أقلام وأراء

مختار الدبابي: هجوم جربة واختبار قيس سعيد

مختار الدبابي 14-5-2023: هجوم جربة واختبار قيس سعيد

بقطع النظر عن الجهة التي نفذت هجوم جربة (جنوب شرق تونس)، ذئبا منفردا، تيارا متشددا، أو أيادي حزبية، فإن نتيجته كان يراد لها وضع الرئيس التونسي قيس سعيد موضوع اختبار شديد. فلم يسبق له منذ 25 يوليو 2021 أن واجه تحديا أمنيا بهذا الحجم، وفي مناسبة حساسة سياسيا ودبلوماسيا ودينيا.وليس هناك شك في أن التحرك هدف إلى إرباك الرئيس سعيد والتشكيك في قدرته على التحكّم في الوضع والمس من صورته خارجيا، خاصة أن الهجوم تزامن مع حدث ديني يحظى بمتابعة إعلامية واسعة في الخارج.
وكل التأويلات لهذه الهجوم محرجة، فالرجل الذي وضع كل الصلاحيات والسلطات في يده لن يجد من يحمّله المسؤولية عن هجوم مثل هذا. كما أن اتهامه للمعارضة، أيا كانت خلفيتها، سيبدو هروبا إلى الأمام ومحاولة للبحث عن كبش فداء.
وفي مسعى للتخفيف من وقع الهجوم وارتداداته في الداخل والخارج، سعى الرئيس سعيد إلى تغيير توصيف الهجوم من إرهابي إلى “جريمة نكراء”. والهدف ليس قانونيا، فالقتل جريمة أيا كان تكييفها إرهابيا أو نوازع مرضية لدى منفذها.

عمل قيس سعيد بهدف قطع الطريق على تأويلات خارجية تربط الهجوم بالإرهاب، وتبحث عن خلفيات القاتل، التي ما تزال مجهولة، باتجاه تصنيفه كذئب منفرد يائس يتنقل لأجل القتل تحت شعارات دينية، أو البحث عن انتمائه لتنظيم متشدد يشرّع القتل على الهوية الدينية في استعادة لمناخ هجوم باردو 2015 والذي أدى إلى مقتل أكثر من عشرين سائحا أجنبيا.ولكل تأويل مخاطره، فأن يكون ذئبا منفردا، فذا يعني أن على تونس أن تستمر في البحث والتحقيق لتفكيك ما تبقى من حضور للمتشددين اليائسين خاصة في المؤسسة الأمنية، حيث يسهل على الذئاب المنفردة الحصول على السلاح والتحرك تحت مظلة المؤسسة قبل الانكشاف في لحظة الهجوم مثلما جرى لمنفذ عملية جربة. وهذا وضع يقلق خارجيا، ولكن ليس بدرجة الحديث عن وجود تنظيم إرهابي يكون قادرا على تنفيذ عمليات مثل هذه، ما يثير مخاوف جدية في الغرب، وخاصة في أوروبا.
إن توصيف الحادث على أنه جريمة سيساعد السلطات على تلافي التأثيرات الخارجية السلبية، ولو بنسبة محدودة، وفي نفس الأمر تجد من الوقت ما يساعدها على البحث والتمحيص للوصول إلى الحقيقة؛ إن كان مجرى تحرك معزولا أم ضمن خطة لإرباك قيس سعيد سياسيا وأمنيا.
لكن الرواية التونسية اصطدمت برواية أخرى من فرنسا وألمانيا تميل إلى توصيف الهجوم على أنه ضمن أعمال معاداة السامية، وهو ما يفهم منه أنه عملية انتقامية لأسباب سياسية من التصعيد الذي يجري بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية.هذا تأويل مهزوز لاعتبارات منها أن إسرائيل المعنية مباشرة بمثل هذا الأمر لم تصدر أيّ بيان يربط بين الهجوم والتصعيد في الأراضي الفلسطينية. والجميع يعرف مدى استثمار الإسرائيليين في مثل هذه الحوادث سواء على المستوى الرسمي أو المستوى الإعلامي.لكنه تأويل مقلق، فقد يحدث لبسا وإرباكا على تحركات الدبلوماسية التونسية باتجاه الحصول على التمويلات اللازمة للخروج من الوضع المالي الصعب للبلاد.
وقد يجد صداه في تصريحات سابقة للرئيس قيس سعيد ضد التطبيع، وقد كانت تلك التصريحات ضمن جدل داخلي أكثر منها موقفا دبلوماسيا رسميا، وبالتالي لا يمكن الغمز من بوابتها لابتزاز تونس والتلبيس عليها بربط حوادث متناقضة في الأرضية والأهداف.يمكن فهم سياق البيان الصادر عن السفارة الألمانية بتونس حول الهجوم ضمن إكراهات التاريخ وعُقده المستمرة إلى الآن. لكن ربطه بحادث عرضي لم يتم تأويله كمعاداة للسامية من الجهات المعنية مباشرة به يمكن وصفه بالإسقاط الفاشل الذي يهدف إلى تبرئة الذات من خلال إدانة الآخرين على تأويل افتراضي.وكانت السفارة قالت في بلاغ لها إن “كنيس الغريبة والحج السنوي هما ركيزتان ثابتتان للحياة اليهودية في تونس. فنحن ملتزمون بحماية الحياة اليهودية ومكافحة معاداة السامية وأيّ شكل من أشكال التمييز في جميع أنحاء العالم”.
لكن لا يمكن فهم نوايا فرنسا في تأويل الحادث وتنزيله ضمن عمليات “معاداة السامية”، إلا إذا كان الهدف منه الضغط على قيس سعيد في ملفات أخرى قد يكون الرئيس التونسي رفض مناقشتها أو تقديم تنازلات بشأنها خاصة تلك التي تتعلق بالسيادة الوطنية.وفي أول تعليق له عن هذا التأويل، أعرب قيس سعيّد مساء السبت عن استغرابه من “المواقف التي وردت فيها اتهامات لتونس بمعاداة السامية”، دون أن يحدد جهة معيّنة. لكنه شدد على “رفض أيّ تدخل أجنبي لأن سيادة تونس وسيادة الشعب داخل الوطن خطان ليس لأيّ جهة كانت أن تتجاوزهما”.

الصدى الخارجي للهجوم، ومحاولات التلبيس عليه لأغراض غير واضحة، لم يمنع الجدل الداخلي من أن يعيده إلى اختراق مؤسسات الدولة بين 2012 و2019، وخاصة في الفترة التي شهدت فيه الدولة محاولات استضعاف منظمة بإدخال من هبّ ودبّ إلى مؤسساتها، حيث تم فتح الباب لتوظيف الآلاف من الموظفين من دون تدقيق في أفكارهم وميول البعض إلى التشدد أو ارتباطاتهم الحزبية. كما تم تعيين شخصيات قيادية غريبة عن الدولة في وقت شهد موجة صعود لأنشطة المتشددين في البلاد الذين استغلوا حالة الحرية لاستقطاب المئات من الشباب في أنشطتهم، وليس ثمة ما يمنع أن يكونوا قد تسللوا إلى وزارات سيادية منها وزارة الداخلية.من المهم أن يتحرك وزير الداخلية الجديد كمال الفقيه لتنظيف الوزارة وتفكيك “الأمن الموازي” الذي يشتغل لفائدة أطراف حزبية أو يوالي مجموعات متشددة. لكن على أن يكون برؤية الدولة وأسلوبها الهادئ البعيد عن الأضواء وعن الشعبوية التي تريد الانتقام والتشفي بطرد كل من تم توظيفه وتسريحه، وهو مسار لو تم السير فيه فقد يثير ردات فعل عنيفة ومشاكل لا حصر لها.لا يمكن التعامل مع الدولة بعقلية التطهير وإعادة إنتاج نفس الأزمة التي تلت 2011 من خلال طرد المحسوبين على نظام بن علي وإحلال الآلاف من الآخرين داخل الوظيفة العمومية. كل طرف يرى أنه الأولى بحكم الدولة، وأنه الأكثر وطنية وولاء للمؤسسات، وأن خصومه متآمرون يجب التخلص منهم.

أيا كانت درجة حرارة الصراع السياسي في البلاد، فإن الدولة مطالبة لأن تكون طرفا محايدا يتعامل مع حسم الملفات ببرود ونفس طويل حتى لا تفتح الطريق أمام تكرار الأخطاء نفسها في المستقبل. ولا شك أن الأجهزة الأمنية لديها من الخبرات والإمكانيات للتحقيق في الهجوم وملابساته وارتباطاته، وهي من ستكيّفه هجوما عرضيا أم إرهابيا وتحمّل الجهة التي وراءها إن وجدت، المسؤولية القانونية.لا بد أن نخفف الضغوط عن الدولة ونكسر هيمنة السياسي عليها حتى نمكّنها من أن تتحرك وفق رؤية واضحة للتخلص من السموم وفي نفس الوقت التفكير في المستقبل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى