أقلام وأراء

نهاد أبو غوش: الوحش الذي ربّته إسرائيل ينقلب عليها

نهاد أبو غوش 2023-08-02: الوحش الذي ربّته إسرائيل ينقلب عليها

للأسبوع الثلاثين على التوالي، أي منذ بداية حكومة اليمين المتطرف ومطلع العام 2023 تقريبا، يواصل عشرات آلاف الإسرائيليين الاحتجاج في الشوارع والميادين الرئيسية في المدن رفضا لخطط حكومتهم بإجراء التعديلات القضائية التي يسميها خصومها “الانقلاب القضائي” وترمي من ضمن أهدافها إلى تقليص صلاحيات السلطة القضائية وبخاصة المحكمة العليا، وتشديد هيمنة الحكومة وأغلبيتها البرلمانية على الحياة السياسية وهو ما يعتبره كثيرون خطرا على “الديمقراطية” الإسرائيلية، وما يرتبط بها من استقلال القضاء وهوامش لعلمانية الدولة وحرية التعبير والحقوق المدنية.

دخلت الأزمة الداخلية في إسرائيل منعطفا جديدا بعد إقرار قانون “تقليص حجة المعقولية”، ليثُبت ذلك تصميم حكومة ائتلاف اليمين واليمين المتطرف على المضي في خطتها حتى النهاية دون أدنى اهتمام براي المحتجين الذين يشكلون ما لا يقل عن نصف المجتمع الإسرائيلي، كما صمّت حكومة بنيامين نتنياهو آذانها عن نداءات الحوار ودعوات التوافق، ونصائح أقرب أصدقاء إسرائيل في الولايات المتحدة وأوروبا.

وهكذا يبدو جليا أن الأزمة لا تقتصر على صراع بين ائتلاف حكومي وأحزاب المعارضة، أو بين يمين ويسار، بل هي أزمة شاملة باتت تتعمق وتستفحل أفقيا وعموديا، بحيث خرجت معها من تحت السطح إلى الواجهة كل التناقضات العرقية والإثنية والمذهبية والاجتماعية: بين يهود شرقيين وغربيين، وبين المتدينين المتزمتين والعلمانيين، وبين المحافظين والليبراليين، وكذلك بين المستوطنين ومن ماثلهم في توجهاتهم الأيديولوجية التي تتبنى فكر وممارسات “الصهيونية الدينية” من جهة وبين سكان مدن الداخل الكبرى، ويمكن إضافة التناقضات بين الطبقات الوسطى والنخب في إسرائيل وبين الشرائح الأقل حظا التي كانت وما زالت ميدانا لتحريض اليمين المتطرف. كل ذلك خلافا للتناقض الأهم بين الإسرائيليين اليهود وبين من بقي على أرضه من الفلسطينيين العرب الذين فرضت عليهم الجنسية الإسرائيلية عنوة بعد العام 1948 ولكنهم ما زالوا يحتفظون بهويتهم الوطنية وانتمائهم القومي ولغتهم وأحزابهم وحركاتهم السياسية، وهم يشكلون الآن نحو 20% من سكان دولة إسرائيل (16% من اصحاب حق الاقتراع بسبب التكوين العمري).

صحيح أن ثمة عوامل اقتصادية وسياسية وثقافية، وتعبئة عنصرية عززت الشعور الجمعي بالخطر فساهمت في تقليص أثر التناقضات الداخلية، وتهميشها لصالح ما يسمى الخطر الوجودي في مواجهة أعداء يحيطون بإسرائيل من كل جانب، لكن التناقضات ظلت كامنة وتتفاعل تحت السطح. ثم إن السياسات الإسرائيلية عينها هي التي دفعت إلى تأجيج هذه التناقضات وبروزها لدى وصول ائتلاف اليمين المتطرف إلى الحكم، فكان المشروع السياسي والاجتماعي لهذا اليمين الفاشي سببا لاندلاع كل هذه المعارضة لسياسات الحكومة.

تضم موجة الاحتجاجات في صفوفها عددا كبيرا من الأسماء القيادية المعروفة التي شغلت مناصب في رأس السلم السياسي والعسكري، بعضهم ناهز السبعين من عمره وما زال يرابط في مراكز التظاهرات، ومن بين هؤلاء عدد من رؤساء الوزراء السابقين مثل إيهود باراك وإيهود أولمرت ونفتالي بينيت ويائير لابيد، إلى المئات من الوزراء وأعضاء الكنيست، ورؤساء أركان الجيش وقادة المخابرات والاستخبارات وأسلحة الجو والبحر والقوات البرية، وعلماء الذرة فضلا عن رؤساء النقابات والأكاديميين والفنانين والمثقفين وقادة الراي وأرباب العمل ومدراء الشركات. بعض تلك الشخصيات البارزة مثل يوفال ديسكين رئيس جهاز الشاباك السابق صورته الكاميرات وهو يتعرض للأذى المباشر وعنف رجال الشرطة، وغيره تعرضوا للرشّ المهين بواسطة خراطيم المياه العادمة وسائر أشكال الضرب والركل والدفش والجرّ العنيف إلى درجة السحل.

يمكن ببساطة إذن العثور وسط هؤلاء المحتجين على عدد لا يستهان به من مجرمي الحرب الذين كانوا يصدرون الأوامر أو نفذوا بأنفسهم طلعات جوية لقصف بنايات سكنية في قطاع غزة وتدميرها على رؤوس ساكنيها، ومنهم من قرروا أو تولوا بشكل شخصي تنفيذ عمليات اغتيال طالت صحفيين وطلاب مدارس وناشطين سياسيين فلسطينيين، وبينهم بالكبع من صمموا وهندسوا ونفذوا نظام الفصل والتمييز العنصري المرافق لنظام الاحتلال الكولونيالي غير المسبوق لفلسطين وشعبها.

كيف إذن يستقيم حديث هؤلاء عن الديمقراطية والنزاهة وسلطة القانون مع ماضيهم الإجرامي الذي كان متفلتا من كل الضوابط والقوانين؟ ليس من الصعب العثور على الجواب، فتلك الديمقراطية والقيم الإنسانية التي يتغنون بها هي حقوق حصرية باليهود الإسرائيليين، أما الفلسطينيون فهم مواطنون من الدرجة الثانية في أحسن الأحوال، بل هم في نظر قادة إسرائيل ليسوا مواطنين أصلا، هم سكان وجدوا هنا بالصدفة، ولا شأن لهم بهذا النظام السياسي على الإطلاق.

ربما هُيِّئ لهؤلاء الضباط والقادة أن في وسعهم ارتكاب جرائم الحرب صباحا، ثم ممارسة حياتهم الطبيعية مساء، فيسهرون ويرقصون ويشاهدون المباريات الرياضية والسينما ويحضرون الحفلات الموسيقية، ويهتمون بالآداب وفنون الطبخ، ويعتنون بالبيئة والتنوع الحيوي، ويطورون هواياتاهم وهوايات أبنائهم في سياحة المغامرات والاستكشاف، أي باختصار يعيشون حياتهم كليبراليين وحداثيين دون أن يعكر صفوهم أي شعور بالتناقض أو تأنيب الضمير لاستباحتهم حياة سكان البلاد الأصلانيين وحقوقهم. فالفلسطيني في نهاية المطاف في رأي قادة الاحتجاج كما في رأي اقطاب الحكومة هم عقارب وصراصير كما صورهم الحاخام الأكبر عوفاديا يوسف أكبر مرجعيات اليهود الشرقيين والأب الروحي لحزب (شاس) قبل نحو عقدين، أو بلغة العلمانيين المنمقة هم مشكلة، سواء كانت إنسانية أو ديمغرافية أو إرهابية.

يرى معظم الدارسين أن العنف الوحشي الذي تمارسه دولة الاحتلال الآن ليس اختراعا حديثا، بل هو نهج مرافق للحركة الصهيونية منذ نشأتها، وقد تبدى بشكل صارخ خلال الأحداث التي رافقت النكبة وشملت ارتكاب عشرات المجازر والمذابح على غرار مذابح دير ياسين والطنطورة والدوايمة، ويعترف مناحيم بيغين رئيس الوزراء الأسبق والزعيم التاريخي لحزب الليكود أنه “لولا دير ياسين لما قامت دولة إسرائيل”، وقد ظل اللجوء للمجازر باعتبارها أدوات مقبولة لتحقيق أهداف السياسة الإسرائيلية قائما طيلة العقود اللاحقة للنكبة، وهكذا نفذت إسرائيل مجازر قبية وكفر قاسم وخانيونس والسموع ثم مدرسة بحر البقر ومذابح الأسرى المصريين، وكفر أسد (الأردن) وقانا (لبنان) وصولا إلى المجازر الحالية في غزة وجنين ونابلس.

هذا العنف تجاه الآخر الفلسطيني أو العربي تمأسس، وصار سمة سلوكية وثقافية لممارسيه ومؤيديه، فالآخر هو شر مطلق وعدو، إما مخرب حاقد أو عامل في المهن الدنيا، ليست له حقوق سياسية، ولا يستحق حتى بعض الحقوق الإنسانية مثل حرية التنقل والسفر والحصول على نصيب عادل من المياه التي هي مياهه اصلا، هذه السياسات ليست اختراعا إسرائيليا بل هي سلوك استعماري مألوف عرفته معظم الدول الاستعمارية الأوروبية، لكن الفارق يكمن في التوقيت وفي محاولة إسرائيل دائما تقمص دور الضحية وتصوير جرائمها وكأنها وسائل ضرورية لتجنب كارثة مشابهة للمحرقة.

السلوك الإجرامي وجد له غطاء سياسيا وقانونيا يبرره، فالكنيست تُشرّع القوانين التمييزية، والحكومة تسبغ صفات الطهرانية على جيشها وهذا الأخير يحمي ضباطه وجنوده من أي مساءلة ويبرر كل جريمة. ترجم كل ذلك بقوانين وتعليمات وأنظمة تسهل إطلاق النار على الفلسطيني لمجرد كونه فلسطينيا، ولأي سبب يراه الإسرائيلي سواء كان جنديا أو مستوطنا أو مدنيا عاديا، كلما رأى في سلوك الفلسطيني أو في هيأته وملامحه ما يريبه.

تحذيرات بعض السياسيين المتنورين والأكاديميين ذهبت سدى،. “الاحتلال يفسد” شعار رفعه هؤلاء وقصدهم أن الاحتلال لا يفسد حياة الفلسطينيين فقط بل يفسد الإسرائيليين أنفسهم. فممارسة العنف تجاه الآخر واستلاب حقه في الحياة واستباحة أرضه وحقوقه لا بد أن تنقلب يوما على ممارسي العنف في محيطهم الأقرب، فينقلون العنف إلى أبناء جلدتهم وحتى على زوجاتهم وعائلاتهم، وهكذا فإن العنف الذي ربته المؤسسة الإسرائيلية الرسمية في الإسرائيلي العادي خلق فيه وحشا تجاه الآخر المختلف عنه عرقيا وقوميا، لكن الوحش نما وترعرع مع استمرار الاحتلال وصار مهيئا لممارسة العنف تجاه من يختلف معه في الرأي أو الميول السياسية والفكرية، وصار محركا لفرض نظام استبدادي يضيق بهوامش الديمقراطية ويتحرر من كل القيود التي كان يمكن لها أن تكبح جرائمه بحق الفلسطينيين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى