أقلام وأراء

محمد أبو الفضل: تباين حسابات واشنطن وباريس حيال انقلاب النيجر

براغماتية أميركية مدفوعة بتقديرات إقليمية ودولية لتأمين مصالحها.

محمد أبو الفضل 2023/08/20: تباين حسابات واشنطن وباريس حيال انقلاب النيجر

الفرنسيون يشعرون بأن موقف واشنطن المرن يقف في صف الانقلابيين وليس في صف بلادهم، خاصة أن باريس تعتقد أن نجاح قادة الانقلاب العسكري في تثبيت أقدامهم في النيجر يعني تشجيع آخرين، وخسارتها آخر موطئ قدم لها في غرب أفريقيا.

بدأت بعض التصريحات الفرنسية تخرج عن لياقتها الدبلوماسية وتبدي قلقا من الموقف الأميركي حيال قادة الانقلاب العسكري في النيجر للدرجة التي بدأت تظهر تلميحات في وسائل إعلام غربية تشير إلى ما يشبه “التواطؤ”، مستندة إلى مجموعة من المواقف التي تؤكد أن هناك ممانعة أميركية صريحة لاستخدام القوة العسكرية لعودة رئيس النيجر المعزول محمد بازوم.

ومن الخطأ التعامل على أن هناك انسجاما بين باريس وواشنطن في أفريقيا، لأن أجندة الطرفين الأمنية والاقتصادية مختلفة، ففي الوقت الذي أبدى فيه قادة الانقلاب العسكري رغبتهم مبكرا في فض الاتفاقيات الأمنية مع فرنسا، لم يشر هؤلاء إلى ذلك مع الولايات المتحدة، وكلاهما يملك قواعد عسكرية على أراضي النيجر.

وساعدت التصورات والتصرفات الأميركية المريبة على تعزيز مخاوف فرنسية بدأت تظهر علنا، فمع أن واشنطن طالبت بالحفاظ على حياة الرئيس بازوم وأوقفت بعض المساعدات، غير أنها لم تدن الانقلاب لتتجنب اتخاذ المزيد من الخطوات الاقتصادية التصعيدية ضد نيامي، والتي تفرضها القوانين الأميركية ضد الحكومات العسكرية.

كما أن الإدارة الأميركية أوفدت مساعدة وزير الخارجية للشؤون السياسية فيكتوريا نولاند إلى نيامي حيث التقت أعضاء في المجلس العسكري الحاكم، وهي دلالة ودية توحي بأنها توصلت إلى تفاهمات لعدم المساس بمصالح واشنطن الحيوية في النيجر، واتخذت واشنطن قرارا بإيفاد سفيرتها الجديدة كاثلين فيتزجيبون إلى نيامي.

أضف إلى ذلك تغليب الولايات المتحدة الحلول الدبلوماسية وعدم انحيازها لموقف المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس) الرامي لاستخدام الحسم العسكري لعودة الرئيس المعزول محمد بازوم، وسعيها إلى إيجاد مخرج توافقي يبعد شبح الحرب في النيجر خشية أن تتصاعد حدة النزاعات في منطقة معروفة بانتشار الجماعات المتطرفة فيها، وتنشط فيها قوات “أفريكوم” الأميركية لمكافحة الإرهاب.

ولا تعني التحركات الأميركية التي تعتبرها فرنسا مرنة أن واشنطن تدعم قادة الانقلاب أو وقفت خلفه أو تعمل على تشجيع الانقلابات العسكرية عموما، بل لأن واشنطن تدرك أن غالبية الانقلابات في غرب أفريقيا تصمد أمام العواصف التي تثيرها “إيكواس”، وتوظف فكرة الاستعمار الغربي القديم وانتهازيته واستنزافه لثروات القارة للحصول على المزيد من التأييد الشعبي.

ودخل العنصر الروسي كمحدد مهم في التوازنات الغربية في العالم، وأسهم بدور بارز في ما يمكن وصفه بـ”الليونة” الأميركية، لأن قادة الانقلابات العسكرية يجدون في موسكو ملاذا لمواجهة النفوذ الغربي، والفرنسي والأميركي تحديدا، وأي تدخل عسكري في النيجر يمكن أن يمنح قادة الانقلاب فرصة للاستعانة بقوات “فاغنر” الروسية التي كسبت نفوذا كبيرا خلال السنوات الماضية.

واعترفت الولايات المتحدة بعدم وجود أدلة حتى الآن تثبت أن “فاغنر” لديها قوات فاعلة على الأرض في النيجر ولم تقطع بأن المجلس العسكري لجأ للاستعانة بها، لكن تتملكها هواجس من دخولها على الخط مباشرة إذا ضاقت السبل أمام نيامي ووجد حكامها الجدد أنفسهم أمام حصار عسكري واقتصادي محكم من “إيكواس”.

ويفسر هذا المحدد أسباب ما يطلق عليه بالتباين بين واشنطن وباريس في النيجر، فالأولى تجد أن الطريق يمكن أن يغلق أمامها عندما يتم اللجوء إلى الخيار العسكري من “إيكواس”، وأن الدعم الفرنسي يمكن أن يولد مشاعر داخلية مؤيدة لقادة الانقلاب ويجبرهم على الاستعانة بروسيا، والأهم أنه يطلق غول الإرهاب في منطقة رخوة.

وبدأ نفوذ التنظيمات المتطرفة يتزايد ، انطلاقا من مالي وبوركينا فاسو ووصولا إلى النيجر، الأمر الذي يمثل عبئا كبيرا على الحرب التي تقودها الولايات المتحدة في مجال مكافحة الإرهاب في المنطقة، ويدفعها إلى عدم خسارة ورقة قادة الانقلاب وبالتالي فتح المجال أمام تغلغل جديد لموسكو في أفريقيا.

ولا تغيب هذه الحسابات عن ذهن فرنسا، لكنها ترى أن نجاح قادة الانقلاب العسكري في تثبيت أقدامهم في النيجر يعني تشجيع آخرين، وخسارتها آخر موطئ قدم لها في غرب أفريقيا، فالخروج المذل من بوركينا فاسو ومالي، ثم من النيجر، يقود إلى خسارة فادحة لباريس التي ظلت تعتقد أنها قادرة على حماية مصالحها الأمنية والاقتصادية من خلال استمرار قاعدتها العسكرية الوحيدة في النيجر.

وقرأت واشنطن هذه المتغيرات وتمسّكت بورقة البراغماتية إلى أبعد مدى، مع محاولات تهدف إلى التوازن بين اعتباراتها السياسية التي تحتّم عليها الدفاع عن الحكومات المنتخبة ديمقراطيا ورفض الانقلابات العسكرية، وبين مصالحها الأمنية التي يمكن أن تتضرر كثيرا في حالة تدشين “إيكواس” عملية عسكرية مفتوحة قد يكون معلوما موعد بدايتها، لكن لا أحد يستطيع معرفة نهايتها.

وتشير الفوارق بين الموقفين الأميركي والفرنسي إلى أن واشنطن تريد تعظيم استفادتها من التراجع الفرنسي في أفريقيا وترفض منح روسيا أرضا خصبة في القارة، وتجد أن الانفتاح على قادة الانقلاب في النيجر أو على الأقل عدم سد المنافذ والأبواب عليهم هو السبيل الذي يمكن أن يساعد الولايات المتحدة على تكريس نفوذها.

وتنظر واشنطن إلى النيجر على أنها رمانة ميزان في سياساتها الأمنية في شمال أفريقيا وجنوبها وشرقها وغربها، فالموقع الإستراتيجي لهذه الدولة يمنح الولايات المتحدة مزايا للاحتفاظ بنفوذ قوي ويد طولى للتواجد في الجهات الأربع المحيطة بالنيجر، وجميعها بها دول مليئة بالصراعات وتنشط فيها تنظيمات مسلحة إرهابية.

وتدعم هذه المعادلة رؤية الولايات المتحدة للبقاء على مسافة من الموقف الفرنسي الذي لا يزال مدفوعا بهزائم أمنية قاسية في غرب أفريقيا، ولا تريد واشنطن الانسياق وراء باريس خوفا من أن تواجه المصير نفسه لأن حرب واشنطن على الإرهاب تعتمد على قاعدتيها في النيجر، وأيّ صدام مع قادة الانقلاب سوف يؤثر على استمرارهما.

وتعمدت الإدارة الأميركية توصيل رسالة بأنها غير منسجمة مع نظيرتها الفرنسية في النيجر لتبعد عن نفسها شبح الإسقاطات الشعبوية التي يستخدمها المجلس العسكري في النيجر ضد فرنسا ووفرت لقادته تأييدا في الشارع جعل الآلاف من المواطنين يتجهون إلى القاعدة الفرنسية في النيجر وهم يلوحون بالأعلام الروسية ولا يذهبون إلى أيّ من القاعدتين العسكريتين التابعتين للولايات المتحدة للقيام بالدور نفسه.

ويعود جزء من الاطمئنان الأميركي الظاهر لقادة الانقلاب إلى أن بعضهم تلقوا تدريبات عسكرية في الولايات المتحدة، وتحتفظ واشنطن بعلاقات جيدة معهم، ما يعزز إمكانية التفاهم بين الجانبين بما لا يضر بأهداف كل طرف، فالانقلاب يمكن أن يمضي في طريقه وينجح ولا تتعرض المصالح الأميركية لانتكاسة تكبدها خسائر فادحة.

ويأتي القلق الفرنسي من أن انقلاب النيجر لن يكون آخر الانقلابات في غرب أفريقيا إذا وجد تساهلا من “إيكواس” أو تفاهما مع الولايات المتحدة، فالمنطقة تشبه لعبة الدومينو التي بدأت تتساقط أحجارها بصورة سريعة، وخلف كل انقلاب ينجح ولا يجد من يردعه سيكون هناك آخرون يعيدون الكرة مرة بعد مرة، ولن تضمن واشنطن الحفاظ على مصالحها دوما، فإذا تعاونت مع قادة النيجر قد تجد صعوبة في ذلك مع نظرائهم في أيّ دولة أخرى.

 

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى