أقلام وأراء

ماجد كيالي: في بحث بوتين عن عالم متعدّد الأقطاب

ماجد كيالي 4-6-2023: في بحث بوتين عن عالم متعدّد الأقطاب

منذ صعوده إلى سدّة السلطة في روسيا (2002)، ظلّ هاجس الرئيس الروسي فلاديمير بوتين استعادة أمجاد روسيا، وتعزيز مكانتها على الصعيد الدولي. لكنه في هذا وذاك، ظلّ هاجسه يتركّز على صورة روسيا الساكنة في مخيّلته، كإمبراطورية، من دون التمييز بين روسيا القيصرية، وروسيا السوفياتية (الشيوعية)، وإن بدا أنّه أميَل للأولى، في تبرّمه من خطابات القادة السوفيات بخصوص “حق تقرير المصير للشعوب”، وضمنها إتاحة مَنح أوكرانيا، والعديد من الدول أو القوميات، الاستقلال عن روسيا “الأم”.

بيد أنّ المسألة الأهم في هذا الموقف الإشكالي يتعلّق بسعي بوتين لاستعادة الإمبراطورية في مجالها الإقليمي (الأوراسي)، أي بالتركيز على الجغرافيا ـ الأرض، وبالاعتماد على القوة العسكرية، في ظرف باتت فيه روسيا تتراجع في سلّم القوة الدولية، على الصعد الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية، وهذا ليس مقارنة مع الدول الغربية فقط، وإنما بالمقارنة حتى مع الصين، أو كوريا الشمالية، مثلاً.
اللافت أنّ بوتين في سعيه لعالم متعدّد الأقطاب، وهو سعيٌ مشروعٌ طبعاً، يتناسى أنّ ثمة عالماً كهذا فعلاً، وأنّ المسألة تتعلّق بانحسار حصّة روسيا، أو تراجع أسهمها ومساهماتها، في تشكيل هذا العالم، أو إنتاج ما يفيده، عدا ثرواتها الباطنية ومحاصيلها من الحبوب.
مثلاً، إنّ روسيا عضو في مجلس الأمن، وتمتلك حق النقض “الفيتو” في القضايا العالمية الكبرى، كالولايات المتحدة والصين وفرنسا وبريطانيا، وهو امتياز لا تتمتع به ألمانيا أو اليابان أو الهند أو إيطاليا او البرازيل، أي بقية الدول العشر الصناعية الكبرى في العالم.
أيضاً، كانت روسيا أصبحت جزءاً من مجموعة الدول الصناعية الثماني (G7+1)، بشكل رسمي منذ العام 1997، مع الولايات المتحدة، واليابان وألمانيا وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا وكندا، وهو امتياز لم تتمتع به الصين أو الهند أو البرازيل، لكنها أُخرجت منه بسبب سياساتها، لاسيما بعد غزوها أوكرانيا وضمّها شبه جزيرة القرم (2014).
يمكن أن نضيف إلى ما تقدّم وجود روسيا كقطب دولي، إلى جانب الصين والهند، في منظمة شنغهاي (تأسّست في 2001)، وفي مجموعة دول “بريكس” (تأسّست في 2006)، وهي منظمات طموحة، وواعدة، رغم الثغرات التي تعتور كل منها، في العلاقات المضطربة بين الدول المنضوية فيها.
في جانب آخر، فقد شهدنا أنّ الولايات المتحدة كانت تصرّ على الدول الأوروبية تقليص اعتمادها على روسيا في إمداداتها من الطاقة، لكن تلك الدول لم تصغ لها، كما أنّ الولايات المتحدة ظلّت تضغط على دول حلف “ناتو” لتخصيص 2 في المئة من إجمالي ناتجها السنوي، للإنفاق العسكري، من دون أن تلقى أي تجاوب، لكن في الحالين المذكورتين، قامت الدول الأوروبية، بعد غزو روسيا لأوكرانيا في شباط (فبراير) 2022، بمراجعة خياراتها في امداداتها من الغاز والنفط، بوقف اعتمادها على روسيا، بل وفرض عقوبات مشدّدة عليها، كما قامت بزيادة اعتماداتها للإنفاق العسكري، بتخصيص 2 في المئة من إجمالي ناتجها السنوي، ناهيك عن عزلها روسيا، وتقديمها الدعم لأوكرانيا، وقيامها بإعادة هيكلة جيوشها، وتحديث أسلحتها.
ثمة العديد من المحطات، أو السياسات، التي يمكن عبرها ملاحظة التوترات، أو الاختلافات، بين خيارات الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية، لاسيما في عهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، في ما يتعلق بالبيئة، والمناخ، والأمن، والمنظمات الدولية، وفي عدد من القضايا الإقليمية، وهي التوترات التي عوّلت عليها روسيا كثيراً لتعزيز علاقاتها مع أوروبا، إلّا أنّ كل ذلك تلاشى بعد غزوها أوكرانيا، الذي اعتبرته الدول الأوروبية خطراً يتهدّدها، الأمر الذي دفعها لتوثيق علاقاتها مع الولايات المتحدة الأميركية.
وفي محصّلة الحرب، أو بسبب مغامرة بوتين، في أوكرانيا، فقد عزّزت الصين من مكانتها كقطب دولي، في حين باتت روسيا أكثر تبعية للصين، وأكثر اعتمادية عليها، فيما ازداد الاتحاد الأوروبي قوة وتماسكاً، وتوثقت علاقته مع الولايات المتحدة، بحيث بات مفهوم الغرب يشمل أوروبا وأميركا الشمالية مع اليابان وأستراليا.
ولعلّ المقارنة بين روسيا والصين تفيد بملاحظة جمود الاقتصاد الروسي في عهد بوتين مقابل صعوده في الصين. فبحسب إحصاءات البنك الدولي، كان الناتج المحلي الإجمالي لروسيا في أعوام 2002 و2012 و2021 على التوالي: 345 مليار دولار، و2.21 تريليون دولار، ثم تراجع إلى 1.78 تريليون دولار. في المقابل كان في الصين: 1.47، و 8.53، و17.73 تريليون دولار، ما يعني أنّ النمو في الصين كان أكبر بعشرة أضعاف منه في روسيا في كل السنوات. ومن جهة نصيب الفرد من الناتج الإجمالي، فقد كان في العامين 2012 و2021، كالآتي: روسيا، 9475 و 10.216 دولارا، في حين كان في الصين 6591 و11.188، أي أنّه تضاعف في الصين مئة في المئة تقريباً. لكن الفارق الأكبر يمكن ملاحظته في القوة التصديرية للبلدين في العامين 2012 و2021، فقد كان في روسيا 589 و 550، أي انّه جامد، في حين كان صاعداً في الصين بأكثر من أية دولة أخرى من 2.18 إلى 3.55 تريليونات دولار.
تبعاً لذلك، فإنّ المشكلة تكمن في إدراكات روسيا- بوتين للعلاقات الدولية، ولصورة روسيا، وإمكاناتها، في العالم، إذ تلك الإدراكات لا تفيد بمعرفة أسباب تحوّل دول الاتحاد السوفياتي السابق، ودول المنظومة الاشتراكية السابقة (على مثال أوكرانيا ومولدافيا وليتوانيا واوستيا وبلغاريا ورومانيا وتشيكيا… الخ) نحو الغرب، أو نحو الانضواء في الاتحاد الأوروبي، وفي حلف “ناتو”. كما أنّ تلك الإدراكات تتجاهل تراجع القوة الاقتصادية لروسيا (1.7 تريليون دولار)، وهي أقل من القوة الاقتصادية لكل من كوريا الجنوبية وإيطاليا، كل على حدّة، وروسيا ليست بين الدول العشر الأقوى اقتصادياً في العالم.
ما تقدّم لا يعني أنّ روسيا ليست دولة قوية، أو أنّها تفتقد لعناصر القوة، لكن ما يجب إدراكه، أنّ روسيا تلك لم تتطور في عهد بوتين، من النواحي الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية، لكنها بقيت دولة قوية في إقليمها، أما من كونها قوة عسكرية، فيبدو أنّها تعرّضت للاهتزاز بعد إخفاقاتها في أوكرانيا، بحيث أنّ وزير خارجية الولايات المتحدة اعتبر أنّها باتت بمثابة “الجيش الثاني في أوكرانيا”، بعد أن كانت تعتقد انّها الجيش الثاني في العالم!
وفي العموم، فإنّ المشكلة هي في كيفية استعادة روسيا لمكانتها كقطب، وبالتأكيد فإنّ ذلك لا يتعلّق فقط بالقوة العسكرية، أو النووية، لأنّ العالم يتغيّر، وهو بات يسير بقوة التطورات العلمية والتكنولوجية، لا بقوة المواد الخام، على أهميتها، ولا بالقوة العسكرية لوحدها، وبالطبع ولا بكبر مساحتها، أي على خلاف كل ما يعتقده بوتين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى