أقلام وأراء

مختار الدبابي: معارك قيس سعيد مع الكارتلات فرصة لاستعادة الدولة

مختار الدبابي 28-8-2023: معارك قيس سعيد مع الكارتلات فرصة لاستعادة الدولة

بات الرئيس التونسي قيس سعيد يتنقل يوميا من مكان إلى آخر لالتقاء الناس والاقتراب منهم والاستماع لشكاواهم وانتقاداتهم لأداء الإدارة والوزراء والحكومة. وبقطع النظر عن خلفيات هذا التوجه، فإن الناس يشعرون بأن الرئيس سعيد قريب منهم عكس الذين كانوا قبله منذ ثورة 2011 ممن تحملوا مسؤولية رئيس جمهورية أو رئيس حكومة وفق النظام البرلماني الذي كان سائدا.

حين تقترب من الناس وتستمع إليهم فأنت ستكسب ثقتهم، حتى وإن كنت لا تقدر على أن تفعل لهم شيئا. ويبدو أن قيس سعيد قد وجد أن أفضل فرصة لامتصاص قلق الناس من المستقبل هو الاتصال اليومي بهم خاصة في ظل ارتفاع أسعار المواد الأساسية وندرة بعضها ومخلفات أزمة الخبز والصفوف اليومية أمام المخابز.

هناك قلق حقيقي تغذّيه هذه الصفوف على الخبز والأسعار المتقلّبة للخضروات والغلال، والإشاعات وسلبية الإدارة، وغياب اتصال حكومي ينجح في طمأنة الناس. ومن المهم جدا أن يظهر الرئيس الذي ما يزال يحافظ على شعبيته للطمأنة.

لكن هذا التحرك الاتصالي مرتبط بالوقت، فقد يستمر مفعوله لشهر أو شهرين أو ستة أشهر، لكن بعد ذلك سيبحث الناس عن النتائج، وسيسألون الرئيس فيما لو التقوا به مرة ثانية: أين الوعود؟ أين الخبز؟ أين تراجع الأسعار؟ لماذا تتراجع القدرة الشرائية؟

أن يكون الرئيس نظيف اليد، صادق الخطاب والوعود، هذا مهم. لكن ما يهم الناس أن تتحرك الحكومة من الآن لتنفيذ الوعود التي يقطعها الرئيس سعيد أمام الناس، من ضمنها تمليك عاملات الزراعة أجزاء من الأرض التي يشتغلن عليها وإدارتها بأنفسهن ضمن مقاربة الشركات الأهلية، والتي وعد بها قيس سعيد عاملات إحدى المزارع المحيطة بالعاصمة تونس.

ومن جهة ثانية يتابع الناس بانتباه شديد معركة الرئيس سعيد مع اللوبيات التي تضع أيديها على قطاعات حيوية في البلاد، وعلى رأسها قطاع الحبوب، وتتحكم في السميد والدقيق، المادتين الحيويتين في بلد يمثل الخبز والعجين أحد أهم وجباته الغذائية.

صحيح أن المعركة قد تطول لأن قيس سعيد يخوض معركة ضد كارتلات تشكلت منذ ستينات القرن الماضي وكبرت وتوسع نفوذها بشكل كبير. لكنها في النهاية معركة لاستعادة الدولة.

ويريد الناس أن يروا نتائج على الأرض، بعد الإقالات والاعتقالات التي طالت شخصيات فاعلة في القطاع وأخرى من خارجه بعضها موقوف لأشهر ولم تتم محاكمته، خاصة في ظل اتهامات للمعارضة التي تصور الحملة على الكارتلات وكأنها تصفية حساب عشوائية ضد من يقف بوجه السلطة.

لكن الحملة على الكارتلات وخطط تطهير الإدارة من المعرقلين والمتنفذين، الذين دأبوا على تحدي الدولة، ستكون لها نتائج على المدى البعيد، حتى وإن لم تفض إلى نتائج ملموسة الآن.

بات الجميع يشعر أن هناك دولة، وأنها يمكن أن تراقب بجدية وتوقف المعرقلين على عكس ما كان سائدا، حيث بلغت الدولة مستوى من الضعف والتراجع جعل أيّا كان قادرا على تحديها واستضعافها من دون أن ترد عليه بأيّ إجراء فعال.

ويتذكر الناس في السنوات الماضية كيف أن أيّ مواطن في أيّ مكان من البلاد بمقدوره عرقلة أيّ مشروع تقوم به الحكومة تحت أيّ ذريعة من مثل رفض المرور بأرضه أو أمام بيته، أو أن الحكومة عرضت عليه سعرا لا يرضيه مثلما حصل مع وقف مشاريع بعض الطرقات السيارة.

وبدلا من أن تطبق الحكومة القانون كانت تلجأ إلى المهادنة وخفض الجناح، وهو ما كان المحتج أو المحتجون يرون فيه ضعفا، ويمرون إلى التصعيد عبر اعتصامات عشوائية تفضي إلى إغلاق المؤسسات والطرقات وتعطيل مصالح الناس.

والأمر نفسه بالنسبة إلى العاملين في الإدارة، فقد باتوا يشعرون بأن ثمة دولة يمكن أن تتقصى وراءهم وتعد التقارير وتحاسب، وأنها لا تهاب شيئا، وأن المتجاوز سيكون مآله السجن.

وهذه رسالة مهمة لأن الإدارة في السنوات العشر الماضية تحوّلت إلى ماكينة تعطيل كبرى لعمل الدولة، سواء بشكل عملي من خلال الإضرابات وفرض زيادات في الرواتب أو علاوات رغم أنف الحكومة، أو من خلال التمرد على القرارات والتوجيهات الهادفة إلى تسريع الإجراءات لفائدة المواطن أو المستثمرين، والتمسك بنظام بيروقراطي بطيء ومعرقل لأيّ مساع تهدف إلى تطوير أداء الإدارة واعتمادها على الرقمنة.

وإذا تزامن جهد الدولة في الضغط على الإدارة مع خروج المواطن من سلبيته وركونه إلى منظومة الرشى والمحسوبية في تحصيل الوثائق الإدارية وقضاء شؤونه، فإن الأمور ستسير نحو الأحسن. ويمكن إسناد حملة الدولة بحملة تحسيس واسعة وكشف أيّ تجاوز مهما بدا صغيرا والضغط على الإدارة المعنية عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وتحويلها إلى عنصر إيجابي بدلا من فضاء لتشويه الناس ونشر الإشاعات.

ولم تسع الدولة لإظهار قوتها فقط في معركة تطهير الإدارة ومواجهة اللوبيات، فقد توجهت إلى المواطن لتوعيته بضرورة الالتزام بالقانون، وأنه مثلما يطالب بحقوقه فمن الواجب عليه أن يقوم بواجباته، وهو ما كشفت عنه زيارة الرئيس سعيد إلى مدينة أريانة منذ أيام، والحوار مع المواطنين بشأن الاستيلاء على الملك العمومي، وضرورة الالتزام بالمساحات المحددة مسبقا لأيّ تاجر يريد أن يعرض بضاعته.

وحملت رسالة قيس سعيد من خلال هذه الزيارة إشارة واضحة إلى أن الرئيس الذي ينحاز للناس في مواجهة اللوبيات والبيروقراطية يحتاج منهم أن يكونوا هم بدورهم ملتزمين بالقانون. ولا يمكن أن تكون مع الرئيس وضده في نفس الوقت. وهذا يتعلق بالتجار الذين يعرضون بضاعتهم في كل مكان من دون التزام بالإجراءات التي تحددها البلدية وبمكان العرض ما حوّل مدن البلاد إلى حالة من الفوضى التي لا تطاق، ما يعرقل الدخول إليها والخروج منها.

وأكّد الرئيس سعيد لعدد من الذين كانوا يعرضون بضاعتهم بالمنطقة أنه “يمكن إيجاد حلول لهم في إطار القانون وفي أماكن محدّدة تخضع للرقابة في مستوى السلع المعروضة للبيع وفي مستوى الأسعار”.

وبقطع النظر عن مدى تطبيق ما طلبه قيس سعيد، جزئيا أو كليا، فإن رئيس الجمهورية نجح في إيصال رسالة بأن الدولة موجودة، وهي تراقب ولا تقبل بالفوضى، وأنها لن تتسامح مستقبلا مع المقصرين سواء الموظفين الحكوميين أو المقاولين العاملين في القطاع الخاص في ظل توسع قائمة “الطرقات التي لم تقع صيانتها ولم تعد أصلا صالحة للاستعمال، إلى جانب الوضع البيئي والفواضل الملقاة على قارعة الطريق”.

وفي النهاية، فإن كل ما تقدم هو جهد شخص واحد، ولا يمكن أن ينجح كليا، حتى ولو كان رئيس جمهورية، ويحتاج المسؤولون في مختلف المواقع الحكومية والإدارية أن يخطوا خطوات صغيرة على طريق التغيير، وسنرى كيف أن البلاد تتغير فعلا نحو الأفضل.

لا يمكن للوزير أن يقبل بوضع تسيطر فيه الكارتلات على قرار وزارته، ولا أن يقبل بالفوضى في الإدارات التي تتبعه، وعليه أن يتحرك ليراقب ويدقق ويسأل ويعاقب حتى يشعر الموظفون بوجوده ويهابوه. والأمر نفسه لوزراء الشؤون وللمدراء العامين والمحافظين والمسؤولين المحليين على مختلف رتبهم.

الدولة تحتاج إلى أن تتحرك ككتلة واحدة في وجه الفساد والبيروقراطية وأن تستعيد القرار بيدها بدلا من التفويت فيه للوبيات لا تفكر سوى في مصالحها، ولا تسمح بأيّ تغيير من أيّ جهة كانت. هي فرصة قد لا تتكرر من أجل أن تنجح الدولة في تحقيق انتصارات فعلية على كارتلات لا ترى بالعين، لكنها تتحكم في كل شيء، من تعيين المسؤول الصغير إلى المسؤول الكبير، إلى وضع الخطط وتنفيذها.

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى