منوعات

بكر أبو بكر: الفكرة تجرّ الفعل والقائد التائِه

بكر أبو بكر 6-5-2023: الفكرة تجرّ الفعل والقائد التائِه

حضرتُ أنا وأحد الأخوة الكرام ندوة سياسية وشاركنا فيها كمتحدثين وهي الندوة التي نظمها أحد مراكز الدراسات المرموقة.

ولما اعتلى القائد السياسي لأحدى الفصائل الفلسطينية منصّة الحديث، طلبت من صديقي أن يراقب أمورًا ثلاثة في كلمة أو مداخلة القائد السياسي وهي:

منهجية الطرح وتسلسل الأفكار

وطرق صلب الموضوع عنوان الندوة

وأن يأتي بشيء جديد ومفيد

فضحك صديقي وقال: أستطيع أن أعطيك الجواب من الآن!

فقلت له: دعنا نرى ولا نحكم مسبقًا.

كان القائد السياسي خالي الوفاض! فهو لم يستطع أن يخرج عن محيط فوضاه الداخلية وتبعثر أفكاره وافتقاده لأدوات الفكر والعرض، فتاهَ بين جبال الكلمات بحيث لم يجد منها الا لوازم مكرّرة لا تغني ولا تسمن من جوع، والى ذلك كانت جبال الكلمات والأفكار تنظر إليه بعجب فها نحن نحيط بك فلماذا لا تستخدمنا؟

اضطررت أن أتدخل وصديقي في محاولة لدعم الرأي الوحدوي العام (وإن تم طرحه من قبل القائد السياسي بفوضوية وبلا منهج) وحاولنا أن نضفي على كلامه إطارًا فكريًا ورؤية!؟ شفقة على الرجل من جهة، ورغبة بألا ينفضّ الجمهور عن الفكرة الوحدوية الجامعة لمجرد أنها عُرضت بشكل بائس ومملّ ومكرر.

في ندوة مركز الدراسات المذكور كان جلّ الحضور لحُسن الحظ -وهذا شيء حسن- من الطلبة أخوات وأخوة ولذلك فهم لم يتركوا الكلمات المبعثرة والأفكار التائهة للقائد السياسي أن تمر مرّ الكرام-وإن كانت مداخلتنا قد خففت الكثير من الحنق عليه كما همس بأذننا أكثر من أخ بعد نهاية الندوة- بل مارسوا ما يبرعون به من نقد للأداء عامة سواء لكلمة القائد السياسي ذاته، أو للفصائل الوطنية عامة (وتشمل الفصائل الوطنية مَن تُسمي نفسها الاسلاموية تمييزًا وبغرض إضفاء شيء من التبجيل والقداسة عليها لدى الجمهور المتلقي)

في لقاء له في مكتبه في يوم لاحق حاولت أن أطرح عليه ضرورات امتلاك ناصية التأثير بالآخرين ليس فقط بقوة الكلمات وإنما بمصداقية الطرح ومنهجيته أي ضمن ضمن النقاط التي تداولتها أنا وصديقي، ومضيفًا عليها الشيء الكثير مما يعد من أصول التأثير بالآخرين لا سيما في ظل وضع سياسي بائس يحتاج لقائد سياسي صادق وماتع وقادر على دخول قلوب الجماهير بعمله وشخصيته ولسانه.

للعلم كان القائد السياسي يستمع لي في مكتبه وهو تائه! فالعينان زائغتان، ولغة الجسد صفرية، فلا حياة لمن تنادي، حتى إنني لم أظنه كان يسمع أصلًا ولربما ظنّ أنه بموقعه أو كرسيّه يمتلك كل ما يحتاجه من علم!؟ فمن هذا الذي يتحفنا ببعض أفكاره التافهة!

تذكرتُ هذه الحادثة البائسة أو الحادثتين، وأنا أحضر وأشارك بمداخلة في ندوة هامة للأخ نائب رئيس حركة فتح منذ أيام وقد أجاد بالإيجاز واستطاع أن يستثمر الوقت بالحوار أكثر من الإلقاء الثقيل بالساعات الطوال.

وللحق كان مستمعًا جيدًا على عادته، وهذا لعمري من أبرز مزايا القائد المؤثر والموثوق إضافة الى مكونات شخصيته الأخرى التي يختلط فيها المكوّن الذاتي بصنع البيئة والوضع السياسي وقدرته على رفعه لمستوى طموحات الجماهير في أسوأ مراحل الانحدار وهي التي نعيش مثلها اليوم بين افتراق وتغوّل صهيوني وانفراط عقد العرب، وانصراف العالم ترقبًا لمكونات النظام العالمي الجديد الذي سيقضي على القوة الوحيدة المهيمنة على العالم.

دعوني هنا ومن وحي الندوتين المختلفتين أعلاه ولقاء القائد الأول، أقول ما قاله العالم الإسلامي والفقيه ابن المبارك “لا يزال المرء عالما ما طلب العلم فإذا ظن أنه قد علم فقد جهل”-المجالسة وجواهر العلم٢/١٨٦.

وبناء عليه سأطرق في مداخلتي هذه-هذا ما قلته في ندوة ثالثة لاحقة حول: الفكر بين السياسة والتنظيم، وربما هنا بشيء من التوسع- أمورًا خمسة كالتالي:

الأمر الأول: إن الفكرة تجرّ الفعل، ولكنها تحتاج لإرادة تحقيق، فإذا فقدت الإرادة ماتت الفكرة. وعندما نطرح في كل أزماتنا ومشاكلنا النظر في المخارج والحلول يبرز بين أعيننا منطق تحويل الأزمات الى تحديات حيت نتعلم دومًا ونستفيد من عوامل قوتنا.

وعوامل قوتنا كثيرة لمن عَميَ عن رؤية مساحات قوته في مقابل عوامل ضعف العدو ما يوجب حُسن التحليل وطرح الخيارات ووضعها أمام القيادة السياسية لتختار وفق نظرتها للعوامل الداخلية والخارجية من جهة ووفق الاستطاعة والامكانية والفرصة ما لا يجب معه فهم أن كلامي-كمركز دراسات أو إطار استشاري أو كمفكر او ككادر تنظيمي- يعني أن تستجيب القيادة تلقائيًا لما أقول لأن هذا منطق لا يستقيم إذ يكفي أهمية استماع القيادة السياسية، بحق الاستماع، وإدخال المقترحات مدخل الجديّة من خلال إدراجها في إطار تفكيرها واستراتيجيتها واجتماعاتها التقريرية. وأن اشتكت كثير من مراكز الدراسات أن أوراقها وتحليلاتها ودراساتها لا تصل أصلا الى طاولة القيادة كما كتب الأخ هاني المصري مؤخرًا وهو صادق بذلك.

ثانيًا: في سياق البحث عن الحلول يتم استعارة عبارة (ما العمل؟) المنسوبة لفلاديمير لينين وما هي له كتوضيح، إذ أنه اقتبسها من رواية للكاتب الروسي “تشيرنيشيفسكي” ومع ذلك فإنه بالإطار الوطني أصبحت اللفظة أو المصطلح من أدبيات الأخ أبوعلي مسعود نائب أمين سر المجلس الاستشاري لحركة فتح، وهو المجلس الذي أتشرف بعضويته.

وللتأصيل التاريخي فإن كُراس لينين الهام عام 1902 جاء استكمالًا لمقال له في مجلة “الايسكرا” أي الشرارة بالعربية قبل عام منه، تحت عنوان “بمَ نبدأ” وفي كتيبه ما العمل؟ تعرض لطرح السؤال والتحليل وطرح الحل بضرورة قيام التنظيم (المنظمة السياسية/الحزبية) ووجود الطليعة وممارسة النضال بمثابرة. وهو يعد اليوم وثيقة تاريخية وليس وصفة شاملة لأي حل.

والى ذلك فلقد أتم تروتسكي الأفكار باعتقادي بمقالته المعنونة “مهامنا”، ولقد تراءى لي أن مختلف التنظيمات في بداياتها قد طرحت نفس الأسئلة وعلى رأسها ما العمل؟ ونظرت للحل من واقعها القائم ما يعد الآن وثائقًا تاريخية هامة.

كما فعل ميشيل عفلق حين كتب “نقطة البداية” و”في سبيل البعث” و”في السياسة العربية” وأيضًا حين كتبت “فتح” منذ العام 1957 هيكل البناء الثوري كأول وثائقها مركّزة على العمل وهياكله وأساليبه كأساس لتلحقه بتأصيل فكري ضمن كراسات: لماذا أنا فتح؟ ومهامنا الحركية، ثم قواعد المسلكية الثورية..الخ.

إذن يعدّ سؤال “ما العمل” سؤالا مفصليا في البدايات، وحين تشتد الأزمات -في كل حين- التي يتصدى فيها المفكرون والمثقفون لتزويد الساسة بما يُجلي إرادتهم ويدفعها نحو اتخاذ القرار المناسب.

وهو بنفس مقدرة الأطر التنظيمية (في حركة فتح حين التفعيل من الخلية حتى لجنة الإقليم، ثم الثوري والاستشاري) حينما تعيش حياتها الحراكية الداخلية بين حوار ونقاش طالع ونازل، وبدأب وتواصل لا يتخلى عن أهمية الاجتماع التنظيمي الدوري، وعن أهمية الحديث والاتصالات صعودا وهبوطًا التي تؤدي لدعم المسار القيادي حتى بالنقد الداخلي -عوضًا عن استخدام وسائل التواصل (التبعثر) الاجتماعي فاشلة التواصل الحقيقي- وهو ذاك الوجاهي بين الكوادر.

ثالثًا: الأصلُ للعمل وجودُ الفكرة. والفكرة الخلاقة تستطيع أن تعكس نفسها على حامليها فتتحول الى فعل يومي مثابر. أنها وقود الفعل.

ومن هنا قد يظهر لدى الكثيرين أن الفعل أو المبادرة بمنطق حركة فتح تصبح الأولوية على الفكرة ما هو استنتاج متسرع فلا عمل بلا هدف وإلا لكان عشوائيًا، لكن أسبقية العمل على التنظير الفكري نعم قد يُظهر “فتح” بمنطق المبادرة أولًا وهذا هنا صحيح.

وإلى ذلك فإن الفكرة والهدف هما المدخل الصحيح لطرح الاستراتيجية والخطة وإجلاء الرؤية ولكليهما تصبح ضرورة امتلاك المنهج العقلي بالتحليل والتبني ضرورية.

دعني هنا أقول أنه في الحركة الوطنية الفلسطينية لا توجد لدينا مشكلة بالإنشاء أي إنشاء الفكرة، فلله الحمد لدينا من العقول المثقفة والمنتجة والمعطاءة الكثير، بل والكثير جدًا فلا مشكلة لدينا بالإنشاء والابداع، وإنما المشكلة بالتبني.

وإن لم يأتِ هذا التبني للأفكار من طليعة نضالية أو قيادة حكيمة (وفكرة النضالية تقتضي الرسالة والمثابرة والتضحية) قادرة على جرها من النقطة أ الى النقطة ب وهي الهدف، تظل حبيسة الصدور أو الأدراج.

لذا وجب هنا تحسين مسالك ودروب العلاقة بين القيادة السياسية أو التنظيمية، وبين المفكرين والمثقفين وبين الكوادر عامة داخل الأطر بإصلاح الأعطاب التي لحقت بهياكل هذه التنظيمات الفلسطينية عامة، سواء تلك الموسومة بالوطنية أوتلك التي تُضفي القداسة بالتسمية الاسلاموية تمييزًا وابتعادًا بمسافات عن الآخرين.

دعني أقول بهذه النقطة تحديدًا وللمرة الثانية أن المشكلة ليست بالأفكار ومن ينتجونها (الإنشاء) وإنما بالآليات (المسالك والدروب) وأيضا في المتابعة المفقودة.

إن فقدان المتابعة يؤدي لتواصل الصراع أو التبعثر، وتشتت الطروحات، والى جانب الآليات ثم المتابعة تبرز النقطة الثالثة وهي نوعية الشخوص التي إن واصلت تكلّسها في مواجهة العقل الشاب الفتِيّ المتجدد فإنها لا شك ستودِي بالفكرة والقضية والتنظيم الى الانهيار.

الفكرة والقائد (الصراع والانتخابات)

في أمور خمسة حول الفكرة والتنظيم تحدثنا عن قوة الفكرة لأن الفكرة تجرّ الفعل، ولكنها تحتاج لإرادة تحقيق، ثم ثانيًا: عن (ما العمل؟) والتي هي عبارة تمثل سؤالا مفصليا في البدايات لأي جماعة أو منظمة، وحين تشتد الأزمات -في كل حين- التي يتصدى فيها المفكرون والمثقفون لتزويد الساسة بما يُجلي إرادتهم ويدفعها نحو اتخاذ القرار المناسب، وفي ثالثًا تحدثنا حول تحسين مسالك ودروب العلاقة بين القيادة السياسية أو التنظيمية

رابعًا: في حالة الاستعصاء والجُمود بل والخمود التي تعانيها الحالة الفلسطينية اليوم في ظل انشقاق ونفاق وعدم وفاق، تم عمل الكثير لتفكيك حالة جمودها لكن طبيعة العوامل المتناقضة داخليًا والمتداخلة خارجيا وطبيعة المصالح الشخصية الذاتية -خاصة للقيادات السياسية- والحزبية المتناقضة،والقوى الإقليمية والعالمية ومفاتيح تحريكها لعدد من القيادات أدت بالوضع الى هذه الحالة.

رغم ما سبق فإن الإيمان يزلزل الجبال. إن تحول من اطمئنان ذاتي شخصي داخلي انكفائي الى ثورة خارجية (خارج النفس) ضد الجامد.

نحن من نتفق مع القاعدة القائلة: إن الثابت الوحيد هو المتغير. والقيادة الحكيمة هي القيادة المؤمنة بالتغيير، القيادة التي تتعلم وتتطور، القيادة التي تكتسب الثقة اكتسابًا بخطوات رجلها وإقدامها.

إن القيادة الحكيمة هي التي تستشعر صخب الأمواج والزلازل والبراكين قبل وقوعها وتحتاط أو تعرف أين تتجه في ميدان التغيير القادم الذي رأته أو توقعته. وتمتلك الى ما سبق فضيلة الرحابة والنقد وقيادة السفينة بين الأمواج العاتية بإرادة تحقيق الهدف.

التغيير العالمي القادم هذه الأيام أصبح في مرحلة الأمتار العشرة الأخيرة التي ستسفر عن نظام عالمي جديد.

وعودة للمراوحة والاستعصاء الفلسطيني الذي صُب في عجلة دورانه الكثير من الزيوت، ولكن لا حركة! فإنه يحتاج لإرادة التغيير من قبل القيادة الحكيمة، وليس فقط الإيمان به.

ولا يتأتى ذلك برأينا إلا من خلال بوابة الانتخابات والمؤتمرات، والممارسة الديمقراطية كثقافة جامعة مانعة لا تستثني أحدًا سواء كان المقصود في إطار حركة “فتح” أو داخل إطار السلطة الفلسطينية التي لن تنجو الا بالتغيير والانتخابات الرئاسية والوطنية أو بالاتفاق الشمولي-لايستثني أحدًا- على غير ذلك ومن خلال المنبر الوحيد الجامع أي منظمة التحرير الفلسطينية.

إن التغيير ليس فقط بالانتخابات وهو الأسرع، ولكنه أيضًا في الثقافة التنظيمية والمجتمعية والبناء الذاتي وهو الأبطأ ولكنه الضروري. والبناء الذاتي مع الجماعي يعطي الأثر الأوسع.

خامسًا: إن الصراع التنظيمي والتعبئة الداخلية الفصائلية، والى جانبها الصراع الوطني-الاسلاموي القائم هو صراع يجب أن يتم إطفاؤه وإلا لا حلّ. بل مزيد من التفتيت والانهيار، ففكرة صراع الفسطاطين أي المعسكرين بين المسلمين أو داخل المسلمين بالبلد الواحد، أو داخل الشعب الواحد فكرة إقصائية بامتياز لا تجلب الا الخراب ومزيد من الابتعاد.

في ذات الأمر نحن من يجب أن يكثف العمل على تكريس العقلية النضالية المنطلقة من أولوية وأسّ القضية الفلسطينية والتحرير ك(رسالة) تتمسك بمبدأ الفتح القائم على ثلاثية أ ب ت (إعمل، بالتزام، وتناغم) حيث المبادرة بالعمل تنفيذًا للفكرة الشاملة والخطة وما يستتبعها من إيمان والتزام عميق بالتنفيذ ضمن خطوات متواصلة متناغمة.

إذن فكرة النضالية تقوم على نقض الفكرة الوظيفية التي تفترض: أنني أقوم بواجبي أو عملي والتزم بيتي وكفى الله المؤمنين شر القتال! إنها تنطلق من عمق (الإيمان) بالفكرة الذي يجعل الأجساد مُجهدة لا تنام وهذا ثانيًا حيث الإيمان مقوّم لا غنى عنه في العقل النضالي.

اما في ثالث الفكرة النضالية فإن (المثابرة) هي ممّا لا غنى عنه، فلا يُقعِد المناضل -أو الطليعة النضالية إن شئت- عقبة أومأساة أو نكوص أوانحدار بل هو الذي يجعل من السقوط بالهوة فرصة للتفكير للخروج منها وبالضرورة سيخرج.

إن العقلية النضالية هي عقلية طويلة النفس بينما تلك الوظيفية ذات نفس قصير.

في إطار التغيير والنضالية نحتاج أن نتعلم دومًا.

ونحتاج أن نصارع ولا نكلّ لإيصال أفكارنا الى القيادة من جهة، والى أوسع قطاع من جهة أخرى.

كما نحتاج لوسائل جديدة وأساليب متجددة ومفاهيم صاعدة.

كما نحتاج لدماء جديدة بلا شك ذات قدرة وأكتاف صلبة تحمل ولا تنهار تحت وطأة الثقل مهما كان الحمل ثقيلًا.

فيما سبق كنت أتحدث في ندوة وفي نهاية الندوة الثالثة هذه انخرطت في حوار كثيف مع عدد من الطلبة الذين كانوا يحملون من الأفكار الإبداعية ما فاقت كثيرًا والى أبعد حد أفكار ذاك القيادي بالندوة الأولى وهو الذي وزع على الجماهير تشتته وتوهانه وربما جموده العقلي والعملي ما استوجب أن يخلي موقعه فورًا قبل أن تدهمه العاصفة.

 

مركز الناطور للدراسات والابحاثFacebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى