أقلام وأراء

رياض قهوجي: مفاعيل وحدة الساحات وسوء الحسابات ومصير السكان: حرب غزة والحاجة لخطة “باء”

رياض قهوجي 24-11-2023: مفاعيل وحدة الساحات وسوء الحسابات ومصير السكان: حرب غزة والحاجة لخطة “باء”

أظهرت الهجمات الإسرائيلية على غزة حجم شراسة هذه الحرب التي تستمر رغم الإدانات الدولية ورفض جزء كبير من الرأي العام الغربي لها. فقوة اللوبي الصهيوني تمكنت من التخفيف من وطأة الضغوط السياسية، وأمّنت استمرار الدعم للحرب. حتى أنّ الزعماء الأوروبيين الذين ينتقدون حدّة القصف الذي يستهدف المنشآت المدنية والطبية في قطاع غزة، لم يتحرّكوا بجدّية للضغط على اسرائيل لوقف هجومها البري على شمال القطاع، والمتوقع أن يمتد ليطال أجزاء أخرى من غزة، وتحديداً في الجنوب.
لقد تمكنت ضغوط أهالي الأسرى الاسرائيليين من إجبار الحكومة اليمينية على القبول بهدنة موقتة لإتمام عملية التبادل بين الجانبين. الاّ أنّ هذا لن يوقف الحرب التي من المرجح أنّها ستُستأنف بعلم ورضى القوى الغربية وتحديداً واشنطن، التي تريد توجيه ضربة قوية لـ”حماس”. ازدواجية المعايير للغرب أمر مؤسف ومدان، ولكنه واقع يحتّم على الجميع التحرّك على أساسه إن لم يتمكنوا من تغييره.
أبدى مقاتلو “حماس” مقاومة شرسة في تصدّيهم للهجوم البرّي في شمال قطاع غزة، وأظهروا مهارةً كبيرةً في تنفيذ كمائن، مستخدمين الأنفاق والمسيّرات الصغيرة لتحديد أماكن شنّ الهجمات، بخاصة على خطوط الإمداد الخلفية. كما أظهروا كفاءة واضحة في المواجهات من المسافة صفر مع جنود المشاة الاسرائيليين. الاّ أنّ كثافة النيران الإسرائيلية أثّرت بشكل واضح على الأرض. فإسرائيل تستخدم تكتيك التقدّم بأرض محروقة، أي أنّها تعمد إلى تدمير كل مبنى أو مجمّع تُطلق منه النيران أو يُعتبر تهديداً. وتتقدّم القوات المدرعة وتتبعها قوات المشاة للتمشيط والبحث عن مداخل الأنفاق لتدميرها.
كما أنّ القوات الإسرائيلية استهدفت النقاط الضعيفة وتجنّبت المراكز المحصّنة للفصائل الفلسطينية. فهي لم تهاجم الواجهة الشرقية لشمال القطاع لتفادي وقوع مجزرة في دباباتها، كون وجود مساحة من الأراضي الزراعية والمكشوفة هناك سيمكّن المقاتلين من إطلاق صواريخ “الكورنيت” الموجّهة والمضادة للدروع واصطيادها بسهولة. وقامت إسرائيل بحركة التفافية استهدفت السيطرة على طول الخط البحري ومهاجمة وسط مدينة غزة من الجهة الغربية. فتقدّم الآليات داخل المدينة منع الفصائل من استخدام “الكورنيت” بسبب قصر مسافة المواجهة، وهي تتكل على صواريخ “الياسين” المحلية الصنع، والتي لا يشكّل رأسها الحربي خطراً كبيراً على المدرعات مثل “الكورنيت” الروسي الصنع.
وتقوم القوات الإسرائيلية بالتقدّم من الشمال والجنوب والغرب بهدف السيطرة على مدينة غزة، بعدما أتمّت حصارها من الجهات كافة وعزلتها عن الجزء الجنوبي للقطاع. كما قامت بقطع الكهرباء والمياه والاتصالات، وتمنع دخول أي غذاء، وتعمد إلى محاصرة المستشفيات لإخراجها من الخدمة بهدف إفقاد الجزء الشمالي متطلبات الحياة كافة، وإجبار من تبقّى من السكان المدنيين على الانتقال جنوباً. فإسرائيل تريد حرمان مقاتلي الفصائل الفلسطينية في الشمال من أي بيئة مدنية تساعدهم في الصمود أمام هجمات مستمرة وحصار تام.
لكن المناطق الجنوبية ليست أكثر أماناً، إذ أنّها تتعرّض لقصف جوي وبرّي مركّز، بخاصة النواحي الشرقية والوسطى، مع تصريحات لقيادات في الجيش الإسرائيلي تتحدث عن مرحلة ثانية من الحرب البرية، تتضمن التوغل في أجزاء من خان يونس والنصيرات والبريج، بهدف مطاردة مقاتلي الفصائل الفلسطينية هناك. كما أنّ بعض المحلّلين يرجحون إقدام إسرائيل في المراحل المتأخّرة من العمليات البرّية الى اجتياح الشريط الحدودي في رفح، حيث المعبر مع مصر، لتسيطر بشكل كامل على الدخول والخروج من القطاع.
استراتيجية “حماس” حتى الآن ارتكزت على محاولة الصمود عسكرياً واعاقة التقدّم الإسرائيلي قدر المستطاع، على أمل أن يخدمها موضوع الرهائن وعامل الوقت لتكثيف الضغوط من الداخل والخارج على الحكومة الإسرائيلية لوقف الحرب. فحركة “حماس” لا يبدو أنّها تعتمد كثيراً على حلفائها في محور الممانعة، وتحديداً إيران، بأن يهبّوا إلى نجدتها كما كان بعضهم يعتقد. تصريحات القادة في طهران واضحة بأنّهم لن يدخلوا الحرب إلى جانب “حماس”. كما أنّ العمليات المحدودة التي شنّتها الميليشيات التابعة لإيران في سوريا والعراق واليمن، لم توفّر أي إسناد عسكري لـ”حماس” في غزة بأي شكل من الأشكال. فما أُطلق من صواريخ من سوريا نحو الجولان أو الجليل الأعلى لا يُذكر، وما فعلته الميليشيات في العراق استهدف قواعد أميركية هناك، وما أطلقته الميليشيات الحوثية من صواريخ بالستية وجوّالة ومسيّرات لم تصل الأراضي الإسرائيلية وتمّ اعتراضها وهي في طريقها. جميع اللاعبين من محور الممانعة يتحرّكون ضمن قواعد اشتباك واضحة.
أما اختطاف السفينة من قِبل الحوثيين، فهو أضرّ بهم ولم يخدم غزة بأي شكل. فقد سلّطت أنظار المجتمع الدولي على الخطر الذي تمثله اليوم الميليشيات الحوثية على الملاحة الدولية في منطقة باب المندب، وسيكون لعملها تداعيات مستقبلية من ناحية امتلاكها القدرات العسكرية لتهديد الملاحة الدولية مع وجود نيّة لديها لتنفيذ ذلك عندما تشاء بحجة استهداف سفن تملكها أو تشغّلها جهات إسرائيلية.
ويبقى موضوع جبهة جنوب لبنان الشغل الشاغل للجميع. فقد أظهر “حزب الله” مدى تنامي قدراته العسكرية، حيث يمتلك اليوم تشكيلة كبيرة من الأسلحة التكتيكية والتي يستخدمها مقاتلوه بشكل فعّال ضدّ المواقع والمستعمرات الإسرائيلية على طول الحدود. وهو خاض مواجهات بأسلحة مباشرة وغير مباشرة كبّدت إسرائيل خسائر في صفوف المدنيين والعسكريين إضافة إلى الخسائر المادية. لقد حشدت إسرائيل ثلث قواتها على الحدود الشمالية تحسباً أو استعداداً لحرب كبيرة على هذه الجبهة.
إلاّ أنّ عمليات “حزب الله” لم تعوق عمليات القوات الإسرائيلية في غزة. فهذه القوات تقدّمت واحتلت مناطق عدة وباتت تحاصر مدينة غزة بشكل كامل. وهي نفّذت ذلك في وقت كانت طائراتها وسلاح مدفعيتها في الشمال يقصفان أماكن عديدة في جنوب لبنان.
لكن يبدو أنّ هجمات “حزب الله” قد أوجدت مشكلة للحكومة الإسرائيلية، إذ انّ سكان المستعمرات الشمالية الذين فرّوا جنوباً يطالبون اليوم بإنهاء خطر “حزب الله” كشرط لعودتهم. وهو أمر قد لا تستطيع الحكومة أن تتغاضى عنه بعد ما جرى في غلاف غزة في هجوم “حماس” في 7 تشرين أول (أكتوبر) الفائت. فانتشار مقاتلي “حزب الله” بأسلحتهم الثقيلة على طول الشريط الحدودي مع إسرائيل، وإطلاق الفصائل الفلسطينية لصواريخ الكاتيوشا على العمق الإسرائيلي من جنوب لبنان قد أعطيا إسرائيل أوراقاً قوية تستخدمها في مجلس الأمن في ما يخصّ تنفيذ القرار 1701 ودور قوات الطوارئ الدولية (اليونيفيل) فيه.
لقد زادت التطورات في جنوب لبنان حجم القلق الدولي من إمكان انزلاق لبنان إلى حرب مع إسرائيل، في وقت تضغط واشنطن على الحكومة الإسرائيلية لثنيها عن شنّ حرب استباقية على لبنان. وقد تؤدي حرب على لبنان إلى صرف نظر المجتمع الدولي عن مصير سكان قطاع غزة الذين تسعى الحكومة اليمينية الإسرائيلية إلى ترحيلهم. وبعدما التزم “حزب الله” بوعده بدعم “حماس” في غزة، وفي ضوء ما جرى من تطورات، فإنّ السؤال الذي يجب أن يُطرح اليوم هو: هل فتح جبهة جنوب لبنان منع إسرائيل من اجتياح شمال غزة، وهل سيمنعها من توسيع عملياتها البرية لاحقاً؟ وهل عواقب دخول لبنان منفرداً الحرب من دمار هائل سيلحق في بيروت ومدن أخرى ستنقذ غزة أو تخفّف من معاناة أهلها حالياً؟
أما في ما يخصّ حرب غزة، وفي ضوء ما حدث ومتوقع أن يحدث بعد استئناف العمليات العسكرية، فما هي خطط قيادة “حماس” لإنقاذ سكان غزة من الدمار؟ هي وضعت خططاً ناجحة وتجهّزت جيداً لمواجهة عواقب عمليتها ضدّ المواقع العسكرية الإسرائيلية، والتي، بحسب العديد من التصريحات لمسؤولين فلسطينيين، لم تتضمن دخول مجموعات فلسطينية مسلّحة إلى المستوطنات وقتل وخطف هذا العدد الكبير من المستوطنين. وبالتالي، هناك خطأ أو سوء حساب كبير قد حدث وتستغله إسرائيل الآن بنجاح للحصول على الدعم الغربي غير المحدود لشن هذه الحرب الشرسة على غزة.
وبناءً عليه، ماذا بات هدف الحرب من وجهة نظر قيادة “حماس”؟ فميزان القوى لصالح إسرائيل، والتي تستمر بالتقدّم رغم تكبّد قواتها لعدد كبير من الخسائر. فهي استدعت 350 ألفاً من الاحتياط، أي أنّها تملك ميدانياً ما يكفي لخوض حرب على جبهتين في آن واحد. والغرب يوفّر لها الدعم الاقتصادي لتستمر في الحرب، وقد يكون ذلك لفترة أطول مما نتصور.
يجب على قيادة “حماس” وضع ما يُسمّى بالخطة “ب” لمواجهة نزاع عسكري يبدو أنّه أكبر بكثير مما خُطّط له في 7 تشرين الأول. الأولوية الآن يجب أن تكون لوقف قتل المدنيين وتدمير بلدات القطاع وجعله غير صالح للسكن. يجب إفشال مخطّط اليمين الإسرائيلي المتشدّد بتهجير سكانه والتركيز على المكاسب السياسية التي تخدم الشعب الفلسطيني وقضيته. فهي ليست حرب بقاء حركة أو حزب، بل بقاء شعب بأسره.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى