ترجمات أجنبية

فايننشال تايمز: مصير لعبة أردوغان في سوريا

فايننشال تايمز 25 – يوليو – 2022، بقلم أندرو إنغلاند ولورا بيتل

مع غروب الشمس تتحول نقطة الحدود في بلدة أونجو بينار في منطقة كلس، حيث تظهر حالة ازدحام تعود فيها الشاحنات التي دخلت محملة بالبضائع إلى الأراضي السورية فارغة إضافة لعودة المسؤولين الأتراك والموظفين الذين يمثلون كل مؤسسات الدولة وحتى الرياضة إلى نقطة الحدود ومنها إلى مدنهم، بعد يوم عمل.

وقال مسؤول تركي “كل مؤسسة تخطر ببالك (في تركيا) هي هناك” ويقدر أن حوالي 300 عامل تركي و 200 شاحنة تقطع النقطة الحدودية وهي واحدة من ثماني نقاط على الحدود التي تمتد بطول 900 كيلو متر.

وهو مشهد يعكس الدور المتزايد لتركيا في تشكيل مستقبل سوريا بعد العمليات العسكرية التي قامت بها لمنع المسلحين الأكراد الذين تعتبرهم إرهابيين. ومنذ أن هدرت الدبابات التركية أول مرة قبل ستة أعوام، أصبحت العملية العسكرية مهمة ولامست كل مظاهر الحياة المدنية والأمنية في الجيوب الثلاثة التي يعيش فيها مليونا سوري. وهي مهمة تعبر عن أكبر تأثير لتركيا في دولة عربية منذ انهيار الخلافة العثمانية عام 1918 وربما توسعت حالة نفذ الرئيس رجب طيب أردوغان وعيده بحملة عسكرية جديدة. ولو نفذ تهديداته فستؤدي إلى زيادة التمحيص في استراتيجية تركيا طويلة الأمد ودور القوى الخارجية في النزاع السوري الذي مضى عليه عقد من الزمان.

وبات تشرذم سوريا خلال العامين الماضيين أمرا واقعا. واستطاع نظام بشار الأسد وبدعم من روسيا وإيران استعادة الكثير من المناطق التي خسرها في بداية الحرب التي اندلعت كانتفاضة سلمية تطالب بالتغيير والإصلاح. وتم دفع ما تبقى من المعارضة المسلحة شمالا حيث تعتمد على القوة العسكرية والدعم المالي التركي. وفي شمال- شرق سوريا تدعم الولايات المتحدة الأكراد بحوالي 800 من جنودها. وتحول النزاع في سوريا إلى نزاع مجمد، فقد فيه المجتمع الدولي الاهتمام بتسوية للأزمة الساكنة. وسيظل واقع سوريا كئيبا طالما رفض الأسد التنازل في تسوية سياسية ورفضت القوى الأجنبية مغادرة البلاد.

وقالت دارين خليفة، المحللة بشؤون سوريا في مجموعة الأزمات الدولية ببروكسل “لا أحد يريد الحديث بصراحة لأنه مثير للجدل السياسي والأمريكيون لا يريدون الشعور بأنهم يسهمون بهذا وتركيا لا تريد أن يتحدث أحد عنه”. و “لكن الواقع هو أن ديناميات النزاع ورهاناته تحفز القوى الأجنبية على البقاء في سوريا. وطالما بقيت فسيظل الانسداد الحالي ويشبه حالة تقسيم فعلي” للبلاد.

وفي المناطق الثلاث التي تديرها تركيا يتعلم أطفال المدارس اللغة التركية ويعالج المرضى في المستشفيات التي بنتها تركيا وتضاء أنوار المنازل والشوارع بالكهرباء من تركيا. وباتت الليرة التركية العملة السائدة في التجارة، ويتم استخدام البريد التركي “بي تي تي” لتحويل رواتب العاملين السوريين وفيه تودع أموال المجالس المحلية. ويشرف حكام المناطق الحدودية على عملية تعيين وعزل الموظفين في المناطق السورية المتاخمة. وفي المجال الأمني، تقوم تركيا بتدريب ودفع رواتب أكثر من 50.000 مقاتل سوري ونشرت قواتها في داخل سوريا وأقامت قواعد عسكرية ضخمة على الجبهات وجدارا بطول 873 كيلو مترا. والهدف الرئيسي لأنقرة في المنطقة هو إضعاف المقاتلين الأكراد الذين استغلوا النزاع ودورهم الحيوي في مكافحة تنظيم الدولة وقاموا بترسيم مناطقهم الخاصة. وأقاموا إدارتهم المدنية في منطقة غنية بالمصادر الطبيعية من النفط والغاز والأراضي الزراعية.

لكن تركيا تعتبر وحدات حماية الشعب أو واي بي جي امتدادا لحزب العمال الكردستاني الذي يشن حربا في داخل تركيا. وصنفت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي المنظمة كإرهابية. واعترف المسؤولون الأمريكيون بعلاقتها مع وحدات حماية الشعب.

لكن واشنطن أغضبت أنقرة ووقفت إلى جانبهم حيث اعترفت بدورهم في قتال تنظيم الدولة. ويريد أردوغان إنشاء منطقة آمنة لترحيل اللاجئين السوريين وعددهم 3.7 مليون نسمة حيث بات وجودهم في البلاد مصدرا للتوتر. ولكن العمليات العسكرية وضعت الجنود الأتراك في محاور حرب أجنبية وكلفت أنقرة مليارات الدولارات ووترت علاقاتها مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والدول العربية وأثارت اتهامات بانتهاكات حقوق الإنسان وتهدد باندلاع مواجهة عسكرية مع الأسد وداعميه من الخارج. لكن أردوغان أخبر نواب البرلمان في حزيران/يونيو أنه يخطط “لمرحلة جديدة” من هدفه بناء “محور آمن” بعمق 30 كيلو مترا من الحدود وبهدف إخراج المقاتلين الأكراد من مدينة منبج، غرب الفرات وبلدة أخرى وهي تل رفعت الواقعة بعيدا في الغرب. وقال “سنطهر تل رفعت ومنبج من الإرهابيين” و”سنعمل نفس الشيء مع بقية المناطق، خطوة، خطوة”.

ويقول الدبلوماسيون إنه لا توجد أدلة كثيرة تقترح أن العملية العسكرية قريبة، في وقت حذرت فيه روسيا وإيران والولايات المتحدة من توغل عميق في الأراضي السورية بشكل سيؤدي إلى نزاع عسكري أوسع. إلا أن القادة الأتراك في داخل سوريا أبلغوا سلطات المعارضة المحلية بضرورة تحضير المقاتلين من الجيش الوطني السوري الذي تقاتل تحت رايته عدد من الجماعات المسلحة، وذلك حسب مدير المكتب السياسي للجيش الوطني السوري محمود الليطو. وأضاف أن تركيا نشرت قوات وأسلحة على طول الحدود “حتى الشهر الماضي كانت تركيا جادة بشأن العملية”. وأكد أن الجيش الوطني السوري لا يتبع أجندة أنقرة وسيواصل مقاومة الأسد بدعم أو بدون دعم، معترفا أن الجيوب التي تسيطر عليها المعارضة تعتمد على رعاتها الأتراك “تحولت تركيا للفرصة الوحيدة لنا بعدما تخلى المجتمع الدولي عنا”.

ومع ذلك هناك تباين في مواقف السوريين عندما يتحدثون عن الحياة في ظل الحماية التركية، فرغم شعور الكثيرين الذين فروا من البراميل المتفجرة والحصار والهجمات الكيماوية والانتهاكات الأخرى بالامتنان لتركيا لكن هناك تظلمات اقتصادية وأمنية. فقد فرت أسماء من منطقة حلب قبل عامين إلى البلدة الحدودية أعزاز ولكنها تقول “لا يمكنني القول إننا نشعر بالأمن الكامل في أعزاز، لكن لو قارنتها بمناطق أخرى فهي أكثر أمنا”. وأضافت أن البلدة التي كانت صغيرة “تكبر يوما بعد يوم” ولكنها تشتكي من قلة الوظائف وحجم التأثير التركي على السلطات المحلية “ومعظم الناس يعتقدون أن وجود تركيا هنا هو من أجل مصالحها” و “ليس لصالح السوريين”. لكن لو انسحبت تركيا “فسنشعر بالخوف لأن تركيا هي الخيار الوحيد لنا والأسد وروسيا سيأتون” كما تقول أسماء.

وأكد مسؤول تركي بارز أن أنقرة لا تقوم، كما يزعم نقادها، بمحاولة “تغيير نسيج الدولة” قائلا إن “الكثير من العرب والأصدقاء في الغرب فاتتهم هذه النقطة” و “يتساءل البعض لماذا فتحنا فروعا دينية لبعض الجامعات التركية هنا. وهذه مناطق قمنا بتأمينها من داعش وما هو التفكير الديني الذي نفضله؟”. وبدون استثمار تركي في المدارس والعيادات وفرص العمل، فلا أمل لعودة السوريين إلى بيوتهم. إلا أن أنقرة ترى أنه كلما استطاعت قوات حماية الشعب تعزيز وجودها كلما حاولت بناء كيان مستقل، وهذا تهديد لدولة قضت أربعة عقود في محاربة الانفصاليين الأكراد.

ويرى محللون أن هناك عدة عوامل وراء إعلان أردوغان عن حملة جديدة، منها شعور أن روسيا والغرب منشغلون بحرب أوكرانيا ومحاولة تعبئة قاعدته في الانتخابات العام المقبل والوضع الاقتصادي الصعب الذي تمر فيه تركيا. لكن أنقرة كما تقول خليفة ترى بوحدات حماية الشعب تهديدا لا يتعامل مع أحد بجدية. و “سواء وافقنا أم اختلفنا على دولة منفصلة إلا أن الجميع في أنقرة، سواء كان أردوغان أم قيادة أخرى ستفكر بهذا وتتحرك بناء عليه”.

وتشير الصحيفة إلى صعود قوات حماية الشعب أثناء المعركة على كوباني في عام 2014، حيث أصبح المقاتلون الأكراد خيار أمريكا في القتال ضد تنظيم الدولة من خلال مظلة قوات سوريا الديمقراطية. وراقبت أنقرة بسخط الكيفية التي أمن فيها الأكراد مناطق وأسلحة ودعما دوليا. وتقدر خليفة أن قوات سوريا الديمقراطية التي تتهم تركيا بالاحتلال تصل إلى 100.000 مقاتل ولديها إدارة مدنية بنفس الحجم. وأمر أردوغان قواته أولا في عام 2016 باتجاه جرابلوس، لمواجهة تنظيم الدولة ولإحباط التحرك الكردي. وجاءت العملية بعد أسابيع من نجاة أردوغان من محاولة انقلابية فاشلة.

وشنت تركيا حملة أخرى في عامي 2018 و2019 قاتلت في الجماعات السورية إلى جانب القوات التركية. وشنت تركيا حملة رابعة عام 2020 لعكس المكاسب التي حققها نظام الأسد في إدلب التي تسيطر عليها المعارضة ويعيش فيها 4 مليون نسمة. وتأثير تركيا على إدلب أقل، حيث تسيطر عليها هيئة تحرير الشام، ولكنها تظل في النهاية الحامي الأخير للمحافظة. وانتهت المواجهات بوقف إطلاق نار توصلت إليه تركيا وروسيا ولا تزال خطوط القتال متجمدة. وتتحمل تركيا اليوم مسؤولية 9 مليون سوري إلى جانب اللاجئين في داخل أراضيها، أي نصف سكان سوريا قبل الحرب.

ويقدر مراد يشلطاش من معهد سيتا المقرب من أردوغان وحكومته أن التدخل في سوريا يكلف الخزينة التركية ملياري دولار سنويا. ولديها ما بين 4.000 – 5.000 جندي في المناطق التي تسيطر عليها وحوالي 8.000 جندي في إدلب وما حولها. وقال إن تركيا تصارع التناقض بين دعوتها للحفاظ على وحدة سوريا بمنع نشوء كيان كردي وفي الوقت نفسه تضعف من وحدة الأراضي السورية. وقال إن خيارات تركيا هي حكم مباشر والذي سيعطي تركيا مساحة لحل المشاكل الأمنية والاقتصادية على الأرض، وسيكون بمثابة الضم الفعلي أو الخروج ووضع ثقتها بالقوات الموالية لها. وفي الوقت الحالي تحاول تركيا تبني مزيج من الخيارين و “لو سألتني من الرئيس، بالطبع تركيا”. وقال يشلطاش إن “الخريطة الحالية” لا تسمح باستراتيجية خروج، مقترحا أن السيطرة على تل رفعت ومنبج ستعزز من أهداف أنقرة الأمنية والاقتصادية طويلة الأمد. وأي عملية جديدة ستكون محفوفة بالمخاطر، فهناك تقارير عن وجود قوات تابعة للنظام وأخرى موالية لإيران حول البلدتين وهدد الأكراد بالتنسيق مع دمشق لو حدث هجوم.

ويرى الدبلوماسيون أن الحرب في أوكرانيا لم تغير من الوجود الروسي في سوريا، وهناك ما بين 2.000- 5.000 جندي روسي وغطاء جوي لنظام الأسد.

ويقول جيمس جيفري، السفير الأمريكي السابق لتركيا والمبعوث السابق لسوريا “بالنسبة لروسيا، فهذه (سوريا) هي نجاح كبير ولن يخاطروا بالانسحاب”، فلم يحرف التدخل الروسي في عام 2015 ميزان الحرب لصالح الأسد فقط، بل وقوت تأثير موسكو في الشرق الأوسط وشرق البحر المتوسط. ولا يرى جيفري أي إمكانية لانسحاب أمريكا من سوريا في الوقت الحالي، وبخاصة بعد كارثة أفغانستان.

ويعتقد أن الوضع الراهن مناسب لكل القوى الخارجية مما يؤدي إلى استقرا هش، ويرى “أنهم يفضلون التعايش مع التزامات عسكرية فوضوية لا تحقق أي شيء سوى أنها تمنع الطرف الآخر من تحقيق النصر وخلق وضع أمني خطير لهم”.

وهناك عامل في الحسابات التركية هو تراجع شعبية أردوغان لتحقيق انتصار في الانتخابات المقبلة. وفي الوقت الذي تشترك فيه المعارضة مع مخاوفه من الأكراد إلا أنها تنتقد دعمه للمعارضة السورية، وتعهدت جميعها لو فازت بإعادة العلاقات مع دمشق، كمقدمة لترحيل السوريين. لكن قلة منهم تريد العودة إلى بلد محطم ونظام ديكتاتوري فروا منه. ومن المحتمل مطالبة الأسد برحيل القوات التركية بشكل يحول المناطق الحدودية لملجأ للمتشددين الأكراد.

مركز الناطور للدراسات والأبحاث  Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى