أقلام وأراء

مختار الدبابي: الحرب على الفقر: معركة التفاصيل الصغيرة في تونس

مختار الدبابي 7-9-2023: الحرب على الفقر: معركة التفاصيل الصغيرة في تونس

قبل العودة المدرسية بأيام قرر الرئيس التونسي قيس سعيد مضاعفة المنحة التي توجه لنصف مليون تلميذ من أبناء الفئات محدودة الدخل من 50 إلى 100 دينار (من 16.17 إلى 32.34 دولار)، إضافة إلى “مساعدات موجهة إلى طلاب الجامعات والأطفال في المراحل الأولى من التعليم”.

الخطوة مهمة في توقيتها. ورغم أن 50 دينارا لا تعني الشيء الكثير لبلد ترتفع فيه الأسعار بشكل ملحوظ لاعتبارات متداخلة منها ما يتعلق بالتوريد ومنها ما يتعلق بالاحتكار، إلا أن نتائجها على نفوس العائلات ستكون مختلفة.

سيشعر عشرات الآلاف من الأولياء أنهم ليسوا وحدهم في مواجهة تحديات الحياة، وأن الدولة لم تنسهم رغم الظروف الصعبة التي تقاسيها، وتنوع مشاغلها وهمومها، وخاصة معركة تأمين المواد الأساسية وأولاها السميد والدقيق لتوفير الخبز.

وبهذه المساعدة، فإن الدولة تكون قد دعمت العائلات مرتين، في الأولى عندما تبادر إلى دعم التجهيزات نفسها من كتب وقراطيس والتي تصرف عليها الدولة الكثير، وفي الثانية عندما تبادر بتقديم 100 دينار مساعدة لأصحاب الدخل المحدود، وهي بذلك تقوم بدور كبير ومعتبر في تسهيل الأمر رغم رمزية المساعدة.

الكثير من الناس يقولون الله مع الدولة، ومع الرئيس سعيد، الذي وجد دولة خاوية على عروشها بعد تبديد مليارات من القروض والهبات والمساعدات الخارجية التي حصلت عليها تونس بعد الثورة.

كان يمكن لقيس سعيد أن يكتفي بالدور الشرفي الذي أراده له خصومه، ويتركهم يواجهون الأزمة المالية والاقتصادية التي تسببوا في جزء منها بالتقصير وسوء التقدير. لكنه فضل أن يكون رئيسا كامل الصلاحيات ليعمل ما في وسعه لمواجهة الأزمة متعددة الأوجه.

صحيح أن التمويلات الخارجية لم تأت بعد، وفيها ما يتعلق بصعوبات دولية، وفيها ما يخصه هو كرئيس دولة يرفض أن يزيد على كاهل البلد قروضا إضافية. لكن قيس سعيد يتحرك في اتجاهات مختلفة لفرض التقشف على الوزارات والمؤسسات ومختلف المسؤولين لتوفير القليل من الأموال وصرفها لمساعدة الناس في المناسبات الاجتماعية المهمة مثل العودة المدرسية أو في شهر رمضان، والرفع في المنح الموجهة لضعاف الحال.

قد تكون الحركة رمزية، لكن نتائجها ستكون كبيرة على المستوى البعيد مع استقرار وضع البلاد واستعادة الاقتصاد لحيويته وعودة الدولة في فاعليتها كما كانت قبل 2011.

يذكر التونسيون جيدا أن الرئيس الراحل زين العابدين بن علي، ورغم محدودية الإمكانيات والظروف الصعبة للبلاد، نجح في أن يكسب حب الناس بتفاصيل صغيرة خاصة في ما كان يسميه “مناطق الظل” بإنجاز الطرقات وتمكين الناس من الكهرباء ومد قنوات المياه، وتمكين الفقراء من منح لتحسين السكن، وإعطاء صغار المزارعين دعما لغرس أشجار الزيتون واللوز والفستق والتفاح ما أخرج تلك المناطق من حال إلى أخرى.

لا يمكن للرئيس سعيد أن يكتفي بالمعارك الكبيرة وينسى المعارك الصغيرة التي هي في الأصل ما يحدد شعبيته ويعطيه الدفع الذي يريده للاستمرار بحماس في مواجهة لوبيات النفوذ، التي تضع أيديها على كل شيء وتعيق المشاريع وتسعى لإفشال وعوده وتعهداته، بتفكيك الكارتلات خاصة في القطاعات الحيوية مثل قطاع الحبوب.

وكان من المهم أن يتحرك قيس سعيد ليقترب من الناس ويشعروا بأنه منهم وإليهم، وأنه ليس كمن قبله يتقن الكلام الكثير ويطلق الشعارات يمينا ويسارا ويتوقف عن اللقاء بهم من الانتخابات إلى الانتخابات.

زيارة الأسواق وسماع آراء الناس في الأسعار وتقبل انتقاداتهم لأداء الحكومة، ولقاء عاملات الفلاحة بإحدى المزارع القريبة من العاصمة، والدعم الذي قدمه لنصف مليون تلميذ، كلها عناصر توضع في سجله كرئيس مختلف عمن سبقه من مسؤولي دولة وقادة أحزاب ونقابات ممن عرف التونسيون عنهم المزايدات والوعود ولم يروا أثرا لأي فعل.

حرص الرئيس سعيد على أن تكون المساعدة الموجهة للآلاف ببادرة منه من دون مطالبات من النقابة، التي دأبت على المزايدة وتحقيق نتائج لفائدة محدودة من الناس، المنتسبين إليها، وأغلبهم في القطاع الحكومي.

من بداية 2012 كان كل ما يهم الاتحاد الضغط على الحكومات لتحصيل زيادات للقطاع العام، والتهديد بالإضرابات والاعتصامات خاصة مع وجود حكومات ضعيفة وتقاطع الاستعراض النقابي مع أجندات سياسية للاتحاد حولته إلى ذراع للمواجهة، واستمرت اللعبة إلى 25 يوليو 2021.

لم تفكر النقابات في الفقراء وتضررهم من سياسة احتكار زيادات الرواتب والمزايا، وهي سياسة جعلت الحكومات المرتبكة تفكر بالدرجة الأولى في شراء ود المنظمة النقابية من دون تفكير في وضع خطط لدعم الفقراء.

والأغرب أن تلك الحكومات ذهبت في دراسة خيار رفع الدعم من دون أي بدائل ستقدم لفئات محدودة الدخل وأخرى فقيرة ولسكان الأرياف والقرى الذين يعيشون على عائدات الزراعة في وقت يلاقي فيه القطاع مصاعب كبيرة مثل الجفاف وغلاء أسعار الأسمدة ما قلل من عائداته وحول الكثير من العائلات إلى فقراء.

ومن المهم الإشارة إلى أن وقوف الرئيس سعيد إلى جانب الفقراء من خلال سلسلة من الخطوات العملية لا يجعله يسكت عن أي تجاوزات أو مساس بالقانون. لاحظنا في زيارته إلى سوق مدينة أريانة (شمال العاصمة تونس) كيف أنه رفض المبررات التي قدمها بعض الباعة والتجار من أن ظروفهم الاجتماعية دفعتهم إلى عرض بضاعتهم في أماكن غير قانونية، بمنطق “نحن فقراء اتركونا نبسط البضاعة ونَبِعْ في الشارع”.

الفقر ليس حماية من تجاوز القانون، ويمكن للدولة أن تبحث عن بدائل لهؤلاء الباعة والتجار في أماكن أخرى قريبة من السوق بدلا من تكدس التجار في نفس المكان وبسط بضاعتهم في أماكن مخصصة لعبور الناس والسيارات وأمام دكاكين الغير ممن لديهم رخص قانونية.

الرسالة واضحة من قيس سعيد ومفادها أن الدولة القريبة من الفقراء والمتضامنة معهم لا تجعلهم فوق المساواة ولا العدل ولا النظام، وأن عليهم أن يعوّدوا أنفسهم على معايير جديدة غير تلك التي تعودوا عليها في السابق والتي تعتمد على العنف لتحصيل أماكن بسط البضاعة أو تلجأ إلى تقديم الرشى للموظف البلدي للسكوت عن التجاوز القانوني.

خلال أكثر من سنتين على مسار 25 يوليو 2021 تغير أداء قيس سعيد في التواصل مع الناس. في البداية لم يكن يتجاوب مع الطلبات حتى من الفئات الفقيرة التي كان يظهر تعاطفه معها ودعمه لها، وكان يريد فقط أن يبدو هو من يفكر ويقترح ويقرر، وأن يكون كل شيء منه هو شخصيا.

كان الرئيس سعيد يرى في اللوم استفزازا وتحديا للدولة، لكن الآن، ومع تتالي الزيارات، بدأ يرتاح أكثر في اللقاءات المباشرة، وصار يرد بلهجة أبسط لأنه انتبه إلى أنه مع البسطاء بدلا من خطاب الأستاذ الجامعي والمثقف الذي يريد أن يوصل لخصومه أنه يعرف أكثر منهم النظام العالمي وأدوات عمله.

باختصار يمكن القول إن قيس سعيد خرج من جبة أيديولوجيا المثقفين إلى بدلة رئيس الدولة الذي يستمع إلى الناس بمختلف مستوياتهم ولهجاتهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى