أقلام وأراء

الحبيب الأسود: مياه سدود درنة تجرف آلاف الضحايا من يتحمل المسؤولية؟

الحبيب الأسود 16-9-2023: مياه سدود درنة تجرف آلاف الضحايا من يتحمل المسؤولية؟

“مررت بدرنة فلم أجدها، لكنّي رأيت القاتل يختبئ خلف دانيال، ويهرب” بتلك الكلمات أوجز الكاتب الليبي سالم الهنداوي موقفه مما جرى في عروس الجبل الأخضر، مدينة السحر والجمال والفن والطبيعة المذهلة، درنة التي فقدت الآلاف من أبنائها نتيجة ما بات الليبيون يجمعون على نعته بالإهمال.

في العام 1992 أنجز الهنداوي بالاشتراك مع زميله الراحل فاروق النعاس تحقيقا صحفيا مطولا حذرا فيه من تبعات انهيار السدود والصهاريج في درنة، وطالبا بربط خزان مصب الوادي بشبكة حديثة لتوزيع المياه على المدينة، وبذلك يكون الخزان في حالة استهلاك مستمرة للمياه، لكن لا حياة لمن تنادي. وقال “كان هذا التحقيق قبل ثلاثة عقود من الإهمال، وكانت بعدها هذه النتيجة المخيفة.. هذه الكارثة الفاجعة التي قضت على البشر والحجر في لحظات الفناء الرهيبة”.

ينظر أغلب المراقبين اليوم إلى كارثة درنة على أنها جريمة دولة قبل أن تكون نتاجا طبيعيا للمنخفض الجوي المعروف باسم “دانيال”، فكل المؤشرات تدل على أن السيول التي جرفت عددا من أحياء ومناطق المدينة لم تكن بسبب غزارة الأمطار، وإنما بسبب انهيار سدّين كانا يشرفان عليها من أعلى وهي الواقعة في منحدر يطلّ على البحر ويحمل في حد ذاته تهديدا وجوديا إن لم يتم التعامل معه باهتمام دائم.

وطلب رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي من النائب العام المستشار الصديق الصور فتح تحقيق شامل في الكارثة ومحاسبة المسؤولين عن انهيار سدي درنة، مشددًا على أن تشمل التحقيقات كل من ساهم في تعطيل جهود الاستغاثة الدولية وحال دون وصولها إلى المدن المنكوبة.

وقال المنفي في تدوينة نشرها عبر حسابه على منصة إكس “طلبنا من النائب العام فتح تحقيق شامل بوقائع الكارثة، ومحاسبة كل من أخطأ أو أهمل بالامتناع أو القيام بأفعال نجم عنها انهيار سدي مدينة درنة، على أن تنسحب التحقيقات على كل من قام بتعطيل جهود الاستغاثة الدولية أو وصولها إلى المدن المنكوبة”.

ويعتبر التوجه نحو التحقيق اعترافا مبدئيا بوجود مسؤوليات من المفترض أن يتحملها أصحابها أمام القضاء، شريطة الالتزام بالنزاهة والشفافية وبعدم تسييس القضية وملاحقة كل من يثبت تورطه في ملفات الإهمال المتعمد أو غير المتعمد للسدود.

وأشار خبراء إلى أن كميات التساقطات المطرية في أقل من 24 ساعة تجاوزت في حوض تجميع الوادي 200 ملم بما يشير إلى أن حوض التجميع استقبل ما يزيد عن 115 مليون متر مكعب من المياه، وهي كمية أكبر بكثير من قدرة تحمل السدود مجتمعة. وهذه الكميات لم تسجل سابقا.

وكانت دراسة نشرت عام 2002 في دورية “المنصورة” الهندسية استعمل فيها نموذج رياضي للتنبؤ والمحاكاة، حذرت من أن انهيار السد يشكل خطر محتملا على مدينة درنة، وفي العام الموالي 2003 قامت شركة “ستوكي” السويسرية بإجراء دراسة لسدود درنة لصالح وزارة الزراعة الليبية، وقدمت في الدراسة مقترحات لإجراء تعديلات تصميمية لحماية السدين الرئيسيين من الانهيار.

وفي العام الماضي، نشرت مجلة جامعة سبها للعلوم نص رسالة دكتوراه لعبدالونيس عاشور الباحث بقسم الهندسة المدنية، جامعة عمر المختار، بمدينة البيضاء، أكد فيها أن الوضع القائم في حوض وادي درنة يحتم على المسؤولين اتخاذ إجراءات فورية عبر عمليات الصيانة الدورية للسدود القائمة، لأنه في حال حدوث فيضان ضخم فإن النتائج ستكون كارثية على سكان الوادي والمدينة، كذلك إيجاد وسيلة لزيادة الغطاء النباتي بحيث لا يكون ضعيفا ولا يسمح للتربة بالانجراف للحد من ظاهرة التصحر.

ويقول عاشور “من خلال النتائج المتحصل عليها يتضح أن منطقة الدراسة معرضة لمخاطر الفيضانات. لذلك يجب اتخاذ إجراءات فورية بإجراء عملية الصيانة الدورية للسدود القائمة لأنه في حالة حدوث فيضان ضخم فإن النتيجة ستكون كارثية على سكان الوادي والمدينة. كذلك إيجاد وسيلة لزيادة الغطاء النباتي بحيث لا يكون ضعيفا ويسمح للتربة بالانجراف للحد من ظاهرة التصحر”.

ويمتد وادي درنة على حوالي 75 كلم انطلاقا من مشارف بلدة القيقب الواقعة جنوب غرب درنة في اتجاه الشمال ليصب في البحر المتوسط، وتبلغ مساحة حوض التجميع للوادي حوالي 575 كيلومترا مربعا، وهو ينقسم إلى ثلاثة أجزاء: الجزء العلوي والذي يقع في الجزء الجنوبي الغربي من الحوض وتبلغ مساحته 345 كيلومترا مربعا ويمتاز بارتفاع معدلات التساقطات المطرية سنويا والتي تصل إلى حوالي 400 ملم.

وأما الجزء الأوسط فتبلغ مساحته حوالي 140 كيلومترا مربعا ويصل متوسط معدل التساقطات المطرية إلى 150 ملم، ويسجل متوسط التساقطات المطرية في الجزء الثالث الواقع إلى الأسفل بين سد بومنصور والبحر المتوسط حيث المصب معدلا سنويا بحوالي 250 ملم وتتجمع الفيضانات الناتجة عن هطول الأمطار في هذا الجزء ببحيرة سد درنة الركامي.

مقابل جمالها المذهل الذي أعطاها جاذبيتها الاستثنائية، شكّل موقع درنة الجغرافي خطرا يتهدّدها باستمرار، وعرفت تواريخ صادمة. في العام 1951 كان الفيضان الذي تسبب في خسائر كبيرة للجنود الألمان خلال الحرب العالمية الثانية، ثم كانت فيضانات أعوام 1956، و1968، و1986، لكن الثابت أن فيضان 1958 كان الأشد من حيث الخسائر البشرية.

ونتيجة تكرار الفيضانات بسبب مرور الوادي بوسطها، أوصت الدراسات التي أجريت بعد فيضان 1958 بضرورة إنشاء أكثر من سد واحد من أجل حماية درنة ومن أجل حجز الكميات الهائلة من المياه التي تجري بالوادي في وقت الفيضان وينتهي بها الأمر في البحر.

وفي العام 1961 تم بناء سد وادي درنة، وتولت الدولة صيانته في العامين 1977 و1986. ويقول السكان المحليون إن بناء السدود أنهى مشكلة الفيضانات بالمدينة، والتي كانت تتسبب في خسائر كبيرة في الأرواح والممتلكات، لكن الخطر الحقيقي كان يكمن في تلك السدود ذاتها. في بداية السبعينات قامت إحدى الشركات اليوغسلافية ببناء سدين ركاميين على مجرى الوادي، وهما “سد البلاد” الذي يبعد مسافة حوالي 1 كلم جنوبا من قلب المدينة، و”سد بومنصور” الذي يبعد حوالي 13 كلم جنوب السد الأول.

يجمع أغلب الباحثين على أن السدود المائية في ليبيا تم تصميمها وإنجازها بطريقة عشوائية، وذلك بسبب شبكات الفساد التي كانت دائما متغلغلة في مفاصل الدولة، وتم بناء سدود درنة على أرض بواطنها كهوف وفجوات وهي غير مؤهلة أصلا لاحتضان سد مائي بسبب انجرافات التربة والانزلاقات الطينية وغياب القدرات التأمينية، وقد تم تفسير ذلك بغياب الدراسات المتخصصة التي كان يجب أن يتم إعدادها من قبل خبراء موثوق بهم.

وفي الوقت الذي كانت فيه أغلب السدود تحتاج إلى صيانة دورية، وبصورة جدية بعيدة عن دواليب الفساد، أشارت أوساط متخصصة إلى أن أي خطة للصيانة تحتاج إلى موازنة تتراوح بين 7 و8 ملايين دولار فيما لم تتجاوز المخصصات الحكومية السنوية لإدارة السدود 400 ألف دولار لا تصرف بانتظام.

لكن تقارير الإيراد والإنفاق الصادرة عن المصرف المركزي قالت إن وزارة الموارد المائية بحكومة الوحدة الوطنية حصلت خلال العام 2022 على موازنة سنوية تقدر بحوالي 87 مليون دولار وصرفت ما يزيد عن 3.1 مليون دولار من باب المرتبات والباقي من باب النفقات التسييرية والدعم، لكن سدود درنة كانت خارج حسابها بسبب حالة الانقسام الحكومي التي لا تزال سائدة بين غرب وشرق البلاد.

ووفق تقرير ديوان المحاسبة للعام 2021 فإن وزارة الموارد المائية تقاعست عن اتخاذ الإجراءات اللازمة بقفل الاعتمادات منتهية الصلاحية عن عامي 2012 و2013، ومن ذلك اعتمادان خاصان بإعادة تأهيل سد درنة من قبل شركة برسيل التركية، واعتمادان بخصوص تجميع مياه وادي درنة.

وكان قد تم في العام 2009 إبرام عقد بين شركة برسيل وهيئة المياه لصيانة سدود درنة، وفي النصف الثاني من 2010 إلى أن جاءت انتفاضة فبراير 2011 عندما سيطر تنظيم القاعدة على المدينة وجعل منها أول إمارة للتنظيم على ضفاف المتوسط، تم الاستيلاء من قبل المسلحين على آليات العمل من شاحنات ورافعات وسيارات وغيرها فيما اضطر المهندسون والعمال الأتراك للعودة إلى بلادهم. وفي العام 2012 حاول المشرفون على العمل العودة لمباشرته شريطة استعادتهم الآليات المنهوبة وهو ما رفضته الجماعات المسلحة، وقالت إنها مستعدة للتعاون فقط في حال قبول إدارة الشركة تأجير الآليات ممن نهبوها واعتبروها غنيمة حرب.

ويرى المراقبون أن سيطرة الجماعات الإرهابية وتداول تنظيمي القاعدة وداعش على حكم درنة بداية من فبراير 2011 وحتى تحريرها في صيف 2018 ثم مواجهة المزيد من الإهمال تحت سيطرة قوات الجنرال خليفة حفتر، أدت بالسدود المائية إلى الوضع الذي بلغته مع وصول عاصفة “دانيال”.

كما أن وجود السدود خلق حالة من الاطمئنان لدى السكان المحليين مما جعلهم يزحفون بالمباني والطرقات والمنشآت على ضفاف الوادي، ويبدو أن السلطات تجاهلت الوضع أو كانت غير واعية بمخاطره.

اليوم، وبعد حدوث الكارثة غير المسبوقة، بات من الضروري إعادة النظر في خارطة السدود خاصة في المنطقة الشرقية، وتحديد المخاطر التي قد تسببها، لاسيما أن الفساد والإهمال أضحيا سمة بارزة للحكومات المتتالية مع اتساع ظاهرة نهب المال العام والتلاعب بموازنات إنشاءات البنية التحتية.

وإذا كان الرئيس المنفي قد دعا النائب العام إلى التحقيق في كل من تثبت مسؤوليته عن الكارثة، فإن التحقيق في حاجة إلى غطاء شرعي من المجتمع الدولي، خصوصا وأن الكثير ممن عرقلوا عمليات الصيانة وتجاهلوا أبجديات التعامل الدوري مع السدود المائية من إزالة الطمي والأوحال وتنفيسها عند الامتلاء وفق المعطيات العلمية التي حددها المهندسون والخبراء الذين طالما حذروا من إمكانية الوصول إلى هذا الوضع المأساوي، سيكون من الصعب تجاوز نتائج الكارثة الوخيمة وتأثيراتها النفسية والاجتماعية وكذلك السياسية.

 

 

مركز الناطور للدراسات والابحاثFacebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى