أقلام وأراء

عماد شقور: بداية النهاية لـ«حرب غزة» وبداية البداية لتحقق الدولة الفلسطينية

عماد شقور 23-11-2023: بداية النهاية لـ«حرب غزة» وبداية البداية لتحقق الدولة الفلسطينية

صحيح أن حرب غزة لم تنتهِ بعد. لكن الصحيح الأهم، أن نتيجتها النهائية، بأبعادها الاستراتيجية، حُسِمت منذ ساعاتها الأولى.

صنعت إسرائيل أصناماً عبدها بعض حكّام الدول العربية:

ـ صنم الموساد وأجهزة المخابرات والاستخبارات الإسرائيلية، التي تعرف كل شاردة مهما كانت بعيدة، وكل واردة مهما كانت صغيرة، في فلسطين، في الدول العربية، في الإقليم، بل وفي العالم.

ـ صنم امتلاك إسرائيل لرابع أقوى جيش في العالم، والقادر على الانتصار على كل جيوش الدول العربية مجتمعة.

ـ صنم القدرة على حماية من يقيم علاقات معها، أو يستجير بها، وتمكينه من الانتصار في أي مواجهات عسكرية. (ونذكر في هذا السياق قضية ناغورنو كاراباخ، والصراع بين أذربيجان، المستجيرة بإسرائيل، وأرمينيا).

كل هذه الأصنام الإسرائيلية الصُّنع، التي عَبَدها حكّام بعض الدول العربية، حطّمتها القيادة العسكرية الميدانية لحركة حماس وحلفاؤها، ببضع مئات من المقاتلين الفلسطينيين في قطاع غزة خلال ساعات.

على أن هذه ليست فقط أصناماً، بل هي أكثر من ذلك: إنها القواعد الأساسية التي تقوم عليها السياسة الاستراتيجية الإسرائيلية. وبتحطيمها فقدت إسرائيل أعصابها وتوازنها، وبدأت التصّرف كوحش جريح، وتصبّ كل ما في ترسانتها العسكرية على المدنيين والمنازل والمؤسسات المدنية في قطاع غزة، وطال الحقد على كل ما هو فلسطيني مخيمات ومدن الضفّة الغربية والقدس، من جنين إلى طولكرم إلى نابلس والخليل وبيت لحم وغيرها، حيث بلغ عدد الشهداء والضحايا المدنيين أكثر من مئتين وخمسين، واعتقال أكثر من ثلاثة آلاف فلسطيني في الأسابيع السبعة الماضية.

للسياسة الاستراتيجية الإسرائيلية قاعدة وأساس آخر غير ما تقدّم. هذه القاعدة هي اعتماد سياسة «التهجير». لم تتعلم إسرائيل من تجاربها السابقة. فهي تمارس هذه الأيام في حربها على أهل غزة، وكذلك على أهل الضفة الغربية والقدس، ذات السياسة العقيمة العاقر: هجّرت العصابات الصهيونية العنصرية في النكبة سنة 1948 مئات آلاف الفلسطينيين، من مناطق داخل خطوط الهدنة، إلى الضفة الغربية وقطاع غزة، وإلى «دول الطوق». فبدأت الأعمال الفدائية الفردية من قطاع غزة والضفة الغربية، وكان الرد هذه المرة من تجميع العصابات الصهيونية العنصرية، الهاغاناه والبماح وإيتسل وليحي وغيرها في ما أسمته «جيش الدّفاع الإسرائيلي» الذي نفّذ مجازر غزة وقبية والسّموع وغيرها. ثم جاء العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956، فاستبقته، ليلة انطلاقه بمجزرة كفر قاسم، لمحاولة فاشلة لتهجير «فلسطينيي داخل الداخل». لحقت بذلك حرب 1967، ونجحت إسرائيل في تهجير «النازحين» من الضفة الغربية أساساً، ومن قطاع غزة، الى الضفة الشرقية من نهر الأردن. ومن تلك الضفة انطلق العمل الفدائي بقوة أكبر، وبلغ ذروة جديدة بفضل «معركة الكرامة» يوم 21.3.1968، وتحول من مجرّد عمليات فدائية الى «كفاح مسلّح» ثم مرّة أخرى، وبدور إسرائيلي حاسم، تم تهجير «الكفاح المسلح» بعد أيلول 1970 من الأردن الى لبنان، وكانت النتيجة العملية لذلك تحول جنوب لبنان الى «فتح لاند» وتحوّل حي الفاكهاني في بيروت الغربية، إلى «عاصمة الكفاح المسلّح، والقيادة السياسية لمنظمة التحرير الفلسطينية».

ثم جاء الاجتياح الإسرائيلي لجنوب لبنان، وحصار المقاومة الفلسطينية في بيروت، وبعد صمود أسطوري، نجحت إسرائيل في تهجير قوات المقاومة والقيادة الفلسطينية من لبنان، الى سوريا والجزائر والسودان واليمن وتونس العاصمة. وفي مرحلة قصيرة من توازن في السياسة الإسرائيلية، سنة 1993، اعترفت إسرائيل بعقم سياسة تهجير الفلسطينيين وقواهم الفاعلة وتم، بفضل اتفاقية أوسلو، القبول ببدء عودة الفلسطينيين الى جزء من أرض فلسطين، ابتداءً بـ«غزة أريحا أوّلاً» ولحق بذلك الـ»أوّلاً» الانسحاب من مدن الضفة الغربية باستثناء 20٪ من مدينة الخليل، وكذلك الانسحاب من كل مدن ومخيمات قطاع غزة. لكن هذه «الصحوة الإسرائيلية» لم تعمّر إلا أقل من سنتين، وتمكن اليمين الصهيوني العنصري من عكس الاتجاه ابتداءً من اغتيال رئيس حكومتهم، اسحق رابين.

سياسة إسرائيل بتهجير الفلسطينيين من هنا الى هناك، ثم من هذا الـ»هناك» الى هناك ثالث ورابع، هذه السياسة الإسرئيلية الحمقاء العاقر، عادت اليها الحكومة الإسرائيلية الحالية، فاقعة العنصرية، وتسعى من جديد إلى تهجير أهل شمال قطاع غزة إلى جنوبه، ثم من هناك، ربّما، إلى شماله من جديد، بعد أن اتّخذت مصر والأردن (وغيرهما) قراراً حكيماً برفض قاطع للتهجير إلى سيناء أو الأردن، بل وبالتهديد المعلَن للتصدي العملي له.

ثم: ماذا عن آخر التطورات في حرب إسرائيل على أهل غزة؟

أعلنت إسرائيل (وهي في حالة غيبوبة من صدمة «طوفان الأقصى») هدفين لحربها على أهل غزة، الأول: القضاء على حماس، والثاني: تحرير الرهائن المدنيين، والأسرى العسكريين، دون شروط ولا مقابل. إنهما هدفان غير قابلين للتحقيق. تراجعت بعد سبعة أسابع من بدء حربها: قدّمت ثانياً على أولاً. ثم اضطرت للدخول في مفاوضات حول موضوع الرهائن والأسرى. والأهم ذلك: القبول بالهدنة، ولو لأيام قليلة. على أن ما هو مؤكّد: سيستأنف جيشها قصف غزة وأهلها، ومحاولة اجتياحها. لكن ما هو مؤكّد كذلك، أن الاندفاع الذي تميّزت فيه مرحلة ما قبل الهدنة، سيكون مختلفاً جذرياً عما كان عليه قبلها. إنه بداية النهاية لهذه الحرب التي حُسمت نتائجها النهائية الاستراتيجية في ساعاتها الأولى. كذلك يعرف المتابعون لهذه الأحداث، أن مصلحة رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، وكذلك قيادة الجيش وجميع الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، هي تمديد مرحلة تواصل هذه الحرب إلى أبعد مدىً ممكن، لأنهم يعرفون أن مرحلة الحساب والعقاب ستبدأ فور صمت المدافع وهدير الطائرات.

ما يهمنا، على الساحة الوطنية الفلسطينية الداخلية، هو: ماذا بعد؟ وما العمل؟

أعتقد أنه آن الأوان لخطوة جذرية لتوحيد الساحة الوطنية، ولا بد من تقديم المصلحة الوطنية العليا على كل مصلحة تنظيمية أو حزبية أو شخصية أخرى. فنحن على عتبة مرحلة تاريخية جديدة، وأمام شعبنا فرصة حقيقية لبدء تحقيق واقع جديد، خطوته الأولى إقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود الهُدُنات التي وقعتها «دول الطوق» مع إسرائيل سنة 1949، لتكون تلك الخطوة العملية الأولى على طريق استعادة شعبنا الفلسطيني كامل حقوقه المشروعة. في هذه المرحلة التي فتحت أبواب مراجعة تاريخية لكل ما بدأ بالحرب المتواصلة على أرض فلسطين وشعب فلسطين، منذ «وعد بلفور» مروراً بقرار التقسيم، والنكبة، وعدوان 1967، وكل ما تخلّل هذه العقود من أحداث، ومن معارك في «حرب المئة سنة» المتواصلة حتى اليوم.

هذه الخطوة الجذرية التي أدعو إليها، بندها الأول: الحفاظ على الإطار الفلسطيني الأوسع والأعمق: منظمة التحرير الفلسطينية. التي لا يجوز لنا تجاوزها بقفزة في ظلام. لكن هذا الإطار الجامع ليس مكتملاً طالما بقيت قوى حيّة وفاعلة خارجه، وأولها حركة حماس الفلسطينية، وكذلك الجهاد الإسلامي.

أما بندها الثاني فهو، حسب ما أعتقد وأرى، أن تصدر منظمة التحرير الفلسطينية قراراً بتكليف جميع رؤساء الجامعات والمعاهد الجامعية الفلسطينة، وعددهم نحو خمسة عشر، وينضم إليهم كل من تولوا رئاسة الحكومات الفلسطينية، وكذلك من خمسة إلى عشرة مستقلين فلسطينيين، ليختاروا من بينهم واحداً من المستّقلين، ليكون رئيساً لحكومة فلسطينية انتقالية، ويكون له نائبان: أحدهما تختاره حركة فتح، وثانيهما تختاره حركة حماس، وتكون لهذه الحكومة الانتقالية مهمتان فقط، الأولى: قيادة المفاوضات التي ستنطلق فور انتهاء الحرب الحالية على غزة، وعلى الضفة الغربية والقدس، والثانية: الدّعوة الى انتخابات رئاسية وبرلمانية حيث أمكن، ودون ربط ذلك بموافقة أو رفض إسرائيل، حتى لو لم يكن بالإمكان إجراء هذه الانتخابات إلا في بضع مدن فلسطينية فقط في الضفة الغربية (والقدس منها) وفي قطاع غزة.

 

 

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى