أقلام وأراء

محمد أبو الفضل: مطبات متكررة بين مصر والقوى الليبية

محمد أبو الفضل 29-1-2023: مطبات متكررة بين مصر والقوى الليبية

ساد تفاؤل سياسي في بعض الدوائر العربية قبل نحو أسبوعين عندما استضافت القاهرة لقاءات ضمّت عددا من القوى الليبية حول تحريك مسار التسوية إلى الأمام، وما إن انتهى الزخم الذي صاحب اجتماعات المسؤولين حتى عادت الأزمة إلى المربع السابق من الصعود والهبوط والإحباط، وبدت تفاهمات القاهرة كأنها كتبت على ورق شفاف، أو سلوفان حسب المفهوم المصري عندما ينتهي الأمر سريعا.

جاءت قوى ليبية مهمة، ممثلة في رؤساء المجلس الرئاسي محمد المنفي والنواب عقيلة صالح والمجلس الأعلى للدولة خالد المشري وقائد الجيش الوطني خليفة حفتر، لتثبت أنها جزء في التسوية المنتظرة ومعنية بإجراء الانتخابات، واستضافت القاهرة القيادات الأربعة لتؤكد محورية دورها في ليبيا وقدرتها على تقريب المسافات في ظل فراغ سياسي يمكن أن يقود إلى تصعيد عسكري مدمر.

غاب عن نقاشات القاهرة رئيس حكومة الوحدة الوطنية المنتهية ولايتها عبدالحميد الدبيبة، وفتحي باشاغا رئيس الحكومة الموازية في بنغازي والمعين من قبل مجلس النواب، وهؤلاء يمثلون السداسي الظاهر المتحكم في جزء كبير من اللعبة محليا.

كان الدبيبة وباشاغا على تفاهم مع القاهرة، ثم نظرت القاهرة إلى الأول على أن شرعيته منتهية ومن الواجب تنصيب حكومة أخرى، على الرغم من اعتراف قوى دولية عديدة به حتى الآن، وجرى ما يشبه تجميد العلاقات مع الثاني مؤخرا، بعد أن كانت مصر ضلعا من ثلاث دول رئيسية اعترفت به.

مطبات التحول والتبدل في المواقف ليست جديدة على مصر أو القوى الليبية، لأن طبيعة الأزمة متحركة ومفتوحة على احتمالات متباينة، والتحالفات التي تتحكم فيها قابلة للتغير في أي لحظة، فهناك قوى إقليمية لها نفوذ كبير، وأخرى دولية لديها طموحات متعارضة تجبرها على الليونة مع اللاعبين في الداخل والخشونة أحيانا، ما يجعل التذبذب في العلاقات عنصرا مهيمنا ومساعدا على استمرار اللاحل.

غيّرت القاهرة مواقفها من القيادات الليبية، وانتقلت من العزوف إلى التقارب والعكس، فحتى ثلاثة أعوام ماضية كان معظم التركيز منصبا على شرق ليبيا، والمشير خليفة حفتر هو الرجل العسكري الأول، وعقيلة صالح رجلها السياسي الأول، ثم تبدل الحال وحدث انفتاح على غرب ليبيا، ظهرت تجلياته في التجاوب مع الدبيبة وتم عقد جملة من الاتفاقيات الاقتصادية مع حكومته.

ذهبت النتائج الإيجابية التي توصل لها الجانبان بعيدا بعدما تأكدت مصر أن الدبيبة لن يتخلى عن انحيازه ناحية تركيا ولن يصبح صافيا مع القاهرة، واستغلت انتهاء ولاية حكومته وتبنت موقفا سلبيا منه، لا تريد تغييره مع أنه يحظى بتأييد دولي، وهو اتخذ من السياسات ما يعزز أنه يسير في اتجاه عكس القاهرة.

حدثت تغيرات في مواقف عقيلة والمشري، فبعد عودتهما من القاهرة سلك كلاهما طريقا أوحى أن التفاهمات التي جرت على أرضها سقطت سريعا، وبدت الوثيقة الدستورية التي اتفقا على استكمال الخطوات المفضية للانتهاء منها كأنها لم تكن.

طغت نغمة التراشقات على الساحة الليبية أخيرا، وارتفع صوت الغزل السياسي الموجه إلى قوى أخرى، وظهرت بوادر لاجتهادات سياسية موازية من قبل الدبيبة وفريقه، لا أحد يريد تفويتها ممن جاؤوا إلى مصر وغادروها، فقد تكون أساسا لتسوية في المستقبل، خاصة أن بعثة الأمم المتحدة لم تبارك تماما لقاءات القاهرة والمعطيات التي بنيت عليها والمخرجات التي قدمتها.

تتحمل طبيعة الأزمة الليبية جانبا من التذبذب في تصورات كل فريق وكل دولة، حيث دفعت غالبية الجهات إلى تبني سياسة مسك العصا من منتصفها، لأن الساعة بتوقيت ليبيا تتحرك أسرع من المعتاد، وتخشى كل جهة أن يفضي عدم اللحاق بها إلى التأخر عن حضور موعد تقديم الطبخة السياسية التي بموجبها سوف يتحدد مصير ليبيا.

ينطبق هذا على القوى الليبية والدول المعنية بأزمة بلدهم، فالجميع يعلم أن وقت التسوية لم يحن بعد، لكن المشاركة في التفاصيل مسألة مهمة، فقد تقود في لحظة ما إلى تدشين عملية تترتب عليها نتائج ملموسة، وستكون الجهة/ الجهات المتخلفة عن الركب خاسرة، لذلك يهتم الجميع بالمواءمة بين الأهداف المطلوب تحقيقها والواقع.

تظل المراوحة سمة من سمات الصراعات المعقدة والنزاعات الشائكة والأزمات التي تتداخل فيها الخيوط الداخلية مع الخارجية، وتجعل بعض القوى تقيم علاقات مع جبهات متخاصمة ولا تضع عملاتها في سلة واحدة، فقد تربح عملة ضعيفة وتخسر أخرى معروف أنها قوية.

وسط الرداءة الطاغية على بعض العملات المحلية من الضروري أن يحرص كثيرون على مراقبة عنصري العرض والطلب، كما يتمسك أصحاب العملات أنفسهم بمن يتكفلون بدعمهم بالمصادر التي تحافظ على جزء معتبر من قوتهم.

يبدو هذا التفسير صحيحا إلى حد بعيد، لأن المبادرات والوساطات والاجتماعات واللقاءات التي عقدت بشأن الأزمة الليبية كثيرة وتعددت المناطق التي ناقشتها، وكلما اقترب الأمل يداعب الليبيين أبعده البعض، كأن موعد الحل لم يحن بعد أو أن هناك من يحركون الأزمة من وراء ستار كي لا تبارح المنطقة الرمادية التي تعيش فيها إلى حين تتهيأ الأمور أمام الجهة الأقوى لتقود السفينة بالطريقة التي تحقق أغراضها.

تكمن معضلة التذبذب الراهنة في أنها أفقدت الثقة في القوى الرامية لتسوية الأزمة، ووضعت فيتو على مصداقية أي تحرك جاء من القاهرة أو غيرها، حتى بعثة الأمم المتحدة تحيط بها هواجس، وأوشكت أن تخسر رصيدها المعنوي، فبعد حوالي ستة أشهر من تولي مبعوثها عبدالله باتيلي مهمته لم تتحرك الأزمة خطوة إلى الأمام، وقد تتحرك للخلف خطوات ما لم يتمكن من ضخ الدماء التي تعيد تصويب المسارات.

وتأتي مشكلة المطبات المتكررة من ارتياح معظم القوى الليبية للحالة التي وصلت إليها الأزمة، لأن دخولها مرحلة الفوران بغيض، ووصولها مرحلة الاستقرار أشد بغضا على من يرون أنفسهم في قمة السلطة ثم يبتعدون عنها، فالمناورات والمراوغات والأكاذيب التي تتصاعد في خطاب كثير من القوى مردها الصراع على السلطة، وهي كلمة السر التي تفسر الحيوية أو الخمول الذي يظهر من حين لآخر.

من يملك المفاتيح يستطيع الهيمنة على السلطة، وفي ليبيا لا توجد قوة في الداخل أو الخارج تملك وحدها القوة الشاملة، كما لا توجد إرادة سياسية جماعية متوافقة على المضي في مسار الحل أو اللاحل، ما يضاعف من صعوبة التحركات في الاتجاهين، وعندما يُحسم الأمر لصالح أحدهما يومها سوف تتوقف العراقيل في ليبيا.

مركز الناطور للدراسات والابحاثFacebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى