أقلام وأراء

نبيل عمرو يكتب – تونس .. لننتظر قليلا قبل الحكم ..!

نبيل عمرو 7-8-2021م

الاجراءات الجراحية التي نفذها الرئيس التونسي قيس سعيد، بدت مفاجئة. ومنذ اللحظات الاولى انقسم القوم حيالها، غالبية شعبية رحبت بها معتبرة اياها خشبة خلاص من وضع متدهور لم يسبق لتونس ان واجهت مثله منذ الاستقلال، وقوى سياسية اهمها حزب النهضة «قبل النقد الذاتي» ذهب الى تقويم مناقض اذ اعتبرها انقلاباً وهدد بانزال التونسيين الى الشوارع، لانقاذ الديموقراطية.

المفاجأة التي قلبت الحسابات ولا بد وان تؤثر على الخلاصات كانت التراجع السريع من جانب حزب النهضة عن وصف ما حدث على انه انقلاب والانتقال الى النقيض حين اعتبر الاجراءات الجراحية فرصة للاصلاح والانقاذ، فبدا حزب النهضة بتسرعه كمن اطلق النار دون ان يسدد، وحين اصابت الطلقات قدميه ذهب الى اتجاه معاكس.

الرئيس قيس سعيد، نُظر اليه كظاهرة اختلفت عن كل من سبقها من رؤساء تونس، حيث هبط الاكاديمي على الحياة السياسية كنيزك مفاجىء، وانجز ما لم ينجزه غيره حتى على مستوى العالم اذ اقترنت به مقولة صاحب اعلى الاصوات بأقل النفقات، غير ان الرئيس التونسي هذا حين وصل الى قصر قرطاج البورقيبي وجد نفسه وقد ادخلته الحياة السياسية في بلاده الى سباق حواجز يقطع الانفاس، فإذا بالاصوات الكثيرة تبدو قليلة الفاعلية امام كثرة القوى المنخرطة في صراع نفوذ هو الاكثر حدة والاقل ضوابط.

كان في زمن البورقيبية صراع داخل الحزب الواحد والنظام الواحد، الى ان تغير الامر كليا بعد واقعة البوعزيزي، اذ صار صراعا خارج الوعاء التقليدي واضحت تونس مطلقة اول شرارة في الربيع العربي هي اول ضحاياه، فبعد التخلص من الراحل زين العابدين بن علي دخلت البلاد مجموعة انفاق لم يسبق ان دخلتها من قبل فتوقفت التنمية وتضاءلت المداخيل وكان ان دخل الى المسرح التونسي منافس قوي. كان عهد بورقيبة – زين العابدين قد حجمه تماما، فإذا به يقتحم الحياة التونسية ليس كمعارض وانما كبديل لا تفصله سوى فجوة قصيرة ليحكم.

الازدواجية التي ارهقت البلاد والعباد تجسدت في مفارقة ان اعلى الاصوات البرلمانية حصل عليها الحزب الطامح الى الاستفراد بالحكم، اما الاصوات الرئاسية فحصل عليها رجل مفاجئ اتى به الناس البسطاء لكونه الاكثر شبها بهم، وحالة كهذه يملك فيها رأس الدولة اصوات البسطاء ويملك فيها البديل اصوات وامكانيات حزب هو الاكثر تنظيما وقدرة، فلا مناص من ان تنشأ ظاهرة الرأسين في الحكم لتدفع البلاد اثمانا باهظة لهذه الظاهرة دخولا مأساويا في متاهات حكم يتفرغ اقطابه الى اقتتالهم اليومي مع فقدان الفاعلية في قيادة بلد افتقر الى نظام حكم منسجم ومستقر.

والان.. خسر حزب النهضة كثيراً في التسرع باطلاق النار حتى اصاب قدميه وخسر كذلك بالانتقال من وصف جراحة قيس سعيد على انها انقلاب ثم انتقل الى النقيض، وخسر أكثر على صعيد البنية اذ اشتعل صراع داخلي بين اجنحة الحزب واقطابه وقاعدته، الا ان الخسارة الافدح كانت على صعيد بقايا المصداقية التي امنت له الاصوات البرلمانية فليس موضوعيا ولا منطقيا ان يعود بعد كل ما فعل الى سابق عهده كحزب اول في البلاد، غير ان خسارة حزب النهضة لا تعني بالضرورة فوزاً تلقائيا ونهائيا للرئيس قيس اسعيد، ذلك ان الامر اكثر تعقيدا من ان ينظر اليه كمبارزة ملاكمة بين لاعبين يخرج منها منتصر ومهزوم، ففي امر السياسية والحكم تكون الامور غير ذلك تماما.

لهذا فإن الرئيس قيس اسعيد الاعزل عن حزب قوي يدعمه ويعمل من اجله دخل بعد كل ما فعل الى امتحان قدرة وجدارة، الحكم الحاسم فيها هو الرأي العام التونسي الذي يقيس النجاح او الفشل بمقياس هو الابسط والاصعب في ذات الوقت، الابسط يوفره البسطاء الذين يهمهم ان يكون رئيسهم شبيها بهم وحاملا همومهم وتطلعاتهم، والاصعب ان يلمس هؤلاء البسطاء والذين لا تخلو بساطتهم من ذكاء ودهاء ما تحقق لهم من انجازات تنقلهم من الواقع المرير الذي فرض عليهم الى واقع جديد يستعيدون فيه على الاقل ما فقدوه من مزايا، واملهم بأن يكون الغد افضل.

حتى الان يبدو الجانب الاخلاقي مهما كثيرا في امر تقويم الرئيس التونسي صاحب اعلى الاصوات، غير انه يصبح عديم الجدوى وعرضة للتلاشي ان لم يقترن بإنجازات ملموسة.. لننتظر قليلا لنرى دون انكار ان المقدمات البطيئة ما تزال تبدو واعدة، وفي عصرنا عصر الكورونا والارهاب والضائقات الاقتصادية ينبغي ان لا يطول الانتظار..

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى