أقلام وأراء

محمد أبو الفضل: أين تذهب الضوضاء السياسية في مصر

محمد أبو الفضل 2023/08/26: أين تذهب الضوضاء السياسية في مصر

تعيش مصر حاليا على وقع ضوضاء سياسية يختلط فيها الجد بالهزل، وتتباعد حسابات الحكومة عن المعارضة. هي حالة يمكن أن توجد أفقا واعدا أو تبقي الأوضاع على ما هي عليه، لأن الأطراف السياسية المتداخلة تدير الأمر بطريقة النقطة نقطة، ولا توجد رؤية واضحة حول المآلات التي يمكن الذهاب إليها.

فتح النظام المصري بابا إيجابيا بالإفراج عن عدد كبير من سجناء الرأي، ومنح ضوءا أخضر للمعارضة للمشاركة في الحوار الوطني والتعبير عن طموحاتها وأحلامها، وتراجعت الكثير من ملامح المضايقات السابقة، فهناك المرشح المحتمل المعارض أحمد الطنطاوي الذي يتحرك بدرجة عالية من الحرية لم تكن معهودة من قبل استعدادا لخوض انتخابات الرئاسة القادمة، وهناك رغبة معلنة من الرئيس عبدالفتاح السيسي بالتجاوب مع الطروحات الوطنية ولو جاءت من خندق المعارضة.

تحاول قوى معارضة استثمار هذه الملامح، لكنها لا تزال مسكونة بهواجس مسبقة تجعلها لا تثق في التصورات المقدمة من الحكومة، وتتعامل معها بحذر وتريث شديدين، ربما لأن لديها معلومات أن التوجهات الرسمية الجديدة غير أصيلة أو هناك من سيعرقلها ولا يريد لها أن تصل إلى المستوى المأمول.

تشير معالم مختلفة إلى أن الضوضاء جزء من تطورات سياسية طبيعية والأمور يمكن أن تتحرك قدما، كما تشير أيضا إلى أن السلطة المصرية واقعة تحت ضغوط لا تمكّنها من البقاء على إدارتها للمشهد السياسي بالأدوات نفسها التي مكنتها السنوات الماضية من إخضاعه لسيطرتها.

توارت التحديات الأمنية التي كان يمثلها الإرهاب وجماعة الإخوان وكل المتطرفين، وتعيش البلاد مرحلة جيدة من الاستقرار تمكنها من إدخال إصلاحات سياسية وفتح الأبواب والنوافذ للأحزاب لتمارس نشاطها بالصورة التي يخوّلها الدستور والقوانين.

تعي الحكومة المصرية أن الأزمة الاقتصادية الحادة التي تواجهها لا تساعدها على استمرار الجمود السياسي، فالحراك يحمل تنفيسا لشريحة من المواطنين تشعر بالقلق من الانسداد الاقتصادي، والسخونة الراقدة قد تؤدي إلى غضب تصعب معالجته.

ينظر النظام المصري إلى هذه الإشكالية بجدية ولا يريد غض الطرف عنها يمينا أو يسارا، ويبحث عن وسائل اقتصادية وسياسية لامتصاصها، بعد تحييد الوسائل الأمنية نسبيا، وإذا كان الاقتصاد يحتاج وقتا لسد فجواته وثغراته فالسياسة لا تحتاج عناء كبيرا ولن تمثل تعبا ثقيلا، لأن قواعد اللعبة خاضعة لضوابط تقبض عليها جيدا أجهزة الدولة التي لن يضيرها المزيد من الصراخ في الفضاء الإلكتروني.

من هنا تأتي المشكلة، فارتفاع صراخ المعارضة في قضايا حيوية بدأ يحرج الحكومة، لأن أدوات مواجهته قاصرة أو غير رشيدة، وفي أحيان كثيرة تأخذ شكلا دعائيا، وفاقدة للمعلومات التي تساعدها على تسويق رؤيتها.

مرّت الجهات الرسمية باختبارات متعددة أخفقت في تجاوز بعضها عندما حدثت أزمات تجاهلتها وتركت المجال لترويج روايات المعارضة بينما اختفت تقريبا الرواية الرسمية المعتمدة على الصراحة والمعلومات، وهو دليل على ثقة أو عدم اكتراث، وربما فقدان للشفافية التي باتت تمثل عنصرا خطيرا في بعض المحكات.

تعد الشفافية في السياسة مثل العنقاء والخل الوفي يصعب العثور عليهما، لكن في بعض المواقف لا غنى عنها، على الأقل للحفاظ على صورة الحكومة التي يعني غيابها، ترفا أو ترفعا أو قلة حيلة، ترك الساحة لخصومها للنيل منها سياسيا من خلال زيادة جرعات التشويش حولها، والذي يمكن أن يتحول إلى إزعاج يحمل تفسيرات متباينة أخطرها عدم الخبرة السياسية في التعامل مع المحكات الصعبة.

من الضروري عدم الانسياق وراء الاستنتاجات النهائية لجهة وجود حراك حقيقي تريده الحكومة والمعارضة، كل حسب رؤيته، أو التشاؤم وعدم التفاؤل بإمكانية حدوث نقلة نوعية في عملية الإصلاحات السياسية، فالموقف العام في مفترق طرق ويحتمل الذهاب إلى التغيير والبقاء في مربع الجمود.

في الحالتين يصعب التمسك بالمشهديات السياسية، فقد راح زمانها، وإذا حدثت فإن السيطرة على مخرجاتها مستحيلة وسط انفتاح أدوات التواصل الاجتماعي التي تحولت إلى محرك محوري في الكثير من التطورات في مصر وغيرها، وتصاعد دورها إلى المستوى الذي يعوّل عليها من جانب غالبية الأحزاب السياسية التي تمارس نشاطها من داخل غرف مغلقة في القاهرة.

يشعر المراقب لما يجري في مصر بالزخم والتفاعل والنشاط والعافية السياسية، فكل يوم قصة عن موقف للحكومة أو المعارضة، اشتباك وليونة، وشد وجذب، واتهامات وتفاهمات، لكنها لا تتعلق بصميم العمل السياسي، فكل حكاية تتحول إلى مباراة أشبه بالمبارزة بين شخصين غير متكافئين، أحدهما يملك مفاتيح اللعبة والآخر يسعى إلى القبض على أحد أدواتها كي يتمكن من شرف البقاء في الحلبة.

تصلح فكرة الحلبة لتصوير ما يجري في مصر، لأن الكل محكوم بقواعد صارمة، وأيّ تفكيك فيها أو رخاوة لا أحد يضمن النتائج التي يمكن أن تحدث داخل الحلبة، فما يدور يشبه التسخين السياسي لمعركة الانتخابات الرئاسية التي سوف تحدد مقدماتها وإدارتها والشخصيات المرجّح التنافس فيها المسار الذي تستقر عليه الضوضاء.

يمكن أن تذهب إلى الهدوء أو الغليان، فالصورة العامة مفتوحة على طريقين متناقضين، يتوقف تفوّق أحدهما على ما يريده النظام المصري وآليات تعاطيه مع الأوضاع السياسية التي تمر بتغيرات تجعل المعادلة التي كانت تدار بها سابقا في حاجة إلى تعديلات جوهرية تتواءم مع الحالة السياسية العامة في شقها: الاقتصادي والاجتماعي والأمني، ولكل منها طريق قد يصطدم مع الآخر في أيّ لحظة.

تتوقف عملية استشفاف نجاح أيّ المسارات سيتم ولوجها على جملة محددات تدير بها السلطة الحاكمة الفضاء العام، أبرزها حسم التباين الحاصل بين من يناصرون التعجيل بالمكاشفة السياسية وبين من يتخوّفون من العواقب بحجة وجود صعوبات داخلية وخارجية لا تسمح بإصلاحات مفتوحة.

كما أن الحرص على الضوضاء بشكل مجرد باعتبارها تؤدي غرضا سياسيا قد يكون خيارا مناسبا، بزعم أن تكلفتها لن تتعدى المناوشات التقليدية، بينما الرضوخ لها وتحويلها إلى عملية سياسية منظمة سوف يخل ببعض التوازنات التي تأقلمت معها الحكومة والأجهزة المعنية بالإدارة السياسية خوفا من صدمة أو تحسبا من مفاجآت.

يفضّل فريق في السلطة اتّباع سياسة الخطوة خطوة في التعاطي مع المشهد السياسي وادخار بعض الأوراق لاستخدامها عند اللزوم، لأن الأوضاع التي تمر بها مصر غير منفصلة عمّا يدور في المنطقة المحيطة بها، فثمة خطورة ربما تأتي من السيولة التي تمر بها بعض الدول المجاورة بسبب ما يمكن تلقيه من عواصف على محيطها، وهو المحدد الذي على أساسه تقيّم القاهرة درجة الإصلاح السياسي في الفترة المقبلة.

 

 

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى