ترجمات أجنبيةشؤون مكافحة الاٍرهاب

وور أون ذا روكس – مشروع منذور للفشل : الجهاد العابر للحدود الوطنية ومشكلة التجميع

وور أون ذا روكس  – باراك مندلسون* – 28/9/2018

في 22 آب (أغسطس)، وجه زعيم “داعش”، أبو بكر البغدادي، رسالة إلى أتباعه في بحر عام تقريباً، والتي دعاهم فيها إلى شن هجمات “ذئاب منفردة” في الغرب. وينبغي أن تثير هذه الرسالة قلق صانعي السياسة من احتمال قدوم موجة جديدة من الهجمات الإرهابية، لكنها أيضاً بمثابة تذكير بمدى تراجع المجموعة -والأكثر عمومية، بالمشكلة المقيمة في الاستراتجيات الجهادية الكبرى، والتي لم يتمكن “داعش” من حلها بدوره.

قبل “داعش”، كان كل الجهاديين العابرين للحدود، بمن فيهم أسامة بن لادن، وأبو مصعب الزرقاوي، والاستراتيجي أبو بكر ناجي، وأبو مصعب السوري، قد حاولوا وفشلوا في تحقيق أهدافهم السياسية المتشابهة. وكان فشل استراتيجية “داعش” الكبرى هو التكرار الأخير فقط لمشكلة مألوفة. وقد اشترك هؤلاء اللاعبون في هدف تأسيس خلافة على أنقاض الدول القومية المسلمة، وتوسيع سيطرة هذه الخلافة بالتدريج. لكن عليهم لكي يفعلوا ذلك أن يتغلبوا على “مشكلة التجميع” aggregation problem: كيف يمكن تحويل النجاحات المحلية المتباينة إلى نفوذ سياسي عابر للحدود، وكيف يمكن تحشيد ما يكفي من المسلمين لدعم هذه الرؤية الثورية للجهاديين. ويجب أن تسمح هذه المعيقات التي لا مفر منها للولايات المحتدة باحتواء خطر الجماعات الجهادية، حتى تلك الجماعات التي ما تزال تواصل البحث عن استراتيجية للكسب. وفي هذا المقال، سوف أسلط الضوء على السبب في أن كل واحد من هؤلاء الجهاديين الخمسة فشل في التغلب على “مشكلة التجميع”، وأزعم أن هذا الفشل يعطي فرصة للاعبين الخارجيين لاحتواء الجماعات الجهادية من دون تدخلات عسكرية مكلفة.

الخطة الاستراتيجية لتنظيم القاعدة

تشكل استراتيجية بن لادن للقاعدة، والتي ما تزال عاملة بعد سنوات من وفاته، مثالاً على ميل الجهاديين إلى المبالغة في تقدير قدرتهم على التوسع عبر الحدود وترجمة النجاحات المحلية إلى نجاحات إقليمية وعالمية. وتعطي الاستراتيجية الأولوية لمهاجمة الولايات المتحدة -“رأس الكفر”- على المواجهة مع “العدو القريب”، والحكام “المرتدين” للدول المسلمة. وقد اعتقد بن لادن بأن استفزاز أميركا لمحاربة المسلمين والدول المسلمة صراحة سوف يعرّي نقاط ضعفها ويقود المسلمين في كل أنحاء العالم إلى توحيد صفهم خلف القاعدة.

لكن بن لادن بالغ في تقدير براعة القاعدة وقلل بشدة من شأن قوة الولايات المتحدة ومرونتها. وأظهرت استراتيجيته أن توقع التعبئة الجماهيرية للمسلمين ضد الولايات المتحدة كان مفلساً أيضاً. وكان من المفترض أن تستمد الجماهير الإلهام من هجوم القاعدة الناجح في 11/9، وتدرك أن الولايات المتحدة ليست تلك القوة التي لا تُقهر، وتبدأ الإيمان بأنها يمكن أن تهزم أعداء الإسلام. لكن تنظيم القاعدة كان ساذجاً بشكل مدهش بافتراض أن جمهوره المستهدف يمكن أن يعطي الهوية الدينية أولوية على الهوية القومية. كما بالغ التنظيم في تقدير اهتمام المسلمين بالعيش في ظل حكم إسلامي داخل دولهم المختلفة ودعمهم للقضاء على تلك الدول والأوطان لصالح كيان إسلامي عابر للحدود. وبالإضافة إلى ذلك، وعلى النقيض من آمال القاعدة، لم ينظر المسلمون إلى هجمات 22/9 نظرة تفضيل، ولا هم نظروا إلى الغزو الأميركي لأفغانستان على أنه حملة مناهضة للمسلمين. كما لا يوجد مؤشر على أن 11/9 أحدث تغييراً جوهرياً في نظرة المسلمين إلى قوة الولايات المتحدة وعزمها. وحتى مع القضية الأكثر شعبية، في العراق، كانت “الأمة” سلبية (حتى لو أنها ساخطة).

كافح القاعدة للتأقلم مع واقع ما بعد 11/9: فككت الحرب على الإرهاب بقيادة أميركية صفوفه، وأجبرته على إعادة مراجعة استراتيجيته. وكما أشرح في كتابي “امتياز القاعدة”، فإنه بحلول العام 2003، عكف القاعدة على عملية توسع تنظيمي، والتي شهدت تشكيل العديد من الفروع -بعضها يتكون من كوادر المجموعة نفسها، وبعضها الآخر تشكل بعمليات اندماج مع جماعات جهادية خارجية. وكانت هذه الاستراتيجية القائمة على تأسيس الفروع استجابة معقولة لعجز المجموعة المتزايد عن العمل العابر للحدود. وقد أمل القاعدة في أن تقوم هذه الفروع -التي يُقصد من كل واحد منها التركيز على منطقة معينة أكثر من التركيز على دولة واحدة بعينها- بتسهيل تحقيق التوسع التدريجي العابر للحدود.

كما هو مفصل في كتابي المذكور، سمح التوسع للمجموعة بتقديم سرد عن النجاح، حتى مع أنها كانت تناضل لتجديد عملياتها في الغرب. ومع ذلك، وبدلاً من منح الأولوية للاستراتيجية التي تنتهجها القيادة المركزية للقاعدة، مالت الفروع إلى التركيز على ساحاتها المحلية (ليس حتى الإقليمية). كما أدى التجزيء أيضاً إلى إضعاف تكوين المجموعة متعدد الجنسيات، حيث استندت العضوية على مستوى الفرع بشكل أساسي إلى القوى المحلية.

بمرور الوقت، اضطر القاعدة المركزي إلى القبول باستثناءات متزايدة للتركيز على الأهداف الغربية. ووسع نظرته إلى نوع الأعمال التي يمكن أن تؤدي إلى دفاع الفروع بشكل شرعي عن نفسها، مما أدى إلى المزيد من التركيز على الصراعات المحلية على حساب الصراع العالمي. ومع ذلك، ولأن القاعدة لم يستطع أن يتخلى عن القتال ضد الولايات المتحدة –وهو سبب وجوده نفسه- في حين تابعت فروعه أجندات محلية إلى حد كبير، انتهى به المطاف إلى ترويج استراتيجية أكثر تعقيداً وغموضاً.

مع ذلك، نجحت المجموعة في ثني فروعها عن تأسيس إمارات إسلامية. وقالت الإدارة المركزية للقاعدة أنه ما دام بوسع الولايات المتحدة إسقاط أي نظام إسلامي، فإنه سيكون من السابق لأوانه تأسيس إمارات، ناهيك عن خلافة، قبل القضاء على التهديد الأميركي أولاً. كما أن تأسيس إمارات سوف يجبر تنظيم القاعدة على تحويل الموارد النادرة من القتال إلى الحكم. وحذر بن لادن من أنه إذا فشل الجهاديون، فإن الجماهير المسلمة ربما لن تثق بهم مرة أخرى أبداً. وبدلاً من ذلك، اعتقد تنظيم القاعدة المركزي أنه في حال انتهى المطاف بفرع إلى السيطرة على أراض، فإن عليه أن يقوم بتحويل الحكم إلى قادة محليين ويحاول العمل من خلف الكواليس (كما حاول التنظيم أن يفعل في مدينة المكلا اليمنية).

إدارة التوحُّش

في العام 2004، نشر جهادي يستخدم الاسم المستعار، أبو بكر ناجي، على الإنترنت صيغة لكيفية تشكيل خلافة وتوسيعها. وتصور ناجي خلق جزر من الفوضى، والتي يملؤها في نهاية المطاف حكم إسلامي بدائي -“إدارة التوحش”- الذي يوفر الأمن والخدمات الأساسية للسكان المحليين. وستعمل هذه الجزر كمنصات إطلاق للتوسع إلى الأراضي المجاورة والتعزيز التدريجي لدولة إسلامية.

يقسِم ناجي الدول المستهدفة إلى بلدان رئيسية وثانوية. الدول الأساسية هي تلك التي لديها جغرافيا أكثر تفضيلاً، وأنظمة حكم ضعيفة لا تستطيع أن تسيطر على أطراف البلد، وحيث الأسلحة متاحة مسبقاً، ومع إحساس ضعيف بالقومية. أما الدول الثانوية، فتجاور الدول الرئيسية وتعمل بشكل أساسي كقواعد لوجستية. وفي الوضع المثالي، سوف يؤدي النجاح في إرساء حكم إسلامي في المواقع الرئيسية إلى تمكين التوسع إلى البلدان الثانوية.

يعترف ناجي بأن إحدى العقبات أمام اللاعبين الإسلاميين الذين يسعون إلى الإطاحة بالنظام القائم على الدولة القومية هي تماسك ذلك النظام -بالتحديد، الأنظمة القومية القائمة وحدود الدول. وبالمثل، سوف تقاوم الدول الكبرى التوسع الجهادي الذي يصفه. ومع ذلك، يجادل ناجي بأن أياً من التحديين ليس عصياً على التجاوز، فيما يعود جزئياً إلى ميل الدول العظمى إلى الإفراط في التمدد. وبذلك، يدعو ناجي، مثل بن لادن، إلى استخدام الإرهاب كوسيلة لدفع الولايات المتحدة إلى نشر قواتها بتمدد مفرط وإنهاك اقتصادها.

لكن هذا المنطق معيب أيضاً. فقد توقع ناجي دعماً شعبياً للجهاديين، متجاهلاً رفض المسلمين لتأويل الجهاديين المتطرف للإسلام، وكراهيتهم لحكمهم القمعي، وارتباطهم بدولهم القومية. كما يبالغ ناجي أيضاً في تقدير مستوى الوحدة بين الجماعات الجهادية، معتقداً بأن الجماعات المستقلة التي تعمل خارج الدولة الإسلامية الوليدة سوف تعرض التضامن، وتشن الهجمات لتخفيف الضغط عن الكيان الحاكم الجديد. وأخيراً، يقلل ناجي من شأن مرونة الدول وتضامنها، مفترضاً أن الهجمات على حلفاء الولايات المتحدة ستقودها إلى الانفصال عن واشنطن، مما يجعل من الأسهل على الجهاديين حكم المناطق التي يديرونها.

الدعوة إلى مقاومة إسلامية عالمية

قدم الجهادي السوري مصطفى بن عبد القادر ست مريم نصار، المعروف باسم أبو مصعب السوري، وجهة نظر بديلة في مجلد من 1.600 صفحة، (نشر على الإنترنت في العام 2005)، بعنوان “الدعوة إلى مقاومة إسلامية عالمية”. ويقدم السوري استراتيجية لقيام تمرد عالمي بعد أن أصبحت المنظمات الجهادية -تحت حصار الولايات المتحدة- مشلولة في نهاية المطاف. وسوف تقوم بهذا التمرد مجموعة من الناشطين المستقلين والخلايا الصغير المنتشرة في كل أنحاء العالم -ما يُعرف بشكل عام باسم إرهاب “الذئاب المنفردة”. ويركز عمل السوري على خلق تأثيرات منهجية بفعل هجمات إرهابية متعددة غير منسقة، والتي تكون معتمدة على الروابط بين الأفراد، والخلايا والمجموعات الصغيرة. وليست هذه الروابط تنظيمية، وإنما تعكس المعتقدات المشتركة وهدفاً متبادلاً هو مقاومة الولايات المتحدة وحلفائها من خلال الجهاد. وسيكون من شأن الإرهاب الذي ينفذه مرتكبون غير متصلين أن يثير الرعب بين السكان المدنيين، ولأن من الصعب منعه، يتوقع السوري بتفاؤل أن تُنفَّذ “العشرات من العمليات يومياً أو أكثر”. وبشكل خاص، ينظر السوري إلى تنفيذ العمليات في الدول الإسلامية على أنها المهمة الأساسية. أما الهجمات في الدول الغربية، فستكون في أغلبها بهدف الرد الانتقامي أو لخلق رادع.

يطرح السوري مساراً مختلفاً لاستمرارية النشاط الجهادي، لكنه لا يمتلك حلاً لمسألة التجميع. ويعتمد نجاح الجهاد الفردي على إقناع المسلمين -الذين يعترف السوري بأنهم يتماهون مع دولهم القومية، مهما تكن حدودها عشوائية- بالانتماء إلى “الأمة”. كما يجب على الجهاديين أيضاً إقناع المسلمين الذين ستتحمل بلدانهم عبء الهجمات بأنهم يدفعون ثمناً ضرورياً لقاء “تحريرهم”.

بالإضافة إلى ذلك، يفترض السوري أن الجماعات الصغيرة المستلقة التي لم يقم بإعدادها الجهاديون ذوو الخبرة، ستكون قادرة على تجنب الهجمات التي تأتي بنتائج عكسية، والتي تهدد بالتعرض لضربة ارتدادية عنيفة بالنظر إلى شدة الأضرار الجانبية (وهو شيء يعرفه الجهاديون المحكنون، مثل مقاتلي القاعدة، جيداً). والأكثر أهمية، هو أن الهجمات الفردية وحدها لا تستطيع أن تحقق الأهداف المرغوبة للأمة. ويتطلب التمرد العالمي إعادة فتح “الجبهات المفتوحة” -الحملات العسكرية المفتوحة والدائمة- من أجل الاستيلاء على الأرض وإقامة الحكم الإسلامي.

اتبع تنظيما القاعدة و”داعش” كلاهما نصيحة السوري وشجعا إرهاب الذئاب المنفردة. لكن القاعدة، الذي اكتوى بنار الوكلاء غير المنضبطين (الظواهري بشكل أساسي) لم يذهب بعيداً في مسألة دمج الجهاد المستقل في استراتيجيته. وفي المقابل، فعل “داعش” أكثر لتبني الجهاد الفردي، لكن تجربته كشفت عن محدوديات تحليل السوري. ولدى “داعش” القليل من الاسباب للخشية من أن العمليات المستقلة -حتى لو أفضت إلى ضرر جمعي جانبي أو جلبت رد فعل عنيف- يمكن أن تضر بسمعته واستراتيجيته، لأنه يفضل العنف العشوائي الذي بلا تمييز. وبإرهاب الذئاب المنفردة، تسعى المجموعة إلى إنشاء دينامية تديم نفسها ذاتياً، والتي يلهم فيها هجوم أفراداً آخرين بتنفيذ علمياتهم الخاصة. ولتحقيق هذه الغاية، سعى “داعش” إلى عرض الهجمات التي نفذها ناشطون من صفوفه على أنها هجمات ذئاب منفردة، والتي شنها مسلمون مستيقظون غير منتمين إلى المجموعة. ومع ذلك، فشلت الهجمات التي تستلهم “داعش” في نهاية المطاف في توليد الزخم، مُظهرة مرة أخرى مدى الصعوبات التي يواجهها الجهاد عبر-الوطني.

الخطة الكبرى

في كتاب عن الزرقاوي صدر في العام 2005، وصف المؤلف الأردني فؤاد حسين، خطة عمل مفصلة لعشرين عاماً وتتكون من سبعة مراحل، والتي ستنتهي في نهاية المطاف بإقامة الخلافة وانتصار المسلمين. وحسب الخطة، سوف يعمل عنصران متداخلان على تسهيل هزيمة الولايات المتحدة: الأول، سوف يؤدي توسيع ميدان المعركة إلى استنزاف الموارد الأميركية، بينما يعري عدم قدرتها على حماية حلفائها؛ ثانياً، سوف يؤدي الاستخدام الانتهازي للصراعات القائمة -بشكل أساسي الصراع بين الولايات المتحدة وإسرائيل من ناحية، وإيران من ناحية أخرى- إلى تعزيز الأجندة الجهادية. وسوف تقوم حلقة تغذية راجعة إيجابية بتعزيز صورة تنظيم القاعدة، وتجتذب المزيد والمزيد من المتطوعين إلى صفوفه.

مخطط الزرقاوي الشامل (الذي يناقشه بإسهاب كتاب لبرايان فيشمان) لا يقدم أيضاً حلاً قابلاً للتطبيق لمشكلة التجميع. وكان المخطط يفترض أن يشكل العراق نقطة انطلاق إلى بقية المنطقة، لكن الزرقاوي اشتكى من قلة التزام العراقيين السنة، ومن العدد غير الكافي من المقاتلين الأجانب. ولذلك سعى إلى تأجيج حرب طائفية، متوقعاً أنها ستعزز التزام السنة المحليين بالقتال. لكن المناورة فشلت، حين جعلت الجهاديين مطاردين في العراق عندما قامت مجالس الصحوات، والقوة الشيعية وزيادة عديد القوات الأميركية بتحسين الوضع الأمني. وبالمثل، لم يكن الوعد بالاشتباك مع إسرائيل -وهو أداة تعبئة مهمة- متطابقاً مع قدرات الجهاديين. وكان أحد العيوب الأخرى هي افتراضه أن الأنظمة الفاسدة والجهاديين هم القوى المهمة الوحيدة في الدول الإسلامية، مهملاً اللاعبين الآخرين -مثل الأحزاب السياسية، والتجار واللاعبين الاقتصاديين الآخرين، والصوفيين، والقوميين وغيرهم الكثير- ومتجاهلاً الانقسامات الداخلية واسعة النطاق داخل الجهاديين أنفسهم.

أخيراً، فشلت خطة الزرقاوي، مثل تلك التي سبقتها، في تصور أن الجماهير المسلمة ربما تفضل الأنظمة الأكثر انفتاحاً، والتي تخلق فرصاً اقتصادية، على الحكم الجهادي القمعي. ولم يكن واقع النظام القائم على الدولة القومية وجاذبية المجتمعات المفتوحة، بالإضافة إلى صعوبة توحيد الجماعات المتطرفة المنقسمة، تضاهي مطلقاً توقعات هؤلاء الجهاديين.

استراتيجية “داعش” الكبرى

لدى “داعش” أفكار أخرى عن تحويل رؤية الجهاديين عبر الوطنية إلى واقع. وقد وضع تقديم الخلافة ومحاربة العدو القريب في المركز من استراتيجيته الكبرى، بدلاً من جعل الخلافة الهدف النهائي. وكان الهدف من ذلك هو أن يكون حلاً لمشكلة التجميع: تردد واشنطن في إعادة إرسال القوات الأميركية إلى الشرق الأوسط سوف يخلق ظروفاً مفضلة للجهاديين لمحاربة الأعداء المحليين، بينما ستجتذب استعادة الخلافة الكثير من المتطوعين التواقين إلى المشاركة في بناء الخلافة والدفاع عنها. وكان يُفترض في السلطة المزعومة للبغدادي، الخليفة المعيَّن ذاتياً، على كل المسلمين أن تضفي الشرعية أيضاً على دعوة “داعش” إلى التعبئة الجماهيرية والضغط على منافسي المجموعة من الجهاديين للانضمام إليها كأتباع.

وهكذا، في العام 2014، شن “داعش” هجوماً خاطفاً، استولى فيه على الموصل ومدن عراقية أخرى ذات أغلبيات سنية قبل أن يحوِّل انتباهه بسرعة إلى توسيع مناطقه إلى سورية التي مزقتها الحرب. وبعد ذلك بوقت قصير، أعلن التنظيم عن إقامة خلافته. ومع ذلك، وفيما يجب أن يبدو الآن نمطاً معتاداً، سرعان ما اصطدمت أوهام “داعش” بجدران الواقع. فمتشجعاً بنجاحاته الأولى، اعتقد التنظيم أنه سيستطيع مواصلة توسيع وتقوية الخلافة. لكنه استفز، في العملية، أعداء أقوى. وبعد أن انضمت الولايات المتحدة إلى القتال، توقف تقدم مسيرة “داعش” بالتدريج. وأهلكت قوة النيران الجوية الأميركية قوات التنظيم، وقوضت بشكل خاص  قدرة المجموعة على التحرك بتشكيلات كبيرة. ومن الواضح، على الرغم مما يقارب 40.000 متطوع أجنبي الذين انضموا إلى “داعش”، أن المجموعة بالغت في تصوير جاذبيتها وقدراتها. كان “داعش” مفرطاً في التفاؤل في اعتقاده بأن الجماعات الجهادية الأخرى سوف تصطف خلفه، ببساطة لأنه أعلن نفسه خلافة. وبحلول نهاية العام 2017، كان قد تم اختزال خلافة “داعش” إلى مجرد ظل لوجودها السابق.

مشكلة مقيمة

يشهد الفشل النهائي لتنظيم “داعش”، على الرغم من تمتعه بأفضل الظروف للتوسع الجهادي -حرب أهلية في سورية، وتهميش السنة العراقيين، والانسحاب الأميركي من العراق- على عمق المأزق الجهادي. وحتى لو أنه لم يرتكب خطأ جر الولايات المتحدة إلى القتال قبل الأوان، فإنه لم يكن من المرجح أن ينجح مشروع “داعش”. وبينما استمر في تركيزه على العدو القريب، كان من المحتم أن يواجه سريعاً حلفاء قريبين للولايات المتحدة، بقوى أقوى منه بكثير، مثل الأردن، وإسرائيل، والمملكة العربية السعودية (بالإضافة إلى إيران)، وهو ما كان سيعني إما أن يتلقى الهزيمة على أيدي هذه الدول، أو يواجه تدخلاً من أميركا نيابة عن حلفائها. وإذا كان “داعش” قد فشل في تحقيق مكاسب كافية لضمان بقائه على قيد الحياة، فإن الجماعات الجهادية عبر-الوطنية الأضعف سوف تواجه حتماً صعوبات أكبر بكثير.

ماذا لو كان “داعش” قد ركز على بناء الدولة في المناطق التي سيطر عليها في العراق وسورية، وأرجأ المزيد من التوسع؟ كان ذلك سيتطلب التسويات، بل وحتى التعاون مع الدول المجاورة، في انتهاك لأيديولوجية “داعش” العابرة للحدود. كما يغلب أن ذلك كان سيولد ضغوطاً أكبر للتعامل مع قضايا الإدارة المحلية (على حساب المزيد من الأهداف العالمية)، والمخاطرة بدمج “داعش” في النظام القائم على الدولة، الذي يرفضه التنظيم بقوة باعتباره غير إسلامي. وبالإضافة إلى ذلك، ومع ذهاب عنصر المفاجأة، لن يتمكن “داعش” من هزيمة الدول المجاورة اليقِظة ومواجهة تدخل دولي بقيادة الولايات المتحدة.

تُظهر التدخلات القائمة على أساس التحالفات في سورية، والعراق ومالي، أن المجتمع الدولي يمتلك القدرة على دحر التقدم الجهادي. ولكن، بالنظر إلى القيود والمحددات التي تفرضها “مشكلة التجميع”، فإن هناك استراتيجية أرخص كلفة للاحتواء: يجب أن يكون المجتمع الدولي متيقظاً بشأن التهديدات الجهادية الناشئة، وأن يسعى إلى الحد من قدرة الجماعات الجهادية على اكتساب القوة. وفي بعض الأحيان، ربما تكون هناك حاجة إلى تدخل لمنع التوسع الإقليمي للجهاديين. ولهذه الغاية، على المجتمع الدولي أن يؤسس قوة للاستجابة السريعة. وسوف تسمح مثل هذه القوة برد فعل سريع على التوسع عبر الحدود، بل ويمكن استخدامها تحت بعض الظروف لاستهداف الجماعات الجهادية عبر الوطنية، والتي توسع سيطرتها محلياً. والأهم من ذلك أن هذا النهج سوف يقوّي تدويل الجهود ضد الجهاديين العابرين للحدود وإتاحة قدر أكبر من تقاسم العبء بين الدول. وسوف يقلل الدور الأميركي في القتال ضد الجماعات الجهادية العابرة للحدود، مما يحرر واشنطن من الحاجة إلى تشكيل تحالفات دولية لخدمة غرض محدود، والتي تكون في كثير من الأحيان قناعاً لما هو في الحقيقة حملة عسكرية أميركية. وسوف يكون من شأن تقوية الأنظمة الدولية القائمة لوقف تمويل الإرهاب، وتعزيز الضوابط على الحدود -والأهم من كل شيء، حرمان اللاعبين المسلحين من غير الدول من الوصول إلى الأسلحة النووية -وهي مغير محتمل للعبة- أن يعزز قدرة المجتمع الدولي على مواجهة الجهاديين العابرين للحدود.

إذا ما استمر نمط الافتراضات المشكوك فيها والتوقعات غير الواقعية التي ابتليت بها الاستراتيجيات الجهادية الكبرى، فإن صانعي السياسات ربما يواجهون أيضاً حملات جهادية جديدة. ولكن، بالنظر إلى وجود مشكلة التجميع والقيود والمحددات الموهنة التي تواجهها الجماعات مثل القاعدة و”داعش”، فإن قدرة المجتمع الدولي على إحباط أهداف الجهاديين العابرين للحدود – حتى من دون حملة عسكرية مكلفة بقيادة المجتمع الدولي- يجب أن لا تكون موضع شك.

*أستاذ مشارك للعلوم السياسية في كلية هارفارد، وزميل رفيع في معهد أبحاث السياسة الخارجية في فيلادلفيا. وهو مؤلف “امتياز القاعدة”، و”محاربة الجهادية”. آخر كتبه هو “الجهادية مقيدة: حدود الجهادية العابرة للحدود وما تعنيه لمكافحة الإرهاب”، والذي سينشر في هذا الخريف.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى