شؤون اقليمية

العلاقات الأمريكية – التركية .. سجلّ من التفاهمات والخلافات

مها علام  *- 28/7/2020

ظلت أنقرة لأكثر من سبعة عقود واحدة من أكثر الحلفاء أهمية بالنسبة للولايات المتحدة، واعتُبرت بمثابة حائط صد ضد الاتحاد السوفيتي خلال الحرب الباردة. وفي التسعينيات، لعبت تركيا دورًا رئيسًا في احتواء إيران والعراق، بالإضافة إلى دعم استقرار منطقة البلقان، وباتت ممر الطاقة الممهد بين الشرق والغرب. لذا، ليس من قبيل المصادفة أن توصف العلاقات بين واشنطن وأنقرة بـ”الشراكة الاستراتيجية”. إن أهمية موقع تركيا الجيوسياسي والاستراتيجي، وما تمثله لأمن الغرب والحلف الأطلسي، قد سمح لهذه الشراكة بأن تظل ذات أهمية حيوية.

مع ذلك، اتخذت العلاقات بين الجانبين منحى متأرجحًا منذ محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا في يوليو 2016. وتُوج هذا المنحى المتأرجح وتَغذّى مع وصول الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” لسدة الحكم. وبدا ظاهريًّا أن العلاقات في طريقها لدخول مرحلة جديدة عنوانها الخلاف والتأزم. الأمر الذي آثار تساؤلًا رئيسًا مفاده: هل حقًّا انتهت مرحلة التفاهمات في العلاقات بين أنقرة وواشنطن بطريقة تُنذر بالدخول في مرحلة جديدة عنوانها الخلاف؟ بعبارة أوضح: هل انتهت علاقة الشراكة الاستراتيجية؟ أم إن التفاهمات لا تزال قائمة حتى وإن تمت تحت الطاولة؟

خلافات على السطح

طفا على سطح العلاقات بين واشنطن وأنقرة عددٌ من الخلافات البارزة التي اعتُبرت بمثابة محددات رئيسة لتلك العلاقات. ويمكن القول بشكل عام، إن مجالات الخلاف الرئيسة دارت حول عدم ارتياح تركيا لفشل إدارة الرئيس الأمريكي السابق “باراك أوباما” في فرض “الخطوط الحمراء” على نظام “الأسد”، والتحالف الأمريكي مع الأكراد السوريين، وكذا التعليق الأمريكي المحبط بشأن تزايد السلطوية في تركيا، وأيضًا رفض واشنطن تسليم “فتح الله جولن”، الذي وصفته أنقرة بأنه العقل المدبر لمحاولة الانقلاب الفاشلة.

تعود جذور حالة الخلاف الحالية التي تخيم على العلاقات بين واشنطن وأنقرة -على الأرجح- إلى 15 يوليو 2016، أي مع محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا. فقد توقعت الحكومة التركية حصولها على بيان شديد اللهجة من واشنطن يدين محاولة الانقلاب. ورأى حزب “العدالة والتنمية” في ردود الفعل الأوروبية والأمريكية البطيئة رغبة باطنة، إن لم تكن دعمًا صريحًا، لمحاولة الانقلاب. الأمر الذي دفع تركيا إلى الاتجاه نحو روسيا لشراء منظومة الدفاع الصاروخي S-400. كما تبع الانقلاب الفاشل أزمة شائكة بين الطرفين تمثلت في اعتقال القس الأمريكي “أندرو برونسون”، وما ترتب عليها من عقوبات.

تبع ذلك أيضًا بروز عدد من الملفات الخلافية بين الطرفين، كالاجتياح التركي للشمال السوري، والاعتداء على الأكراد وبالأخص قوات سوريا الديمقراطية الحليفة للولايات المتحدة، والتي دعمت جهود الولايات المتحدة في مواجهة داعش. وكذا القلاقل التي تثيرها أنقرة في شرق المتوسط والتعدي على حقوق قبرص، والتوتر مع اليونان حول اكتشافات الغاز. وأيضًا الاتفاق الذي وقعته أنقرة مع حكومة الوفاق في ليبيا والذي تدخلت بموجبه في ليبيا.

ترافق مع هذه التطورات اتجاه الولايات المتحدة إلى فرض عقوبات على تركيا، فقد أعلنت واشنطن في أعقاب الاشتباكات التي وقعت بين تركيا والأكراد في سوريا عن فرض عقوبات استهدفت وزارتي الدفاع والطاقة في تركيا، واستهدفت ثلاثة مسؤولين أتراك، بمن فيهم وزير الداخلية. وقد أخذ التصعيد بين أنقرة وواشنطن مجراه في نهاية شهر أكتوبر 2019، حينما أصدر مجلس النواب الأمريكي قرارًا وصف المذابح بحق الأرمن بأنها “إبادة جماعية”. ومن جانبه، هدد الرئيس التركي “أردوغان” الولايات المتحدة بإغلاق قاعدة “إنجرليك” الجوية ومحطة الرادار في “كوريجيك” “إذا استدعت الضرورة”، وذلك في حالة ما إذا دخلت العقوبات حيز النفاذ.

ملفات مختلطة

قد يساهم تتبع التحركات والتحركات المقابلة التي تقوم بها واشنطن وأنقرة في التوصل إلى نتيجة رئيسة مفادها أن تصاعد الخلافات بين الطرفين لا يعني دخولهما في حالة العداء. بعبارة أوضح، تشير الملفات المختلطة التي تجمع الطرفين إلى أن التفاهمات هي الأرضية التي يستند إليها الطرفان ويعملان من خلالها. ويمكن إبراز ذلك على النحو التالي:

1- الأزمة الليبية: الضبابية هي السمة الغالبة التي تخيم على الموقف الأمريكي من الأزمة الليبية. فعلى الرغم من إعلان الرئيس “ترامب” تأييده المبادرة المصرية “إعلان القاهرة”؛ إلا أن واشنطن لم تبذل جهدًا كافيًا لوقف دور أنقرة المؤجج للصراع. جاء في بيان للرئاسة التركية في 14 يوليو الجاري، أن “أردوغان” و”ترامب” “اتفقا على التعاون بشكل أوثق كحليفين من أجل إرساء استقرار دائم في ليبيا”. وعلى صعيد آخر، كشف البنتاجون في 18 يوليو الجاري عن تجنيد وإرسال تركيا عددًا من المرتزقة السوريين إلى ليبيا، إلا أنه اعتبر أن هذا السلوك ليس حكرًا على تركيا، حيث تعتمد روسيا على الآلية ذاتها عبر تجنيد مرتزقة سوريين للقتال بجانب الجيش الليبي. وأكد “ديفيد شينكر”، مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأدنى، في تصريحات نقلتها وكالة “رويترز” أن المهمة البحرية التابعة للاتحاد الأوروبي “متحيزة وغير جادة”. وشدد على ضرورة عدم قصر عمليات منع إمدادات الأسلحة على تركيا، وإنما لا بد من التنديد بتدخل مجموعة فاجنر الروسية وموسكو ودول أخرى في القضية. لذا، يمكن القول إن الوجود الروسي كان الدافع وراء وضع المصلحة الأمريكية في كفة المصلحة التركية، حيث لا ترغب الولايات المتحدة في إبرام اتفاق تركي–روسي لتقاسم النفوذ في ليبيا. واتجهت بعض التحليلات إلى أن الدور التركي في ليبيا -بوصفها عضوًا في الناتو- قد يضع حجر الأساس لبناء قاعدة دائمة للناتو في ليبيا.

2- منظومة S400: وفقًا للكواليس التي كشف عنها “جون بولتون” -مستشار الأمن القومي السابق- في كتابه المثير للجدل الصادر مؤخرًا، دافع “ترامب” عن قرار شراء تركيا منظومة S400. وتتجه بعض التحليلات إلى اعتبار قرار أنقرة شراء منظومة S400 جاء كقرار “متهور” في أعقاب عملية الانقلاب الفاشلة. لذا حاول الطرفان استيعاب هذه العقبة التي تهدد سلامة العلاقات. فقد أكدت تركيا أن منظومة S 400 لن تندمج في أنظمة الناتو، ولن تشكل تهديدًا للحلف. وفي هذا السياق، أجاب “ترامب” عن سؤال حول هذا الأمر قائلًا: إنه لا يجب غض الطرف عن المعاملة غير العادلة التي واجهتها تركيا من قبل الإدارة السابقة. وفي 25 فبراير 2020، أكد قائد القوات الأمريكية في أوروبا الجنرال “تود والترز” أهمية الدور الذي تلعبه أنقرة في مواجهة موسكو. لافتًا إلى أن امتلاك تركيا منظومة S400 لا يؤثر على علاقاتها مع الحلف. مشيرًا إلى أن ضمان المصالح طويلة الأجل لكل من واشنطن وأنقرة سيتم بشكل أفضل عبر الاستمرار في التعاون ضد روسيا على الصعيدين الثنائي ومن خلال الناتو.

3- شمال سوريا: مثّل الدعم الأمريكي للمقاتلين الأكراد في شمال سوريا مجالًا واسعًا للخلاف بين واشنطن وأنقرة. فقد وصف “أردوغان” قوات سوريا الديمقراطية بـ”الإرهابية”. وفي هذا السياق، استجاب “ترامب” لمطالب “أردوغان” في مكالمة هاتفية في 14 ديسمبر 2018، ووافق على سحب القوات الأمريكية، والتي ردعت لفترة عمليات تركيا عبر الحدود ضد قوات سوريا الديمقراطية، الأمر الذي تسبب في قتل ما لا يقل عن 11 ألفًا من قوات سوريا الديمقراطية وإصابة ما يقرب من 24 ألفًا. وعند توجيه انتقادات لاذعة لترامب بشأن تخليه عن الأكراد، أجاب: “إن الأتراك والأكراد يتقاتلون منذ سنوات عديدة، نحن لن نتورط في حرب أهلية”. وكرر “ترامب” تعهده بالانسحاب من شمال سوريا في مكالمة هاتفية أخرى مع “أردوغان” في 6 أكتوبر 2019. ثم أطلق تصريحات دللت على تغير الموقف الأمريكي من الأكراد مثل قوله: “لم يحاربوا من أجلنا”، و”لم نعدهم بدولة”. مضيفًا إن “العديد من الأكراد يعيشون في تركيا حاليًا وهم سعداء ويتم الاعتناء بهم، بما في ذلك الرعاية الطبية والتعليم وأشياء أخرى”.

4- شرق المتوسط: على الرغم مما بدا كترحيب أمريكي بمنتدى غاز شرق المتوسط الذي أُنشئ بمبادرة مصرية، إلا أن واشنطن اتجهت إلى بناء مسار موازٍ عبر مشروع قانون “شراكة الأمن والطاقة لشرق المتوسط”، الذي اعتبرته بعض التحليلات بمثابة دليل قوي على اتساع الهوة بين واشنطن وأنقرة. ومع ذلك، يمكن النظر إلى هذا التحرك من زاوية مختلفة قائمة على أن قيام واشنطن بطرح صيغة موازية لمنتدى غاز شرق المتوسط قد يعني فتح المجال أمام تركيا للانضمام على عكس المنتدى الذي لن يسمح لتركيا بالانضمام نتيجة الصدع المتسع بين القاهرة وأنقرة. ومن ثم، قد توفر واشنطن لأنقرة الفرصة المناسبة للعب دور أكبر في شرق المتوسط عبر تدخلها لحلحلة الخلافات المتزايدة بين تركيا من جانب وقبرص واليونان من جانب آخر. كما قد تتجه واشنطن إلى إعادة هندسة منطقة شرق المتوسط عبر القيام بضم قبرص لحلف الناتو، وتذويب الخلافات بينها وبين أنقرة. لذا، يتضح أن قضية شرق المتوسط التي تبرز كأحد أهم الملفات الخلافية بين واشنطن وأنقرة، تحمل العديد من الفرص لبناء التفاهمات والمصالح المشتركة.

تفاهمات صريحة

بعد استعراض أبرز ملامح الخلافات التي تخيم على العلاقات الأمريكية-التركية، وكذا استعراض الملفات التي تحمل قدرًا من الخلاف الظاهري والتفاهم غير المعلن؛ تبدو الحاجة ملحة إلى ضرورة الإشارة إلى الملفات التي تشهد قدرًا صريحًا من التفاهمات من أجل وضع العلاقات بين الطرفين في نصابها الصحيح. ويمكن توضيح ذلك على النحو الآتي:

1– نظام “الأسد”: على الرغم من أن الولايات المتحدة وتركيا متباعدتان إلى حد كبير فيما يتعلق بالملف الكردي؛ إلا أن العضوين في الناتو يريان ضرورة مغادرة “بشار الأسد” لمنصبه. ومن ثم، ترى تركيا أن كل تصعيد ضد نظام “الأسد” يتوافق مع رؤيتها بشأن الأزمة السورية. وفي هذا السياق، اتجهت الولايات المتحدة إلى إقرار قانون القيصر الذي سيفرض عقوبات على 39 شخصًا ومؤسسات مرتبطة بالحكومة السورية، بما في ذلك “الأسد” وزوجته، إضافة إلى وضع عقوبات على الأشخاص والمؤسسات الأجنبية التي تدعم أنشطة حكومة “الأسد” أو تتبادل مبالغ كبيرة من المال معهم. وكنتيجة لذلك، سيصبح من المستحيل على الشركات، أو حتى العديد من الدول، القيام بأعمال تجارية مع سوريا، الأمر الذي دفع الحكومة السورية إلى وصف العقوبات بـ”الإرهاب الاقتصادي”.

2- معركة إدلب: يبدو أن التعاطي مع أزمة إدلب يدلل على درجة متقدمة من التوافق بين واشنطن وأنقرة، وذلك استنادًا إلى أن تقدم تركيا في هذه الأزمة يعني تراجع المعسكر المناوئ لواشنطن المتمثل في روسيا وإيران. وفي 12 فبراير 2020، زار المبعوث الأمريكي الخاص إلى سوريا “جيمس جيفري” أنقرة، وأجرى محادثات مع وزير الدفاع التركي “خلوصي أكار” حول التصعيد في إدلب. وقد تم التأكيد على الأهداف الجيواستراتيجية المشتركة بين تركيا والولايات المتّحدة في كل من سوريا وليبيا، والدعم الذي تقدمه واشنطن للمصالح المشروعة لتركيا في إدلب، لافتًا إلى أن واشنطن تفكر في تقديم معلومات استخباراتية ومعدات عسكرية لتركيا. وفي يوم 16 من الشهر ذاته، قال الرئيس “ترامب”، إنه يعمل مع نظيره التركي بخصوص المشكلات المتعلقة بإدلب، كما أعرب عن قلقه من العنف في إدلب، وعن رغبة واشنطن في إنهاء روسيا دعمها لفظائع النظام السوري. وذهب “ترامب” إلى أبعد من ذلك في دعم الرواية التركية عبر التأكيد على ضرورة مساهمة أوروبا بمزيد من الأموال لتغطية تكاليف اللاجئين، قائلًا: “أعتقد بصراحة أن أوروبا يجب أن تدفع أكثر، الآن تركيا هي التي تدفع ثمن كل شيء تقريبًا”.

3- قانون دعم الإيجور: الإيجور الأتراك هم قضية مهمة لتركيا، وقد فتح الصمت التركي على ما يتم وصفه بالعنف الموسع وحملات القمع للإيجور في إقليم شينجيانج الصيني الباب على مصراعيه أمام حملة انتقادات لحزب العدالة والتنمية. وفي هذا السياق، اتجهت واشنطن إلى تبني قانون لدعم الإيجور، حيث يجمد القانون أصول الضباط الصينيين في الولايات المتحدة ويقيد تأشيراتهم. ومن ثم، فإن هذا القانون الذي أصدرته واشنطن في إطار حملتها المستمرة للضغط على بكين، ساهم في إقالة أنقرة من وضعها الحرج، ومثّل أداة ضغط حقيقية لتخفيف القبضة الصينية الحديدية على الإيجور الذين تجمعهم بأنقرة علاقات واسعة. فقد اتجهت بعض التقارير إلى رصد عدد كبير من الحالات الحقيقية والواقعية بشأن تجنيد أنقرة للإيجور، والزج بهم في المناطق الملتهبة التي تتدخل فيها.

ختامًا، يتضح من العرض السابق أن العداء ليس هو السمة الغالبة للعلاقات بين واشنطن وأنقرة، بل على العكس لا تزال هناك جملة من التفاهمات والمصالح التي توجه بوصلة العلاقات بين الطرفين. ويتضح أيضًا في بعض الحالات أن النظرة الأمريكية لتركيا لا تزال تدور في إطار كونها أحد الأذرع الغربية أو أداة للناتو في مواجهة المعسكر المناوئ للولايات المتحدة. ومن ثم، قد يُنظر إلى تواجد أنقرة في بعض الساحات بوصفها رمانة الميزان التي ستحمي الرواية الغربية. لذا، يمكن القول بشكل عام إنه على الرغم من الخلافات المتعددة التي تطفو على سطح العلاقات بين واشنطن وأنقرة، إلا أن التفاهمات لا تزال هي الحاكم الأساسي للعلاقات، وحتى وإن تمت تحت الطاولة وخلف الأبواب المغلقة.

*مها علام – باحث بوحدة الدراسات الأمريكية – عن المركز المصري للدراسات الإستراتيجية .

8

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى