيِّدت أيديهم الى الخلف، كما قُيدت أرجل كل اثنين مع بعضهما البعض. 

ثلاث ساعات كان طول الرحلة من القدس  إلى معبر كرم أبو سالم التجاري جنوب شرقي رفح، بالقرب من معبر رفح، وفي الباص لم يتوقف الجنود عن الاعتداء بالضرب والسب والشتم على المعتقلين.

أبو محمد الآن لا يستطيع العمل، ولا العودة إلى منزله، هو زميلي في النزوح في رفح، وانتظار انتهاء الحرب.

(4) 

رحلة طالبة نحو سجن الدامون

ما زالت صور اعتقال الفلسطينيين وإذلالهم في قطاع غزة تُتداول عبر وسائل التواصل الاجتماعي. الانتهاك الصارخ لحقوق الإنسان وقوانين الحرب، تبرره إسرائيل بشبهة “الانتماء الى حماس”، لتقود المعتقلين إلى معسكرات اعتقال مجهولة، يختبرون فيها أنواع التعذيب والإذلال حسب التقارير الصحافيّة، ناهيك بموت بعضهم.

لا يستطيع المعتقلون التواصل مع العالم الخارجي، إذ تمنع إدارة السجون دخول المنظمات الدولية والمحامين وأقرباء المعتقلين، ليكون مصدر الشهادة الوحيد، المعتقلين الذين أُفرج عنهم. ناهيك بتفعيل ما يسمى “قانون المقاتل غير الشرعي”، الذي يتيح إصدار أمر باحتجاز “المقاتل غير شرعي” لمدة 45 يوماً بدلاً من 7 أيام، وأن تتم المراجعة القضائية خلال 75 يوماً بدلاً من 14 يوماً، ومنع المعتقلين من لقاء محاميهم لمدة 180 يوماً. 

الشهادة التالية كُتبت كلها بضمير المتكلم، وتم تحريرها وإعادة ترتيب الضمائر للضرورة الصحافية، كل ما ورد فيها من وصف وتفسيرات وإحالات وأحداث يعود إلى س.ز.

تبلغ الشابة “س. ز” من العمر 20 عاماً، من سكان معسكر جباليا (في جباليا يطلقون على المخيم اسم معسكر) طالبة طب في السنة الجامعية الثانية. بتاريخ 22/11/2023 نزحت مع عائلتها (والدتها وخالها وأختيها وشقيقها) من مخيم جباليا إلى جنوب قطاع غزة، بعد أن أجبرهم الجيش الإسرائيلي على المغادرة.

رفض والد “س.ز” مغادرة المخيم، وفي ساعات الصباح الباكر غادرت”س.ز” ومن معها المنزل، ليصلوا إلى دوار الكويتي الواقع على طريق صلاح الدين شرق حي الزيتون، حوالي الساعة العاشرة صباحاً.

 نقلتهم عربة يجرها حمار، ونزلوا قبل الوصول بنصف كيلو إلى حاجز للجيش الإسرائيلي، وساروا مشياً على الأقدام على طريق صلاح الدين قبل وادي غزة، وقبل وصولهم الحاجز شاهدت “س.ز” نحو سبع دبابات.

كانت “س.ز” تمسك بيد أختها الصغيرة (7 أعوام)، وعند وصولهم إلى الحاجز طلب الجنود الإسرائيليون من الجميع الجلوس في مكانهم، فجلس الجمعُ على الأرض نحو 20 دقيقة، بينما كانت مجموعة من الجنود ينادون على الناس بمكبر للصوت، المسافة بين الجمع والجنود نحو 300 متر.

تقول “س.ز”: “طلبوا من الجميع الوقوف رافعين بطاقات الهويات الشخصية، والنظر إلى اليسار جهة الجنود الذين يتمركزون في الجهة الشرقية لطريق صلاح الدين قبل وادي غزة بنحو كيلو متر”.

طلب الجنود من النازحين الدخول عبر الحلابات (حواجز حديدية دوارة) نحو غرفة من الحديد مفتوحة من الأعلى، ونادوا على “س.ز” التي كانت تقف في منصف الرتل الذي يحوي أمها في المقدمة، وباقي الأسرة خلفها.

نادى الجندي قائلاً: “البنت الي مش محجبة والي لابسة شالة بيضاء”، لم تظن “س.ز” أنه يناديها، كونها لم تكن تضع شالاً أبيض، فلم ترد، فخاطبها الجندي:” انتي يا حمارة انتي والي قدامك تعالي”.

 ذهبت “س.ز” باتجاههم ووقفت في طابور آخر يصطف فيه الناس، لاحظت “س.ز” جندي يقف خلف تلة من الرمل، يبعد عنهم 15 متراً، طلب الجندي منها رقم هويتها، فقالت بصوت عال، ثم أمرها بالذهاب نحو الطابور الثاني هي وأختها، ثم نادى عليها بالاسم قبل أشخاص آخرين كانوا أمامها، وقال لها أن تذهب باتجاه التلة الصغيرة.

خافت “س.ز” على أختها الصغيرة، فقالت لها أن تتجه نحو والدتها. قال لها الجندي بعدها أن تذهب لمنطقة العلم الأخضر، فمشت 4 خطوات تقريباً نحو حائط وسواتر رملية وضعوها خلفهم.

تقول “س.ز”:”كان هناك ثلاثة جنود (جنديتان وجندي) وكنت وحدي، فطلب مني رمي كل شيء في جيبي، وكنت أحمل حقيبة صغيرة فيها ذهب خاص لوالدتي، فقلت له فيها شيء ثمين، ولكنه أمرني بإلقائها”.

تضيف “س.ز”:” طلب مني الجندي أيضاً خلع الجلباب ونفضه، ثم خلع البلوزة والبنطال، وكنت ألبس أكثر من بنطال وبلوزة، ثم قالت لي المجندة البسيهم مجددا وأمرتني بالتقدم تجاههم، وعصبت عيني بقطعة من القماش وتقييد يدي للأمام بقيود بلاستيكية”.

أمسكت المجندة “س.ز” من ذراعها وسارت بها تجاه طاولة، وأجبرتها التوقيع على ورقة وهي مغمضة العينين، ووقفت للحظات ثم دفعتها للجلوس على كرسي، تقول “س.ز”:”سألني شخص يتحدث العربية، ما اسمك وعمرك، وقال لي عائلتك بعد 500 متر أوقفناهم وأخذناهم، وسألني عن تخصصي في الجامعة، وفي أي سنة واسم والدي ووالدتي ومهنتهم”.

سألها الشخص الذي يتحدث العربيّة إن كانت تعرف أحداً ينتمي لحركة حماس من أقاربها، فأجبت أنها لا تعرف، ثم سألها عن مكان المختطفين الإسرائيليين، فقالت أيضاً أنها لا تعرف، ثم سألها عن عدد أخوتها فأجابته. 

قال الرجل أنه سيسألها بعض الأسئلة على جهاز كشف الكذب، تصف “س.ز” ما حصل بعدها قائلة “كنت حينها جالسة على الكرسي ومعصوبة العينين، فأخذني وأجلسني على الرمل، ونظرت من تحت العصبة، فرأيت فتاة تجلس مواجهةً لي، علمت لاحقا اسمها”.

سمعت “س.ز” صوت مجندات ومعهن فتاة، ثم اقتادوهن مشياً لدقيقة، ثم أجلسوهن مجددا على الرمال، وكان مع “س.ز” فتاتان علمت بوجودهما من خلال السمع والنظر من تحت العصبة.

تقول “س.ز”:”خلال جلوسنا على الرمال كنا نسمع صراخ رجال نتيجة تعرضهم للضرب الشديد. أحضروا بعدها فتيات أخريات، إلى أن أصبح عددنا ست فتيات، واقتادونا إلى سيارة جيب، وكان الوقت تقريباً عصراً، وأحضروا لنا ماء، وكان الطقس بارداً جداً، فطلبت إحدى الفتيات (حرام) بطانية، فرفض الجنود إعطاءها إياها”.

تقول “س.ز” أنهم ضعوا على أيديهن “جلدة بلاستيكية” مكتوب عليها رقم 12، ومع ساعات المساء ودخول الليل حملن بعنف إلى الجيبات، تصف “س.ز” ذلك “رفعني أحدهم بقوة من الكتفين من الخلف، وألقى بي في الجيب، ولا أعلم إن كان جندي أو مجندة، وسارت فينا السيارة نحو نصف ساعة. لاحظت اتصال الجيب بعربة أخرى فيها معتقلون رجال، علمت ذلك من صراخ أحدهم بأن يده تؤلمه”.

تقول “س.ز” أنهم نزلوا من الجيب بعد نصف ساعة تضيف:”كنا نسمع صوت صفارات إنذار واشتباكات، ولا أعلم أين هذا المكان، ولكن أعتقد أنه على حدود غزة الشرقية”.

أُجلست “س.ز” ومن معها على بطانية مفروشة على أرض مليئة بالحصى، ثم طلب منهن الجنود خلع أحذيتهن، وكن طوال الوقت معصوبات الأعين ومكبلات اليدين بقيود بلاستيكية.

تضيف “س.ز” أن فتاتين طلبتا الذهاب للحمام، فرفض الجنود فعلمت بعد ذلك أنهن قضوا حاجتهن في الخلاء. طلبت المعتقلات بطانية، فأعطوهن واحدة فقط، وكانت خفيفة، فطلبن بطانية أخرى، لكن جوبه طلبهن بالرفض، في حين حصلن على الماء حين طلبنه.

تقول “س.ز”: “كانت بجانبي فتاة تصرخ وتعاني آلام في البطن، ومن شدة الصراخ أحضروا لها طبيب، وأنا كنت أترجم للطبيب، قالت الفتاة للطبيب بأنها تشعر وكأنها أجهضت، إذ كانت حامل في الشهر الثاني، فقال لها الطبيب أن تتمدد على الأرض، فتمددنا بجانبها، ولم يقدم لها أي شيء”.

ترك الجنود “س.ز” ومن معها لينمن على الحصى، وهن مقيدات الأيدي

ومعصوبات الأعين، تقول “س.ز” أنهن بسبب البرد كان النوم يجافيهنّ، وقبل الفجر استيقظ “س.ز” ونظرت من تحت العصبة لتدرك أنهن في خيمة مفتوحة من الأمام.

بعد طلوع الشمس الساعة السادسة جاء الجنود، وأوقفوا المعتقلات في طابور، وكن ست فتيات، وأخذوهن إلى باص سار بهنّ حتى الظهر تقريباً، بعدها أنزلهنّ في مكان علمت “س.ز” لاحقاً، أن اسمهالعنتوت، ثم أدخلوهن من بوابة، وأجلسوهن على أرض مفروشة بالحصى وحولهن شباك حديدي.

تقول “س.ز” “جلسنا لـ20 دقيقة تقريباً، ثم أدخلونا مكان يوجد فيه مجندات فقط، نحو 7 مجندات، فكوا العصبة عن عيوننا والقيود، وطلبت المجندات أن نغير ملابسنا، ونرتدي بلوزة وبنطال أعطونا إياها، مكتوب على الكنزة بالحروف العبرية حرف (غ)، ثم طلبن منا نزع الشال عن رؤوسنا. فطلبنا منهن أن نرجع ونلبس الحجاب، فقالت المجندات ممنوع”.

تقول “س.ز”:” كنت أرتدي أسوارتين وسنسال ومعي 700 دينار أردني، أخذوهم مني وجعلوني أوقع على أوراق مكتوب عليها بالعبرية لم أفهم ماهيتها، ولم تترجم لي، ولم يشرح لي محتواها، ثم أخذوا صورة شخصية لي بالجوال وأنا بدون حجاب”.

(5)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى