أقلام وأراء

محمد أبو الفضل: تصدير الغاز المصري أم استهلاكه محليا

محمد أبو الفضل 2023/08/21: تصدير الغاز المصري أم استهلاكه محلياالاثنين 

حمّل مصريون الحكومة المصرية مسؤولية أزمة انقطاع الكهرباء الحادة الفترة الماضية، لأنها اختارت تصدير كميات كبيرة من الغاز الذي تنتجه من حقل ظُهر في عرض البحر المتوسط والحصول على عائدات من العملات الأجنبية بدلا من توفير الغاز لسد العجز داخليا وعدم انقطاع الكهرباء.

راجت تقارير في بعض وسائل الإعلام المصرية والعربية حول هذه المسألة، وتنوعت الاجتهادات فيها بين الانتصار لمجال على آخر، وبين صب النقمة على الحكومة غير الرشيدة التي لم تحسن هندسة أولوياتها الاقتصادية وسال لعابها لمجرد أنها علمت أن التصدير يمكنها من توفير حصة جيدة من العملات الأجنبية دون أن تعي مدى ما يعكسه هذا الاتجاه من تأثيرات سلبية على الدولة وما يحمله من حرج بالغ للنظام الحاكم الذي حاول الدفاع عن موقف الحكومة، تارة بالدفاع عنها والبحث عن مبررات منطقية لتصرفها، وتارة أخرى بوضع الكرة في ملعب التحولات الاقتصادية العالمية.

تمثل هذه المعادلة مشكلة في الدول التي لا تملك وفرة غازية أو نفطية تساعدها على التصدير والحصول على عائدات دولارية وسد احتياجات السوق المحلية، لأن الكميات المنتجة محدودة ولا ترقى إلى المستوى الذي يحقق التوازن المطلوب.

يصعب توجيه اللوم للحكومة المصرية على خيارها هذا، ويصعب أيضا امتداحها على عبقريتها في تبني خطوة التصدير، ففي الوقت الذي أرادت فيه الحصول على مقابل سخي من تصدير الغاز نظرا لزيادة الطلب العالمي عليه، كادت تتسبب في أزمة داخلية لأنها سوقت لمشروعاتها في مجال الكهرباء على أنها أهم الإنجازات المادية التي تحققت السنوات الماضية بلا منازع.

جاء الإحباط من توجيه ضربة قاسية لهذا المجال أحبطت شريحة من المواطنين اعتقدت أنها تخلصت من أزمة انقطاع الكهرباء إلى الأبد، ومن عدم قدرة الحكومة على الدفاع عن موقفها وغياب المعلومات التي تشرح وتفسر وتوضح.

ما زاد الأمر سوءا أن هذه الندرة أو الغياب اصطحبا معهما شائعات طالت التشكيك في وجود وفرة أصلا في الكهرباء مع اكتشاف عيوب فنية في حقل ظُهر الذي اعتبرته الحكومة درة تاجها، وإحدى أبرز الخطوات التي حققها النظام المصري مؤخرا.

تتجاوز المشكلة مفارقة تصدير الغاز أم استهلاكه، لأن كليهما يمثل أهمية للقاهرة، ويصعب وضع سؤال مركزي بشأن المفاضلة النهائية بينهما، فكل خيار ينطوي على مزايا وعيوب، ومكاسب وخسائر، وجاءت الأزمة من عدم الشفافية وارتفاع سقف طموحات المصريين وتصاعد حدة الأزمة الاقتصادية.

لن يكون سؤال الغاز آخر القضايا التي يدور حولها خلاف في مصر، لأن هناك سلعا بدأت تتطرق إليها هذه الازدواجية، مثل الفواكه والموالح والخضروات، والتي ازدهرت في مصر السنوات الماضية وتمخضت زيادة الطلب عليها عن ارتفاع قياسي في أسعارها داخليا، ما أدى إلى غضب من حكومة انحازت تصوراتها لخيار التصدير.

تخطى شّح الدولار في مصر عملية توفيره لاستيراد سلع من الخارج إلى أنه أصبح يمس الأمن القومي، لأن القلق الذي لازم البعض جراء الإسراف في تصدير بعض السلع يفتقر للتوسع في السلع الحيوية التي تمثل مصدرا رئيسيا للعملات الأجنبية.

شرعت الحكومة في زيادة الرقعة الزراعية لبعض المحاصيل، لكن عائداتها لا تزال فقيرة أو تأتي على حساب منح أولوية لسلع دون أخرى، لأن محدودية الأراضي تظل كابحا لمزيد من التوسع في المنتجات التي تشهد إقبالا لافتا عليها، فالزيادة في زراعة الموالح قد تأتي على حساب الفواكه، والتوسع في القمح محليا وما يواجهه من تحديات خارجية قد يتسبب في أزمة في محصول الأرز الذي يمثل أهمية للمصريين.

يحتاج التغلب على هذا النوع من المشكلات مروحة اقتصادية واسعة من قبل الحكومة، ومصارحة بما تقوم به لتكون قادرة على ضبط إيقاع الناس، فمشكلة الغاز والكهرباء أتت من رحم تصريحات سابقة لمسؤولين كبار رفعت مستوى الاستكشافات في الأول بما وصل حد المبالغة وتصوير مصر كأنها المصدر الرئيسي للغاز في المنطقة.

أسهم التغني بالفائض الكبير في الكهرباء والحديث عن تصدير كميات لدول الجوار في محو فكرة انقطاعها ثانية، ونسيان ما سببته في وقت سابق من معاناة لفئة من المواطنين رأت أن توافر الكهرباء لا تضاهيه تطورات أخرى، وعندما تتعرض لضربة قاصمة تهز صورتها من الضروري التشكيك في تقديرات الحكومة.

يعد التشكيك في نوايا الحكومة واحدا من الروافد الخطيرة التي حملها انقطاع الكهرباء، ما يدفع الحكومة إلى إعادة النظر في ملف تصدير الغاز، فقد يتحمل المواطنون نقصا في الفواكه والموالح أو عجزا في السلع الترفيهية المستوردة، لكن حياتهم بلا قيمة مع انعدام الكهرباء، ويمكن أن تصبح عصية على التحمل وسط قيظ مروع في مصر، فالكهرباء تضاهي رغيف الخبز (العيش) الذي يعد المساس بأسعاره صعودا، أو اختفائه من الأسواق ضربة قوية لأي حكومة مصرية.

قد تكون الحكومة استوعبت الدرس السياسي لانقطاع الكهرباء أخيرا، إلا أنها لم تبد استعدادا لفهم أبعاده اقتصاديا، فبعض التصريحات التي صدرت من مسؤولين في الحكومة لا تشير إلى إمكانية حدوث مراجعة في خيار تصدير الغاز على المدى المنظور، ليس لأنها ملتزمة باتفاقيات مع بعض الدول وعليها الوفاء بها، بل لأن وسائل الحصول على العملات الصعبة من مصادر أخرى غير متوافرة.

تكمن المشكلة في احتمال تكرار حدوث انقطاع الكهرباء الصيف المقبل، وسط صعوبة في زيادة الصادرات من سلع أخرى والحصول على عوائد دولارية، ومخاوف من أن يكون الحديث المتواتر عن وجود عيوب فنية في حقل ظُهر حقيقة، بالتالي يصبح التمادي في تشييد محطات عملاقة لتوليد الكهرباء في غير محله، لأن الحكومة افتقرت للدراسات العلمية الكافية التي تمكنها من تحاشي هذه الفجوات الهيكلية.

لا يزال الطريق الاقتصادي صعبا في مصر، وتعتريه تحديات كبيرة، وما لم يتم إيجاد وسائل علاج سريعة قد تتكرر الأزمات في قطاعات عديدة، لأن الهوة بين الاستيراد والتصدير تجعل من شُح الدولار عرضا مستمرا، ولا تقتصر على توفير الغاز لتصديره، فهناك قطع غيار مستوردة لسلع مهمة تواجه ندرة في السوق المصري.

تبدأ المواجهة من إيجاد حل توافقي لإشكالية تصدير الغاز أم استهلاكه محليا، والتي لن تنتهي عندها الأزمات، لأن الإصلاحات التي يحتاجها الاقتصاد تحتاج إلى جرأة وتخل عن ظواهر أشبه بثوابت يصعب الاقتراب منها، فقد يمثل كسر بعض “التابوهات” التقليدية أحد أهم العلاجات للحالة المزمنة التي يعاني منها الاقتصاد المصري حاليا، والتي سوف تعيد الثقة فيه خارجيا وداخليا.

 

 

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى