أقلام وأراء

محمد أبو الفضل: الفهم المصري لملء خزان سد النهضة

محمد أبو الفضل 16-9-2023: الفهم المصري لملء خزان سد النهضة

فهم المصري البسيط إعلان رئيس وزراء إثيوبيا آبي أحمد الانتهاء من مرحلة الملء الرابع والأخيرة لخزان سد النهضة قبل أيام، أن أديس أبابا حققت أهدافها الكاملة بامتياز، وأن القاهرة لم تعد أمامها خيارات سوى القبول بالأمر الواقع وما سوف يترتب عليه من أضرار بالغة في حصة المياه التاريخية التي تريد الحفاظ عليها.

كان للحكومة المصرية التي تنتقد تصرفات نظيرتها الإثيوبية في هذا الملف تفسير مختلف، به جزء غير سلبي، فالتوقف عند مرحلة الملء الرابع (42 مليار متر مكعب) في هذه الفترة وتتجاوز قليلا نصف السعة الكاملة للسد وهي 74 مليار متر مكعب، يعني أن فرصة التفاوض للتوصل إلى تفاهمات مشتركة ممكنة الفترة المقبلة.

بين الفهمين أو التفسيرين مسافة طويلة، فإذا كان المواطن البسيط يشعر بالقلق من تحكم إثيوبيا في مياه نهر النيل، فالحكومة المصرية تعتقد أن ثمة جولات مقبلة قد تحد من الخسائر، حيث حققت إثيوبيا ما أرادت من تنفيذ رؤيتها المنفردة، ونجحت في كسب تعاطف الرأي العام في الداخل بحجة أنها لم تنحن أمام الضغوط التي مارستها القاهرة عليها، ولن تمانع في التوصل إلى اتفاق على أساس المصالح المتبادلة.

مهدت السنوات الماضية القاسية الأجواء للمصريين لقبول خسارة معركة سد النهضة، وكشفت الطريقة التي أعلن بها آبي أحمد ملء خزان السد عن رضوخ القاهرة للإرادة الإثيوبية في الأزمة، فالرفض الذي أبدته وزارة الخارجية المصرية عقب إعلان الانتهاء من الملء بدا كأنه دبلوماسي ولا يتجاوز حدود تسجيل الموقف السياسي، لأن البيان ردد عبارات معتادة وأوحى بأن المعركة ممتدة.

كل ما يهم المواطن المصري أن يرى نهر النيل يجري أمامه، فلا تزال عبارة “مصر هبة النيل” عالقة في الذاكرة الجمعية، ويصعب محوها أو رؤية المياه تنخفض في المجرى العام الذي يشق البلاد من جنوبها إلى شمالها، وهو ما حافظت عليه الحكومة عندما سحبت جزءا من المخزون الإستراتيجي للمياه في بحيرة “ناصر” القاطنة خلف السد العالي كي لا تبدو أنها تلقت هزيمة في معركة سد النهضة.

تصرفت الحكومة سياسيا هذه المرة، لكنها عمليا سوف تواجه شحا في المياه خلال السنوات المقبلة إذا أخفقت في التوصل إلى اتفاق جيد مع أديس أبابا، لأن سد العجز من الاحتياطي لن يكون عمليا على المدى الطويل، وليس حلا على المدى القصير، إذ سوف يكتشف الناس ما أصاب النهر من نقصان إذا تآكل المخزون الضخم في بحيرة ناصر، والمقدر بنحو 164 مليار متر مكعب، ما يعني أن الأزمة لن تظهر تجلياتها سريعا وربما لن يشعر بمخاطرها المواطن على المدى المنظور.

لا يريد المصريون تكرار مشاهد حلت بنهري دجلة والفرات في العراق، فكلما استرجعوا صور انخفاض منسوب مياه فيهما يعتقدون أن معركتهم مع إثيوبيا لن تنتهي إلى نتيجة مماثلة، فالدولة المصرية متماسكة وقيادتها تعلم الأهمية الحيوية لمياه نهر النيل، والتي تتجاوز سد جزء معتبر من العجز في كميات المياه وتوليد الكهرباء، فهو أشبه بالحياة نفسها وعلى ضفافه نشأت أقدم الحضارات في بلادهم.

تعلم إثيوبيا هذه الحقائق ولم تسع إلى إحداث أضرار بالغة بمصر حاليا يمكن أن تستنفر قيادتها التي تعلم أن مياه النيل من مقومات الأمن القومي الرئيسية، فأول درس يتلقاه طلبة الكليات العسكرية أن أمن مصر يبدأ من شمال سيناء وينتهي عند منابع النيل، والتفريط في هذه المسألة يعني تهديد البلاد لخطر داهم.

تتمسك القاهرة بالحل التفاوضي ولم تفقد الأمل فيه، وتجد في كمية المياه التي أعلن رسميا في أديس أبابا عن احتجازها إشارة تمد حبال التواصل الفترة المقبلة، فعلى الرغم من التقديرات المتشائمة لهذه الخطوة، إلا أن باب التفاوض لم يغلق نهائيا، فلن تستطيع إثيوبيا والدول المتعاونة معها وتراهن على أهمية سد النهضة في المجال الزراعي تحقيق أقصى استثمار ممكن في ظل عداء مستمر مع مصر.

تأتي أهمية هذا الاستنتاج من عدم الإعلان رسميا عن موت المفاوضات التي استؤنفت عقب اتفاق جرى بين القاهرة وأديس أبابا في الثالث من يوليو الماضي، حدد أربعة أشهر لحل القضايا المعلقة بينهما، وأن الطريقة التي تحدث بها آبي أحمد عن انتصاره الكبير ماديا ومعنويا في معركة سد النهضة يمكن أن تساعده على تمرير اتفاق يلبي الحد الأدنى من تطلعات مصر.

يشعر المواطن الإثيوبي الآن بأن رئيس الحكومة أحرز هدفا مدويا في مرمى القاهرة، وأي هدف سوف تحرزه الثانية في المستقبل أو في الوقت بدل الضائع لن تكون له مردودات مؤثرة على النتيجة النهائية التي أعلن عنها مع انتهاء الملء الرابع، الأمر الذي يمنح أديس أبابا فرصة للتجاوب مع القاهرة وسط يقين الأولى بالنشوة السياسية.

تتعرض القيادة المصرية لحملة انتقادات تحمّلها مسؤولية ما وصلت إليه طريقتها في التعامل مع أزمة سد النهضة، ولم تفلح أسلحتها الإعلامية والسياسية في الدفاع عنها وتفنيد الانتقادات، ولا تزال الصورة التي تحتفظ بها فئة كبيرة من المواطنين متفاوتة، فهناك فئة على يقين بخسارة المعركة بسبب الثقة المفرطة السابقة في التعامل مع إثيوبيا، وخذلان المجتمع الدولي والاتحاد الأفريقي، والتغيير المستمر في الطواقم الفنية المسؤولة عن إدارة هذا الملف في وزارة الري المصرية.

وهناك فئة تثق بالقيادة المصرية، وتعتقد أنها تملك من المفاجآت ما يمكنها من القيام باستدارة تضبط الدفة بما يقلل الخسائر، لأن النتيجة التي وصلت إليها إثيوبيا تجاوزت تغيير الثوابت التاريخية التي تتمسك بها القاهرة، وعليها التصرف عمليا.

يحقق هذا التوجه أهداف أديس أبابا في تطوير تصوراتها التنموية، لأن انطلاق التعاون على قواعد مشتركة يبعد شبح الصدام مستقبلا، فلدى إثيوبيا طموحات كبيرة في مشروعات تعتمد على المياه، ولدى القاهرة تصميم على عدم الاستسلام للهزيمة، ما يستلزم التأسيس لصياغة تقود إلى صفقة متوازنة تلبي مصالح كل طرف.

طوى إعلان آبي أحمد عن انتهاء الملء الرابع والأخير صفحة في تاريخ الأزمة مع مصر حول سد النهضة، وفتح صفحة يمكن معها كتابة تاريخ جديد ينطلق من فكرة التعاون وتصحيح المسارات الخاطئة التي خلفتها التجربة الماضية، أو كتابة تاريخ يفتح المجال لصراع لن يستطيع أحد الطرفين تحقيق انتصار حاسم فيه.

فإذا كانت إثيوبيا تملك السيطرة على جزء مهم من منابع المياه ونجحت في تسويق روايتها، فإن بيئتها الاجتماعية مليئة بنزاعات متشابكة، وما لم تتوافر للدولة معالم للهدوء على الساحة الخارجية سوف تفقد معالم الاستقرار الداخلي وفرصها التنموية.

 

 

مركز الناطور للدراسات والابحاثFacebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى