تقرير عن معهد واشنطن – روسيا تشق لنفسها طريقاً في شمال أفريقيا
معهد واشنطن – سارة فوير و آنا بورشفسكايا *- 2/11/2017
منذ استلامه السلطة رسمياً في أيار/مايو 2000، سعى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى إحياء نفوذ روسيا في المناطق التي خسرها الكرملين خلال تسعينيات القرن الماضي. وعلى الرغم من أن جهوده كانت أكثر وضوحاً في الشرق الأوسط، إلّا أنّه استهدف أيضاً شمال أفريقيا حيث توجد لموسكو مصالح جيوستراتيجية واقتصادية وسياسية.
وقد أدّت أحداث “الربيع العربي”، التي انطلقت من شمال أفريقيا، إلى تقويض النفوذ الذي سعى بوتين جاهداً إلى استعادته وعززت تصوّر الكرملين بأن الغرب يقف وراء جميع الحركات الاحتجاجية التي استهدفت تفكيك الأحكام الاستبدادية. ووفقاً لتقديرات بوتين، يعتمد تفوّق روسيا على مواجهة الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين. ويخدم توسيع رقعة النفاذ إلى منطقة البحر الأبيض المتوسط هذا الهدف الأشمل من خلال إرساء موطئ قدم في منطقة نفوذ أوروبية والحدّ من قدرة الولايات المتحدة على المناورة عسكرياً. ومن الناحية الاقتصادية، توفر منطقة شمال أفريقيا فرصة لروسيا لبيع الأسلحة، وبناء شراكات في قطاع الطاقة، والاستثمار في تطوير البنية التحتية. ويمكن لموسكو أيضاً أن تدّعي أنها متواجدة في المنطقة لمكافحة الإرهاب.
إن علاقات روسيا الأكثر قوة هي مع ليبيا والجزائر، الحليفتان السابقتان من فترة الحرب الباردة. ولكن حتى الروابط الثنائية مع المغرب وتونس قد نمت خلال السنوات الأخيرة.
ليبيا
إن الانتفاضة الليبية في عام 2011، والتدخل اللاحق الذي قامت به منظمة حلف شمال الأطلسي بهدف ردع قوات معمر القذافي عن ارتكاب مجزرة في بنغازي، وانهيار نظام القذافي، كلها عوامل لم تفسد الوضع القائم في البلاد فحسب — بل وضعت حداً أيضاً لسلسلة اتفاقات اقتصادية وعسكرية كان بوتين قد أبرمها مع الدكتاتور الليبي. وقد حاولت موسكو خلال السنوات الست الماضية إنقاذ هذه الصفقات. ففي تموز/يوليو 2017، بدأت شركة النفط والغاز الروسية الحكومية “روسنفت” بشراء النفط من “المؤسسة الوطنية للنفط” الليبية، ويتطلع بوتين إلى مرفأ طبرق وغيره من الموانئ لإبرام اتفاقات محتملة لرسو السفن. ومن شأن هذا التطور الأخير أن يؤدي إلى استثمار روسي كبير، لكن التواجد بشكل دائم في المياه الليبية قد يجعل من روسيا صاحبة نفوذ في المنطقة ولا يجب الاستهانة بها.
ومن الناحية السياسية، تميل موسكو إلى حدّ كبير نحو الجنرال خليفة حفتر، قائد “الجيش الوطني الليبي” في المنطقة الشرقية الغنية بالنفط. فروسيا ترى فيه رجلاً قوياً ناشئاً يعلن كراهية مشتركة تجاه الجماعات الإسلامية. (أما الحقيقة فهي أكثر تعقيداً، إذ إن حفتر تعاون عن كثب مع السلفيين، وعموماً سيتحالف بوتين مع أي جهة فاعلة تميل، مثله، إلى تقويض نفوذ الغرب). وقد تحالف “الجيش الوطني الليبي” بقيادة حفتر مع “مجلس النواب” في مدينة طبرق، الذي لم يصادق بالكامل على “حكومة الوفاق الوطني” المعترف بها دولياً ومقرها طرابلس بقيادة رئيس الوزراء فايز السراج. وقد زار حفتر روسيا ثلاث مرات خلال عام 2016، وفي كانون الثاني/يناير 2017، صعد على متن حاملة الطائرات الروسية “الأميرال كوزنستوف”، التي رست حينئذ قبالة ساحل طبرق. وفي آذار/مارس، أفادت بعض التقارير أن القوات الخاصة الروسية تمركزت غرب مصر لمساعدة قوات حفتر عبر الحدود. ومع ذلك، بقيت موسكو على تواصل مع “حكومة الوفاق الوطني”، وذلك جزئياً لتقديم نفسها كصانع سلام بديل عن الأمم المتحدة، والجزء الآخر للتحوط ضد حفتر. وفي نهاية المطاف، إن أكثر ما يهم موسكو هو بسط نفوذها في لبيبا، بغض النظر عمن يتولى دفة الحكم في البلاد. ومن بين المنافع الإستراتيجية الكثيرة لليبيا، تبدو فرصة التأثير على الرئيس عبد الفتاح السيسي في مصر المجاورة فرصة مهمة.
الجزائر
منذ عام 2001، عندما وقعت روسيا والجزائر إعلاناً للشراكة الاستراتيجية، توطدت العلاقات الثنائية في القطاع العسكري بشكل خاص. وفي عام 2006، أبرمت روسيا اتفاق أسلحة مع الجزائر بقيمة 7.5 مليار دولار – وهو أكبر عملية بيع للأسلحة الروسية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي – شمل برنامج لتحديث الجيش الجزائري وتدريبه، إلى جانب إلغاء دين مستحق لموسكو منذ الحقبة السوفيتية بقيمة 4.7 مليار دولار. وقد ساهمت مبيعات الأسلحة في الأعوام 2010 و 2012 و 2013 و 2015 في تزويد الجزائر بمعدات عسكرية إضافية، شملت طائرات هليكوبتر ودبابات وغواصات. وفي عام 2016، بدأت الجزائر وروسيا تتبادلان المعلومات الاستخباراتية حول تحركات الجماعات الإرهابية في جميع أنحاء شمال أفريقيا وأعلنتا خططاً إضافية للتعاون العسكري الأعمق.
كما سعت روسيا إلى ترسيخ حضور أوسع لها في قطاعي النفط والغاز اللذين يكتسيان أهمية كبيرة في الجزائر. غير أن هذه الأخيرة، كونها ثالث أكبر مزود للغاز الطبيعي إلى أوروبا بعد النرويج وروسيا، نظرت إلى روسيا على أنها منافس أكثر من شريك في مجال الطاقة. فشركة “غازبروم” الروسية تملك أصولاً في الجزائر، وقد فازت بعقود للتنقيب عن النفط والغاز وتطوير [استخراجهما]، لكن القوانين الصارمة التي تحكم الاستثمارات الأجنبية في الجزائر تحدّ من الإمكانات الاستثمارية لهذه الشركات.
تونس
تَعتبر موسكو منشأ “الربيع العربي” مركزاً محتملاً للشركات الروسية الراغبة في دخول الأسواق الأفريقية، ومنذ عام 2011 ركزت العلاقة الثنائية على مكافحة الإرهاب والطاقة النووية والسياحة. وفي عام 2016، بدأت موسكو تشارك تونس بصور التقطتها الأقمار الصناعية للجماعات الإرهابية المتنقلة في أنحاء المغرب العربي، في خطوة أثنى عليها المسؤولون التونسيون لاحقاً بفضل المساعدة التي وفرتها لإحباط العديد من الهجمات المرتبطة بشبكات التهريب على طول الحدود الليبية. وفي ذلك العام نفسه، أعلنت الدولتان عن إبرام اتفاق للتعاون في مجال الطاقة النووية، وتعهدت موسكو بتزويد القوات المسلحة التونسية بطائرات هليكوبتر، ونظارات للرؤية الليلية، وسترات واقية من الرصاص، على الرغم من أنه ما زال من غير الواضح ما إذا كان قد تمّ تسليم هذه الإمدادات.
وبرز المؤشر الأوضح على تنامي الوجود الروسي في تونس في قطاع السياحة. ففي الفترة ما بين عام 2012 وأوائل عام 2016، هزت تونس سلسلة من الهجمات الإرهابية أدّت إلى سقوط أعداد كبيرة من الضحايا، وانخفاض عائدات قطاع السياحة فيها حيث امتنع السياح من أوروبا عن زيارة تونس. وبدأ الروس، الذين كانوا آنذاك ممنوعين من السفر إلى مصر وتركيا، بسبب النزاعات السياسية والمخاوف الأمنية، بملء الفراغ. ففي عام 2016، زار نحو 600 ألف سائح روسي تونس، في زيادة بواقع عشرة أضعاف عن العام الذي سبق وبنسبة تخطت 10 في المائة من عدد زوار البلاد في ذلك العام. وقد رحبت شركات التجزئة التونسية بوجود الروس، وأثنت الحكومة على المساعدة التي وفرتها روسيا في مجال مكافحة الإرهاب. كما اعترف المسؤولون علناً بتأثير روسيا المتنامي في المنطقة، بما في ذلك في سوريا.
المغرب
في عام 2016، التقى ملك المغرب محمد السادس مع الرئيس بوتين في موسكو، في أول زيارة يقوم بها العاهل المغربي لروسيا منذ عام 2002. وقد سعى الملك إلى تعزيز العلاقات الاقتصادية من خلال تجديد اتفاقية التجارة الحرة بين الدولتين وإفساح مجال أكبر أمام الروس للاستفادة من الثروة السمكية المغربية على ساحل المحيط الأطلسي. وجاءت زيارته على خلفية العلاقات المتوترة مع إدارة أوباما، حين أدى انخفاض دعم الولايات المتحدة لموقف المملكة المغربية فيما يخص الصحراء الغربية إلى إثارة استياء المسؤولين المغاربة، واعتراضهم على تقييم وزارة الخارجية الأمريكية لسجل المغرب في مجال حقوق الإنسان.
لقد بدأت العلاقات بين المغرب والولايات المتحدة في التعافي من هذه النقاط المنخفضة التي بلغتها، لكن المغرب يواصل توطيد “شراكته الإستراتيجية” مع روسيا، وهو ما يتجلى في الإعلان الذي صدر في تشرين الأول/أكتوبر حول إبرام إحدى عشر اتفاقية في قطاعيْ الزراعة والطاقة والقطاع العسكري، بما في ذلك اتفاقية تبدأ روسيا بموجبها في توريد الغاز الطبيعي المسال للمملكة. وتماماً كتونس، تنظر روسيا إلى المغرب باعتباره بوابة اقتصادية إلى أفريقيا؛ كما تعتبر المملكة نموذجاً يُحتذى به لمكافحة التطرف الإسلامي في محيطها.
توصيات للسياسة الأمريكية
في ظل غياب أي موقف حازم من جانب الولايات المتحدة، سيستمر على الأرجح اجتياح روسيا المتنامي لجميع دول المغرب العربي. وسوف تشكل هذه النتيجة تحدياً للمصالح الاستراتيجية الأمريكية المتمثلة بالحفاظ على الاستقرار لصالح حلفائها من حلف شمال الأطلسي ومن غير حلف “الناتو” في المنطقة، وضمان حرية عمليات البحرية الأمريكية في جميع أنحاء البحر المتوسط، ودعم الجهات الفاعلة الإقليمية التي تعمل من أجل الإصلاح السياسي والاقتصادي. وبالتعاون مع حلفاء الولايات المتحدة الأوروبيين، يتعيّن على صناع السياسة تعزيز التعاون الإقليمي لمكافحة الإرهاب بين دول المغرب العربي وتوسيع وجود البحرية الأمريكية عبر البحر الأبيض المتوسط. ومن شأن وضع المزيد من السفن خارج روتا في إسبانيا، على سبيل المثال، أن يساعد على تقييد الإجراءات الروسية.
بالإضافة إلى ذلك، من الأفضل أن ينظر صناع السياسة في اتخاذ تدابير منخفضة التكلفة نسبياً لتعزيز التحالفات التقليدية مع المغرب وتونس، في حين يشيرون أيضاً إلى نية الولايات المتحدة في الانخراط مع الجزائر وليبيا:
⦁ في المغرب، على الولايات المتحدة مواصلة جهود إعادة بناء الثقة مع حليف أساسي على صعيد مكافحة الإرهاب. ويُعتبر تعيين سفير خطوة مهمة في هذا المجال. بالإضافة إلى ذلك، يجب على صناع السياسة تعميق العلاقات مع المملكة من خلال توسيع التبادلات التعليمية والثقافية، مع تشجيع الزخم سعياً إلى إجراء إصلاحات سياسية واقتصادية في المغرب.
⦁ في تونس، سيكون استمرار المساعدة أساسياً في مراقبة الحدود، وتدريب الشرطة المدنية، ومكافحة الإرهاب المحلي، والبرامج التي تقوي المؤسسات الديمقراطية ومنظمات المجتمع المدني الناشئة التي تعمل على توطيدها.
⦁ في الجزائر، لا ينبغي أن يظلل الحذر التقليدي من توثيق العلاقات مع الولايات المتحدة واقع أن أكبر دولة في القارة الأفريقية لا تزال شريكاً أساسياً في مجال الأمن، كما أوضحت مساعدة الجزائر بعد مقتل أربعة من القوات الخاصة الأمريكية في النيجر مؤخراً. بالإضافة إلى ذلك، يمكن إيلاء الجزائر الأولوية من ناحية تحقيق انفتاح اقتصادي وسياسي، بسبب رئيسها المريض الذي هو في الثمانينات من عمره وانعدام خطة خلافة واضحة. على إدارة ترامب الانخراط في قطاعيْ الأعمال والطاقة والقطاع العسكري في الجزائر لضمان استعداد الولايات المتحدة بشكل جيد في حال حدوث هذا الانفتاح.
⦁ في ليبيا، يجب على الإدارة الأمريكية قياس المخاطر المترتبة على الاستمرار في عدم الانخراط، نظراً إلى تصميم روسيا على ملء الفراغ في القيادة. ومن غير المحتمل أن يؤدي انخراط روسيا في ليبيا إلى إرساء الاستقرار فيها، حيث ليس لدى موسكو مصلحة كبيرة في مساعدة الأطراف المتناحرة على معالجة مطالبها الكامنة والأساسية.
وفي آذار/مارس 2017، أدلى رئيس “القيادة الأمريكية في أفريقيا” الجنرال توماس والدوسر بشهادته أمام “لجنة الخدمات المسلحة” في مجلس الشيوخ الأمريكي، وقال إن روسيا تسعى إلى ممارسة أقصى قدر من النفوذ على المنتصر الأكثر ترجيحاً في الحرب الأهلية الليبية، وإن هذا النفوذ لن يصب في مصلحة الولايات المتحدة. وعلى هذا النحو، يتعيّن على إدارة ترامب أن تُدلي بتصريحات وتتخذ إجراءات أكثر وضوحاً لدعم مبادرات إحلال السلام الأخيرة التي قام بها المبعوث الخاص للأمم المتحدة غسان سلامة، وأن تنظر حتى في إجراء استثمارات متواضعة في برامج الحوكمة وبناء القدرات للناشطين الليبيين المقيمين في تونس.
*سارة فوير هي زميلة “سوريف” في معهد واشنطن، و آنا بورشفسكايا هي زميلة “آيرا وينر” في المعهد.