ترجمات أجنبية

ميديل إيست آي: انقسام صهيوني غير مسبوق

ميديل إيست آي 28-1-2023، بقلم : ديفيد هيرست: انقسام صهيوني غير مسبوق

أثناء حملته الانتخابية وجه السياسي الإسرائيلي اليميني المتطرف، إيتمار بن غفير، زعيم حزب القوة اليهودية، سؤالا لم يكن لدى المؤسسة السياسية الإسرائيلية حينها جواب عليه، وكان السؤال: «من يملك زمام الأمور؟»

كان ذلك بمنزلة تهكم لاذع يصب في بئر عميق من الإحساس بأن اليهود فقدوا السيطرة على الفلسطينيين الذين يعيشون داخل دولتهم. ولكن خلال أسابيع من التناسخ الروحي الأخير لبنيامين نتنياهو كرئيس لأكثر الحكومات تطرفا في تاريخ إسرائيل، يسأل ملايين الإسرائيليين الآن أنفسهم السؤال نفسه: من لدينا يملك زمام الأمور؟

هل هو وزير العدل، الذي يسعى لتصفية السلطة القضائية والقضاء على استقلالها؟ أم وزير المالية الذي يتساءل عن حق المهاجرين الروس في أن يعتبروا يهودا؟ أم وزير الأمن القومي الذي كانت أول إجراءاته اقتحام المسجد الأقصى؟

في الحقيقة، كانت التظاهرات الحاشدة معنية فقط بالقضية الأولى من هذه المسائل الثلاث، على الرغم من أن مسألة هوية الروس متفجرة بما فيه الكفاية، بحيث أطلق عليها بتسلئيل سموتريتش عبارة القنبلة اليهودية الموقوتة.

تم إقصاء الفلسطينيين تارة أخرى من قبل الثورة الصهيونية الليبرالية. فبعد أن ظهرت في أثناء الاحتجاج الحاشد الأول بضعة أعلام فلسطينية في وسط بحر عارم من الأعلام ذات اللونين الأزرق والأبيض، سارع المنظمون إلى النأي بأنفسهم عن الحضور الفلسطيني. ومع ذلك فقد جرب الصهاينة الليبراليون ماذا يعني أن تكون فلسطينيا، وما يتجرعه الفلسطينيون على يد النخبة الجديدة، والمتمثلة في الحركة القومية الدينية للمستوطنين.

صحيح أن المعركة ينظر إليها باعتبارها نضالا من أجل الديمقراطية في مواجهة الفاشيين، ولم تتطور بعد إلى جدل حول التوحش اليومي والتكلفة البشرية المرتفعة للإبقاء على المشروع الصهيوني ذاته، إلا أن هذه الأسئلة تتربص في مكان لا يبعد كثيراً عن السطح.

اقرؤوا التحليل الذي نشرته «يديعوت أحرونوت»، وهي صحيفة وسطية لم تزل موالية للسياسة الرسمية الإسرائيلية تجاه الاحتلال: «الحقيقة غير المريحة هي أنه لا يمكن للديمقراطية أن تجتمع مع الاحتلال، لا يمكن للديمقراطية أن توجد في بلد تسمح سياسته الاقتصادية للقوي بالبروز والانطلاق قدما، بينما يتم التخلي عن الضعيف ويرمى في الخلف، ولا يمكن أن توجد الديمقراطية في مكان يفرض فيه على العرب أن يظلوا خارج المشهد».

كل من يخفق في التصدي لهذه القضايا بشكل واضح ومفهوم فإنه سوف يخفق أيضا في جهوده المبررة تماما لوقف جزء واحد من العملية. والحقيقة غير المريحة هي أن أي شخص يريد أن يخرج مليون شخص إلى الشوارع ليهز بهم البلد كرد فعل على خطة ليفين، فلن يتمكن من التلعثم عندما يتعلق الأمر بالبديهيات حول «تقلص الصراع»، وحول الزعم بأنه لا ينتمي لا إلى اليمين ولا إلى اليسار.

علاقة معقدة

لم تزل علاقة التيار العام للصهيونية بحركة الاستيطان أكثر تعقيداً وأكثر تفصيلاً من الصورة التي ترسم لها، باعتبارها انقساماً بين المركز واليمين المتطرف. ثم حينما يمر الوسط بتغير، فإن ذلك يمثل أكثر من مجرد إشاحة الوجه نحو الجهة الأخرى، أكثر من ذلك بكثير.

زادت وتيرة الاستيطان في ظل حكومات العمال، وحين يعبر المرء عن رعبه من كون شخص مثل بن غفير أصبح المسؤول عن حكم الضفة الغربية المحتلة، فإنه بذلك يتجاهل ما سفك من دماء الفلسطينيين على يد رئيس الوزراء السابق يائير لابيد.

كان العام الماضي أكثر السنين دموية منذ الانتفاضة الثانية، فقد شهد مقتل 220 شخصا، بما في ذلك 48 طفلا.

وأن يندد المرء بالاعتداءات على القضاة الإسرائيليين «اليساريين»، فإنه بذلك ينسى أن اعتداءات المستوطنين كانت تمر دون عقاب، وما زالت حتى في حالات الإدانة النادرة تفلت من أي عقاب ذي معنى. وحتى الآن، ما زالت العلاقة بين الصهيونية الليبرالية والإرهاب الصهيوني علاقة تكافلية، سواء قبل أو بعد اغتيال إسحاق رابين في العام 1995.

يتضح ذلك بجلاء من شهادات الرؤساء الذين تعاقبوا على جهاز الأمن الإسرائيلي «الشاباك». فعندما أمسك جهاز الأمن الداخلي بإرهابيين متلبسين بزرع قنابل سيمتكس في بيوت الفلسطينيين، التي لو انفجرت لتسببت في قتل عدد كبير جدا من الناس، اكتشفوا وجود مخططات لتفجير المسجد الأقصى.

في مقابلة أجريت معه في أثناء الفيلم الوثائقي «حراس البوابة»، قال كارمي غيلون، رئيس «الشاباك» في الفترة من 1994 إلى 1996: «بعد أن كشفنا عن التنظيم السري اليهودي، وصف رئيس الوزراء شامير وحدتي بأنها «درة التاج».

تلقينا إشادات ومساندة من كل مكان. ثم بدأت مجموعات الضغط تعمل لصالحهم. قدموا للمحاكمة، حكم على ثلاثة منهم بالسجن المؤبد، وحصل آخرون على أحكام مختلفة. ثم ما لبثوا جميعا أن أطلق سراحهم وخرجوا من السجن بسرعة، وعادوا إلى بيوتهم وكأن شيئا لم يحدث. وعادوا إلى وظائفهم، وبعضهم حصلوا على ترقيات. كل أعضاء المجموعة السرية أطلق سراحهم من قبل الكنيست. تم التوقيع على قانون العفو الخاص بالمنظمة اليهودية السرية من قبل إسحاق شامير، رئيس وزراء إسرائيل، ولم يكن ذلك بفعل عدد قليل فقط من أعضاء المعارضة».

بالنسبة لـ «الشاباك»، كانت عملية اغتيال رابين أشبه بفيلم لتصادم سيارات يتم عرضه بسرعة بطيئة. وهنا كان أول ظهور لبن غفير. ظهر على شاشة التلفاز وهو ممسك بقطعة من هيكل سيارة كاديلاك كانت قد نهبت من سيارة رابين، وهو يقول: «لقد نلنا من سيارته ولسوف ننال منه أيضا».

يقول يعقوب بيري، الذي ترأس «الشاباك» في الفترة من 1988 إلى 1994 إن اغتيال رابين غير عالمه بأسره: «فجأة رأيت إسرائيل أخرى مختلفة. لم أكن مدركا لشدة التغيرات والكراهية والانقسامات بيننا. كيف نرى مستقبلنا؟ ما هو المشترك الذي يجمعنا؟ لماذا جئنا إلى هنا؟ ما الذي نريد أن نكونه؟ كل ذلك كان يتجلى بوضوح، وما لبث كله أن تهاوى».

ثمة إحساس بالمرارة في كل المقابلات الست التي أجريت مع رؤساء «الشاباك» السابقين؛ فهم لا يشعرون فقط بأنهم خُذلوا من قبل الحكومات المتعاقبة، بل ويشعرون أيضا بأنهم خدعوا، ويعبرون عن ذلك صراحة وعلى الملأ. في العام 1996، أدين قاتل رابين، يغئال عامير، وحينها طالب 10 بالمائة من الإسرائيليين بإطلاق سراحه، ثم بحلول العام 2006 ارتفع عدد المطالبين بذلك إلى 30 بالمائة.

ولكن هذه العلاقة لم تعد تكافلية كما كانت. وصول بن غفير وسموتريتش إلى السلطة ليس طفرة نادرة، ولا حدثا مفاجئا في السياسة. إنه ليس كقدوم ترامب، وليس أيضا ثورة عصيان انطلقت في السادس من كانون الثاني.

إن المواجهة بين قوات الصاعقة في المشروع الصهيوني الهادف إلى إقامة دولة يهودية من النهر إلى البحر من جهة والتيار الصهيوني العام من جهة أخرى، سواء في إسرائيل أو في الخارج، لم يزل قائما ضمنا، ويتربص في الخلفية منذ إقامة دولة إسرائيل نفسها.

وهي موجودة منذ أن أمر رابين، بكونه قائد جيش إسرائيلي كان قد تشكل لتوه، قواته بفتح النار على سفينة شحن كانت تفرغ حمولة من الأسلحة لمنظمة الأرغون، ما أدى إلى مصرع 16 مقاتلاً. حينذاك، تم حمل مناحيم بيغن، الذي أصبح فيما بعد رئيساً للوزراء، جريحا إلى الشاطئ.

تم كنس هذا الانقسام تحت البساط مرات عديدة في السابق. أما اليوم فهو يظهر إلى العلن ويتفشى.

نموذج الجزائر

لو كان هناك نموذج يحاكي هذا الانقسام الذي يشق الصف الصهيوني، فإنه ليس جنوب أفريقيا، وإنما الجزائر.

مكث المستوطنون الفرنسيون الذين كانوا يعرفون بأصحاب «الأقدام السوداء»، في الجزائر منذ القرن التاسع عشر. كانت البلاد تعامل كما لو أنها امتداد للأراضي الفرنسية بدلاً من كونها مستعمرة في أفريقيا، وكانوا يعبرون عن ذلك بمقالتهم المشهورة «الجزائر جزء من فرنسا بقدر ما أن بروفينس جزء منها».

منذ البداية، كان المستوطنون جزءا لا يتجزأ من المشروع الاستعماري الفرنسي. أعلن الحاكم العام للجزائر، المارشال توماس روبرت بيغا، أمام المجلس الوطني الفرنسي في 1840 قائلا: «حيثما وجد الماء ووجدت الأرض الخصبة في الجزائر، لا بد أن نزرع المستوطنين دون أن نشغل أنفسنا بمن تعود إليه ملكية هذه الأراضي».

قوبلت أولى مطالبات جزائرية بعد الحرب من أجل مواطنة متساوية بمحاولات للإصلاح، فمنحت باريس المواطنة لما يقرب من ستين ألفا، وفي العام 1947 أوجدت برلمانا يتكون من مجلسين أحدهما لأصحاب الأقدام السوداء والآخر للجزائريين، إلا أن أصوات ذوي الأقدام السوداء كانت باستمرار تعتبر سبع مرات أكبر من أصوات الجزائريين.

خلال أربع سنين من حرب الاستقلال الشرسة، التي ما زالت فرنسا حتى اليوم تقلل من تعداد ضحاياها، (تقول الجزائر إن ما لا يقل عن مليون ونصف المليون لقوا نحبهم فيها، بينما تقول فرنسا إن العدد لا يتجاوز 400 ألف من الطرفين)، حظي ذوو الأقدام السوداء بتعاطف ودعم الجيش والمؤسسة الأمنية في فرنسا.

في كتابه «القيادة»، يخص هنري كيسنجر الجنرال شارل ديغول بفصل كامل، يصفه فيه بأنه كان سادس أعظم زعيم يتعامل معه في أثناء مهنته كدبلوماسي، وهو فصل مفيد لمن أراد معرفة كيف كانت تدبر الأمور في تلك الحقبة الزمنية.

انطلقت علاقة ديغول بالمستوطنين من خطاب قال لهم فيه، «إني أفهمكم» إلى أن أصبح مستهدفا لحملتهم الإرهابية داخل فرنسا نفسها. حينذاك تغير المزاج الشعبي في فرنسا التي انقلبت على مستوطنيها. وكانت نقطة التحول هي جرح طفلة في الرابعة من عمرها في انفجار قنبلة بباريس في العام 1962.

حتى تلك اللحظة، كانت منظمة الجيش السري تحظى بدعم ثمانين نائبا في المجلس الوطني.

انطلقت رداً على حادثة التفجير تظاهرة ضد منظمة الجيش السري، قمعتها الشرطة فقتلت ثمانية، شارك مئات الآلاف في جنازاتهم، ونجم عن إبرام وقف لإطلاق النار بين فرنسا وحركة التحرير الوطني تحويل الصراع من قتال بين ثلاثة أطراف إلى قتال بين طرفين، كان الخاسر فيه حتما هو منظمة الجيش السري.

بالطبع، هناك الكثير من الاختلافات بين ذوي الأقدام السوداء والمستوطنين اليهود، كما أن هناك الكثير من التشابهات. ومن الاختلافات أن الدين لم يؤدِ دورا مهما في حالة المشروع الفرنسي. كما أن أوروبا لم تشهد مقتلة عظيمة للفرنسيين بما يبرر إقامة هذه المستعمرة في الجزائر.

إلا أن أهم نقطة في مجال المقارنة ما زالت قائمة. عندما انقلبت منظمة الجيش السري على أبناء جلدتها، كان ذلك مؤذنا بضياع المشروع بأسره. والنقطة الأخرى بالغة الأهمية بالنسبة للفلسطينيين، هي أنه لا في حالة المقاومة الجزائرية، ولا في حالة المقاومة في جنوب أفريقيا تم كسب الصراع عسكريا، بل كلاهما كان مستضعفاً وخصمهما أكبر منهما عدة وعتاداً، وإنما الذي أكسبهما الصراع في الحالتين، هو البقاء في حالة من الصمود ورفض الاستسلام.

لا أحد يقول، ناهيك عن أن أقوله أنا، إن إسرائيل على وشك الانهيار كما حدث للحكم الفرنسي في الجزائر، ولكن ما نقوله، إن أول صدع كبير في المشروع الصهيوني قد بدأ يظهر.

الصدوع الأولى

منذ أن جاء إلى السلطة قبل بضعة أسابيع، ساهم بن غفير بأفعاله في نزع الشرعية عن إسرائيل أكثر بكثير مما ساهمت فيه بنشاطاتها حركة المقاطعة العالمية «بي دي إس». حتى إن قواعد التأييد اليهودي السابقة في نيويورك أصدرت بيانات تناشد فيها نتنياهو بتغيير المسار.

ومن هؤلاء إريك غولدستين، رئيس أكبر فيدرالية يهودية في شمال أميركا، الذي «استجدى بكل احترام» نتنياهو الوفاء بتعهدات سابقة قطعها على نفسه، بأنه سيقطع الطريق على القوانين التي تهدد استقلال النظام القضائي في إسرائيل.

ليس من المعهود بتاتاً تقريباً أن تصدر الفيدراليات اليهودية مثل هذه البيانات العلنية، وذلك لسبب بسيط يتمثل في أن قطاع الخدمة الاجتماعية الإسرائيلي هو أحد أكبر المستفيدين منها.

بالطبع، سوف يبذل نتنياهو قصارى جهده للعب الورقة الدولية، فقد فعل ذلك في الأردن، عندما أعلن بما لا معنى له أن الوضع القائم في المسجد الأقصى لن يتغير، مع أن ذلك الوضع تغير فعلاً كما تعرف جيداً دائرة الأوقاف، التي تنوب عن الأردن في إدارة الأماكن المقدسة في القدس.

إلا أن نتنياهو، بوجود بن غفير وسموتريتش، يواجه شكلاً مختلفاً من شركاء الائتلاف. هؤلاء الذين يمثلون كلاب الحراسة لليمين الديني، ليسوا فقط جزءا من الحاضر الذي يمثله نتنياهو بكل مساعيه للبقاء في السلطة، وإنما يرسمون شكل القيادة الإسرائيلية في المستقبل.

ينبغي أن يكون ذلك بمنزلة جرس الإنذار لكل يهودي إسرائيلي لا يحمل جواز سفر أوروبياً، ولا يتمنى أن يكون وقوداً لحرب شاملة مع 1.6 مليار مسلم حول العالم تبدو الحركة القومية الدينية عازمة على إشعالها.

ينبغي عليهم أن يفكروا بالترتيب لمستقبل يتعاملون فيه مع الفلسطينيين سواسية، لحل النزاع حول الأرض والمواطنة، وليس لخوض صراع حول الدين. والوقت ليس في صالحهم.

في وثائقي «حراس البوابة»، قال غيلون: «كانت الخطة تقضي بتفجير قبة الصخرة، وكان ذلك سيفضي – كما هو الحال اليوم – إلى حرب شاملة مع الدول الإسلامية، ليس مع إيران فحسب، بل وحتى مع إندونيسيا».

إذا كان محقاً قبل أحد عشر عاماً عندما سجلت معه المقابلة، فإنه محق أكثر في يومنا هذا. مع وجود الحركة القومية الدينية في مقعد القيادة، تثبت نبوءة عامي أيالون أنها كانت بعيدة النظر، «إننا نكسب كل معركة ولكننا نخسر الحرب».

 

حصل هذا في الجزائر وحصل في جنوب أفريقيا، ولسوف يحدث في إسرائيل كذلك.

 

مركز الناطور للدراسات والابحاثFacebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى