أقلام وأراء

محمد أبو الفضل: دروس عملية من تكرار الحوادث المصرية

محمد أبو الفضل 11-8-2023: دروس عملية من تكرار الحوادث المصرية

يسخر مصريون من حكومتهم أحيانا، ويقولون إنها تبدو كمن يهرب من الأزمات باختلاق الأزمات، وهو تبسيط للمقولة السياسية الشهيرة ‟الإدارة بالأزمات”، فقبل أن يفيق الناس من حادث غرق قاطرة في ممر قناة السويس قبل أيام وجدوا أنفسهم أمام مشهد أكثر رعبا، حيث التهمت النيران مقر وزارة الأوقاف في وسط القاهرة.

بين الحادثين مجموعة كبيرة من الحوادث التي يتراوح حجمها بين كبير ومتوسط وصغير، لكنها في النهاية تشغل بال الرأي العام، فمع انتشار الدور الذي تلعبه مواقع التواصل الاجتماعي بات من السهل تسليط الضوء على الكثير من الأحداث، والتي ليس للحكومة ذنب فيها وتتحمل المسؤولية بسبب التكرار وغياب فضيلة المعلومات، فضلا عن الإيحاء بأنها حققت طفرات، وربما يكون عنصر الإنجازات حقيقيا في المشروعات القومية، غير أن الحوادث المتكررة تضعف الثقة به.

أصبحت حوادث القطارات والطرق والقتل العمد عرضا مستمرا، ويتعجب منها المواطنون لأنها في مصر تفوق غيرها من الدول وتتم إعادتها بأنماط متباينة ونتيجة واحدة تقريبا، ما يعني أن الحكومة لا تستفيد من الدروس وتناقض نفسها عندما تتحدث عن تحسّن كبير وتطور نوعي في قطاعي السكك الحديد والطرق.

قد تلهي بعض الحوادث الناس عن أزماتهم المعيشية والحياتية المعتادة وتشغل بالهم مؤقتا، لكن لن تنسيهم مشاكلهم الشخصية التي يعوّلون على الحكومة في إيجاد حلول عاجلة لها، وقد تنجح الحكومة في محو آثار أزمة بعد وقوع أخرى، إلا أنها من الصعوبة أن تتمكن من إقناع شريحة كبيرة من المواطنين بأن كل الأمور تسير على ما يرام، حيث تظل هموم التضخم والزيادة في أسعار السلع والخدمات طافية.

بالطبع الحكومة بريئة من افتعال الحوادث الضخمة التي يذهب بسببها العديد من الضحايا، لكن مشكلتها تأتي من عدم توفير البيانات الكافية حولها والتفسيرات المقنعة لأسبابها، وهما ما يثيران هواجس كثيرة في نواياها البعيدة، خاصة أن قطاعا كبيرا من المصريين على قناعة أن الحكومة تبدو كمن “يتلذذ” بإلهاء الناس بقضايا جانبية.

يستشهد مواطنون دائما بنموذج رئيس نادي الزمالك الرياضي (المعزول) مرتضى منصور الذي حفل قاموسه اللغوي أمام وسائل الإعلام بالكثير من الألفاظ الخارجة على القانون والمألوف من دون قيام الحكومة بإعمال حقها في توقيفه ومحاسبته، وقد بلغ تطاوله النّيل من قيادات كبيرة، وانساق خلفه جمهور عريض، حيث فهم أن إطلاقه شتائم بلا رقابة أو حساب يعكس موافقة ضمنية رسمية.

نجح الرجل في إلهاء البعض جزئيا إلى أن بدأ يستنفد أغراضه، وتحولت معزوفاته الكلامية الصاخبة إلى ملل سرعان ما تحوّل إلى عبء على كاهل الحكومة فتم ترويضه مؤقتا وإلزامه بقدر من الصمت، خوفا من أن يتحول إلى قنبلة قد تنفجر في وجوه من منحوه الضوء الأخضر ليمارس هوايته في التطاول على الكثيرين.

عندما أبدى وزير النقل والمواصلات الفريق كامل الوزير امتعاضه من سلوكيات الناس قائلا “الدولة تنفق المليارات على المشروعات والناس تهيل عليها التراب”، لمس زاوية مهمة دون أن يدري، وهذه الزاوية تفسر بعدا معتبرا في الإهمال الذي يمثل عنصرا حيويا في تكرار الحوادث، وهو أن الحكومة منحت الحجر تركيزا كبيرا وحققت تقدما في البنى التحتية المختلفة، لكنها لا تزال لم تمنح التركيز ذاته لتوعية البشر، فمن الطبيعي أن يكون سلوك هؤلاء لا يتناسب مع حجم الإنجازات على مستوى الحجر.

هذا واحد من الدروس التي يجب أن تستوعب مغزاها الحكومة، فاستغراقها في البناء والتعمير وشق الطرق والجسور وغيرها من الضروري أن يكون متوازيا مع التحسن في التعليم والتوعية والثقافة، وتطوير الإعلام كجهة رقابية، قبل تحول سلوك البشر إلى كوارث تتعدى حوادث القطارات والطرق والحرائق وكثافة القتل بلا أسباب مقنعة.

لن تصبح المشروعات العملاقة التي تقيمها الدولة ذات قيمة حقيقية في غياب تهذيب العنصر البشري الذي تقع على عاتقه مسؤولية الإدارة والتعامل مع الآلات الصماء، فإذا لم يكن يُحسن لغتها ويعرف أهميتها ويدرك أنها السبيل لخروج الدولة من أزماتها سوف تتكرر الحوادث بأشكال وألوان مختلفة ولن تستطيع الحكومة ملاحقتها.

تحتاج أيّ حكومة إلى إجراء دراسات للتعرف على أسباب بعض الظواهر، وفي مقدمتها إعادة إحياء مجال الدراسات الاجتماعية التي تراجع دورها بمصر في السنوات الأخيرة، ولم يعد المركز القومي للبحوث الجنائية والاجتماعية فعالا، ولا أعلم الدوافع التي تعيق دور باحثيه لتفسير ما يجري من حوادث محيرة ومتفرقة.

كانت دراسات هذا المركز العريق مرشدا لصناع القرار في أوقات سابقة، وأداة مهمة للاطلاع على تفسيرات علمية رصينة للكثير من الحوادث وتقديم الحلول لها، وحرم تقويض دوره الحكومة المصرية من وسيلة كان يمكن أن تساعدها في إيجاد علاجات لحوادث متكررة يرتكبها الناس.

ربما لا تقدم علاجا لغرق قاطرة أو انحراف سفينة أو خروج قطار عن قضبانه أو سقوط سيارة في النيل، غير أن الدراسات يمكنها القيام بدور في مجال البحوث الاجتماعية وتحديد الدوافع التي تجعل أبًا يقتل أبناءه أو أمًّا تضع السم لزوجها.

مهما كانت نوعية الحوادث التي تقع في دول عدة تحتاج إلى بحوث معمقة لتجنب حدوثها مرة أخرى، الأمر الذي أضحى مسألة مُلحّة في مصر، بموجبها يمكن إجهاض الكثير من السيناريوهات السلبية التي جعلت من عدم ثقة فئة من المواطنين بالحكومة علامة رئيسية في تقديراتهم لبعض الحوادث ورؤيتهم للتعامل معها.

تضع الحكومة نفسها في دوائر مركبة من الشكوك طالما أنها لا تملك حلولا للحوادث التي تتكرر، ويتعقد الموقف أكثر مع عدم مصارحتها بما يجري، والإجابة على الأسئلة المحورية لبديهيات الخبر، من يقول ماذا ومتى وأين وكيف، أو 5 HOW، وهي القاعدة التي يتعلمها كل دارس للإعلام وتظل دليلا على مدى إتقانه المهنة، ولأن الإعلامي في مصر لم تعد الأجواء مواتية أمامه للبحث والتقصي والإجابة عن ذلك، فمن واجب الحكومة ألا تتركه وثمة شريحة عريضة من المواطنين تتوق للمعرفة.

ولا تمثل هذه العملية عبئا مضنيا على الحكومة وأجهزتها، بل على العكس يمكن توظيفها في قطع الطريق على تداول الشائعات وسرعة انتشارها، فعدم توافر المعلومات الرسمية بصورة سريعة يمنح قوى معارضة فرصة لإطلاق الأكاذيب وتضخيم ما يقع من حوادث، وفي أحيان كثيرة حرفها عن النطاق الذي تقع فيه ونسج قصص خيالية تحرج الحكومة أمام الرأي العام في الداخل والخارج.

 

 

 

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى