منوعات

بكر أبو بكر: الصديق كفاية ومسرّة وكتف

بكر أبو بكر 24-6-2023: الصديق كفاية ومسرّة وكتف

الصديقُ من صدّقك لا من صَدّقك، والرفيقُ قبل الطريق، والصديقُ هو معنى القُرب لك نفسيًا وعقليًا وفي المشاعر والاهتمامات المتبادلة، والصديقُ نطاقُ حماية لك حين وقوع الأزمات، فهو موجود عندما تحتاجه ويعطيك الدعم والقوة والبِشر والأمل.

الصديقُ يمنحك المحبةَ والتعاطف بلا أي مقابل مادي أبدًا، وهو القادرُ على التفهم والتسامح والصفح والمغفرة.

الصديق قادرٌ على أن يسحبك من مساحة التذمر أو الشكوى أو الشعور بالظلم أو المصيبة أوالألم الفظيع الى مساحة الاعتدال ثم التفاؤل أو الإيجابية والإقبال، الصديقُ لا يمنع بل يمنحك الأمل بالتقدم ويمنحك الشعور بالقوة ومعها شعورٌ غامر منك ومنه بالاحتضان و بالراحة.

في الصداقة صِدقٌ متبادل، وثقةٌ تراكمت عبر السنين كالجبال، وفيها انفتاح وصراحة، وفيها لذةٌ وراحة ومن العناء استراحة.

في الصداقة أبوابٌ مشرعة لا تُقفل، ونوافذ حين انغلاق الأبواب لسبب أو آخر، تظل مفتوحة.

والمرءُ كما قال سيد الخلق (على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل/يصادق)، فيُحسن التخيّر ويُحسن الظن، ويقدّم ليلقى في معادلة المساهمات والعائدات في منطقة المصداقية والثقة التبادلية.

في الصداقة عواطفٌ لطيفة نبيلة جميلة تتدفق بسلاسة الجداول الرقراقة، ومشاعرٌ أصيلة خالصة نقية لم تلوثها تقلبات الحياة ووعثاء السفر عبر الزمن أو المكان، أومستوى العِلم أوالغِنى أو الوجاهة أ، كما لم يلوثها اختلاف المركز، أو الموقع أو المنصب بين الأصدقاء فهي تشتمل على خلاصة مشاعر الصدق وأصل الثقة واستدامتها.

يقول كُثير عزة: وَلَيسَ خَليلي بِالمَلولِ وَلا الَّذي* إِذا غبتُ عَنهُ باعَني بِخَليلِ

وَلَكِن خَليلي مَن يَدومُ وِصالُهُ*وَيَحفَظُ سِرّي عِندَ كُلِّ دَخيلِ

في الصداقة عقولٌ تتجاذب الأفكار وتتمازج في ذات البوتقة الحاضنة. وفي الصداقة حاجة اجتماعية وحاجة نفسية للمشاركة وللتنفيس (والحكي) وأيضًا للشعور بالقرب والألفة، وهدأة النفس.

يمكن استثمار الصداقات في بناء الأفكار الموحدة أو المتقاربة أو الانتماءات المشتركة، ومنها بالانتماء للفكرة أو القضية أو التنظيم المجتمعي أو الرياضي أو الثقافي أو الفني وبالطبع منه السياسي. أو سوى ذلك من اتجاهات وحاجات ورغبات وتفضيلات.

أنا لا أؤمن أن الصديق هو مستودع الأسرار كما يقولون، أقصد كل الأسرار، وإن كنت أؤمن بالانفتاح مع الأصدقاء، فالسرُ المكينُ الذي تداوله قد يؤذي الصديق نفسه يجب ألا يُذكر له أولغيره بتاتاً.

الصديقُ الملول ليس بصديق والصديق دائم الجفاء ليس بصديق، والمتكلّف ليس بصديق، والكذّاب والحرباء الذي يتلون في ودّه ليس بصديق أيَضًا كما قال الإمام الشافعي

إِذا المَرءُ لا يَرعاكَ إِلّا تَكَلُّفاً*فَدَعهُ وَلا تُكثِر عَلَيهِ التَأَسُّفا

 ويقول السياسي والشاعر محمود سامي البارودي أن الصديق هو الذي له من الصفات الجميلة الكثير، فهو معك دومًا في الهمّ وحين تغيّر صروف الدهر، ويرعاك في القرب والبعد ويظل خيرُه متصلًا، وما هو بذاك الحاقد أبدًا، فالصديق لا يتخابث ولا يحقد ولا يذم ولا يخذل ولا يكذب. 

 أنت مع الصديق تفهم الحدود، وقد تكونوا استدليتم عليها مع طول المعاشرة والمجالسة والصحبة، وتفهم معنى المساحات غير المتقاطعة، فإن تقاطعتم بمساحة أو أكثر وهذا مهم حيث تجد فيها التوجهات أوالاهتمامات المشتركة، أو التوجهات المتقاربة فإن لكل منكما مساحات أخرى هي خاصة بكل منكما. فلا تكن لحوحًا ولا تكن متطلبًا هنا، ولا تزعج الآخر باختراق مساحته الخاصة (المقصود تلك بينه وبين نفسه والتي يراها حصنه الشخصي) أبدًا.

الصديقُ يقبلك على ما أنت فيه، (بعجرك وبجرك كما يقول المثل الشعبي) حتى إن اختلفتم بالأفكار والرؤى أحيانًا. فإن كنت مخطئًا يحاول أن يفهمك، ويتفكر من وجهة نظرك. أو يصدقك القول والنصح ولكن بلا ضغط أو قسر أو قسوة وجفاء.

قال جبران عن الصديق: (صديقُك هو كفايةُ حاجاتِك، فهو حقلُك الذي تزرعُه بالمحبّة وتحصدُه بالشكر، هو مائدتُك وموقدُك، لأنّك تأتي إليه جائعًا، وتسعى وراءه مستدفئًا…).

إن كنت تتقدم على صديقك في أي مساحة (أو العكس) طلَب هو من الله لك المزيد من التقدم والتطور،  فلم يحسد أو ينظر لك بعين الشرّ بتاتًا، دون أن يشعر بالغيرة أوالحسد أوالنقصان.

الصديق ثابتٌ بلون التراب، لا يتلّون لأن المتلوّن عنوانه المصلحة الذاتية ومدخله قلبك حتى انتفاء المصلحة، فإن انقَضَت نكَصَ على عقبيه (ولا خير في ودّ إمرء متلون إذا الريحُ مالت مال حيث تميل).  

يقول ابن المقفع عن الصديق في رائعته الدرة اليتيمة: “أن الصديق ليس بينك وبينه قاضٍ؛ فإنما حُكمه رضاه.” ما أجملها من عبارة حكيم، حيث حُكم الصديق رضاهُ عنك.

ويقول لا فض فوه: “وَطِّنْ نَفْسَك على أنه لا سبيل لك إلى قطيعة أخيك، وإن ظهر لك منه ما تكره؛ …أنه عرضك ومروءتك؛ فإنما مروءة الرجل إخوانُهُ وأخدانه؛ فإن عثر الناس على أنك قطعت رجلًا من إخوانك، وإن كُنتَ مُعْذِرًا نزل ذلك عند أكثرهم بمنزلة الخيانة للإخاء والملال، وإن أنتَ صَبَرْت مع ذلك على مُقَارَّته على غير الرضا، عاد ذَلكَ إلى العَيْبِ والنَّقيصَةِ، فالاتئادَ الاتئادَ والتثبتَ التثبتَ.”

في الصديق تجدُ المسرّة والبهجة والسعادة حيث تحسّ بقربه أن الأحمال قد زالت رغم ثقلها المادي أو النفسي الكبير.

في القرب من الصديق شعور أصيل بالمشاركة ما هو نقيض الشعور بالوحدة أو العزلة أوالاغتراب، فأفكاري الخاصة –وربما الخاصة جدًا- لا امتلكها لوحدي ولا أبثها عبرالشابكة (فقط) ويضعون لي عليها الاعجابات والمشاركات والأشكال التعبيرية تحفيزًا للسعادة الوقتية، وإنما أتشاركها بالعالم الواقعي، وليس الافتراضي مع الصديق الأنيس، والجليس النديم المجاور لي. إنه بكل بساطة موجود. الصديق موجود فيزيائيًا، وبمساحة أفكاري وفي قلبي حيث له الاعتبار.

لا يمكن النظر الى ما تسمى (الصداقات) على الشابكة (انترنت) أنها صداقة حقيقية أبدًا، ولكنها قد تكون مقدمة لها، لأن الصديق (الحقيقي) يزورك بالبيت، أو في مكان العمل، أو مكان التواجد المشترك، أو بالمكان المتفق عليه بينكما أيّ كان بالواقع/فيزيائيًا.

تنشأ الصداقات منذ الصغر في الحيّ (الحارة) والمدرسة، والجماعة (المنظمة، الفريق، النادي..) وفي الجامعة والكلية، وتنشأ في أطر العطاء التطوعي الثقافي أو الفكري أو الفني أو الوطني، أو الأدبي أو الرياضي…. وفي المؤسسات، كما في أطر النضال الثوري وفي المعتقلات، وحيث نتشارك الأعمال والوظائف والمهمات والإنجازات التي نقوم بها معًا.

 الصديق يحضنك ويربتُ على كتفك تمامًا كالحبيب، ويبتسم بوجهك ما لا يمكن أن تحصل عليه عبر الشابكة (انترنت) حتى بالمحادثة بالصوت والصورة، فتدفق المشاعر ووصولها نقية طليَة غنيّة إليك لا يتم إلا باللقاء المباشر وتقارب الأجساد والأنفاس وبلقاء الأرواح التي تحفّ بكم حين اللقاء ما يظهر في قسمات الوجوه وانبساطها أو تغضنها. وكما قال الكاتب الروسي الشهير دوستويفسكي عندما اعتبر تجلّي الروح على صفحة الوجه هو المغنّم، ما لا تحققه المراسلة عبر البريد العادي آنذاك، وذلك قبل سنين طويلة من العالم الافتراضي.

أنت لا تحكم على صديقك حتى لو أخطأ لمرة ضدك، فإن اعتبرته صديق وهذا مكتسب من طول العشرة فعليك التماس العذر له، تفهمه، مراجعته، سؤاله، مسامحته، وكيف لا تفعل ذلك وهو الملجأ والمغنم.

إن الصديق شريك الذكريات الطويلة، وهو انعكاس ذاتك أو جزء منها. وهو الذي تستمع وتشعر بحلاوة رفقته دومًا ويشعرك بالراحة والسعادة دون تكلف.

في حالة أخرى ربما أعتقد بصحة وجودها هي إمكانية أن تتشارك مع صديق ما (عرفته فيزيائيا والتقيتُه) في مساحة ثالثة ليست الفيزيائية/على أرض الواقع، وليست الافتراضية الرقمية وإنما في مساحة الأرواح الهائمة (الأرواحُ جنود مجندة…) وهذا شكل عجيب وجميل يمكنه أن يقطع المسافات الكثيرة بسرعة البرق! لكنه بالحقيقة موجود وهو ما يطلق عليه بديننا الحنيف الحبُ بالله أو الصداقة بالله، أوما قد يفهمه الصوفيون بنقاء الفهم لمعنى الأرواح المتقابلة.

في العلاقة الروحية بينك والخالق، وبينك وذاتك حوار ذاتي متصل، وتفكّر وتأمل صامت متواصل مثابر لا ينقطع، وفيه جهادٌ ونضالٌ وصراع داخلي، وفيه تزكية للنفس كما يقول علماء المسلمين، فالنفس الزكية هي الطاهرة وهي التي (قد أفلح من زكّاها) بنص الآية الكريمة، أي طهّرها إثر خوضه نضاله وصراعه الداخلي وانتصر فاستحق الفلاح.

إن في هذا جهاد داخلي عميق، وحين تحقق الفوز فيه تعكسه خارجيًا بالجهاد الخارجي بأن تشاركه مع المقربين من الأحباب والأصدقاء.

أن أسوا البلاد هو البلد الذي لا يكون لك فيه صديق، كما ان أسوا ما تكتسبه كانسان هو ما يصِمك ويعيبك ويشينك من أفعال أو أقوال شريرة أو مؤذية أو وفق نص بيت المتنبي شاغل الدنيا والناس:

شرُّ البلادِ مكانٌ لا صديقَ بهِ        وشرُّ ما يَكسِبُ الإنسانُ ما يَصِمُ.

 

في العلاقات والاتصالات الانسانية الحقيقية نجد نقاط ثلاثة بارزة هي تبادلية: الاحترام والاهتمام وحُسن الاستماع، وهي ذات أهمية أكبر بالصداقة، فمتى فُقد الاحترام ضاعت الثقة، ومتى فقِد الإصغاء انتهت الصداقة، وبلا اهتمام متبادل لا صداقة أصلًا.

 

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى