#غزة

سعيد عكاشة: الأبعاد المختلفة للتصعيد الإسرائيلي في غزة

سعيد عكاشة * 7-8-2022م

خلافاً لكل حروبها السابقة ضد قطاع غزة منذ عام 2008 والتي كانت تبدأ بعمليات عسكرية من جانب المنظمات الفلسطينية في القطاع تقوم على إثرها إسرائيل باستخدام أقصى درجات العنف في الرد عليها، فإن العملية الجارية حالياً، والتي بدأت في 5 أغسطس 2022، لم تكن رداً على أي عمليات فلسطينية من جانب الحركتين الأهم (حماس والجهاد). ويبدو السؤال الضروري هنا: لماذا قررت إسرائيل شن عدوانها ضد القطاع في هذا التوقيت؟، وما هي التداعيات المحتملة لهذا العدوان؟

حسابات القرار الإسرائيلي

لعبت أربعة عناصر رئيسية الدور الرئيسي في اتخاذ إسرائيل قرار البدء بالعمليات العسكرية ضد قطاع غزة، ويمكن تلخيص هذه العناصر وترتيبها وفق أهميتها على النحو التالي:

أولاً: هيمنة الأمني على السياسي: تتعامل إسرائيل منذ نشأتها عام 1948 على أنها دولة في حالة حرب مستمرة مع خصومها، ولم يساهم عقدها لاتفاقات سلام مع مصر والأردن في تقليل شعورها بالخطر، خاصة مع ظهور تحديات أمنية جديدة تمثلت في الحروب بالوكالة التي أدارتها إيران ضد الدولة العبرية بدعمها لمليشيا حزب الله في لبنان، وحركتي حماس والجهاد الفلسطينيتين في غزة والضفة الغربية منذ تسعينات القرن الماضي.

ورغم ادعاء إسرائيل بأنها دولة ديمقراطية يتسم نظامها السياسي بسيطرة المستوى القيادي السياسي على قرارات الحرب والسلام، ويخضع لقراراته المستويان الأمني والعسكري، إلا أن شعور إسرائيل كدولة ومجتمع بالخطر المستمر تسبب في عكس هذه المعادلة، بحيث أصبحت قرارات الحرب والسلام بيد المؤسستين الأمنية والعسكرية عملياً، فيما تراجعت قوة المستوى السياسي، خاصة في المواقف التي تتسم بظهور مخاطر أمنية شديدة، وهو ما حدث على سبيل المثال عشية حرب يونيو 1967، والتي أظهرت الوثائق التي نشرت بعدها بسنوات طويلة، أن قيادات الجيش والأجهزة الأمنية ضغطت بقوة على رئيس الوزراء- في ذلك الوقت- ليفي اشكول لشن الحرب دون انتظار نتائج الجهود الدبلوماسية الدولية، التي كانت تسعى لمنع الحرب. وبدون الاسترسال في ذكر العديد من المواقف المشابهة لاحقاً، يمكن القول إن البيئة السياسية الحالية في إسرائيل (حكومة مؤقتة أو حكومة تصريف أعمال) تزيد عملياً من قوة المؤسستين العسكرية والأمنية بشكل غير مسبوق في اتخاذ القرارات الهامة في الدولة، وعلى الأخص في وجود يائير لبيد الذي يقود الحكومة المؤقتة، ولا يمتلك في تاريخه المهني أي خبرات أمنية أو عسكرية خلافاً لمعظم من تولوا منصب رئيس الحكومة في إسرائيل على مدى تاريخها.

وحسب التقارير المنشورة في الصحف العبرية قبل اندلاع القتال الجاري حالياً، فقد حذرت أجهزة الأمن الإسرائيلية من احتمال وقوع هجمات قوية من جانب حركة الجهاد الفلسطينية بعد اعتقال القيادي في هذه الحركة بسام السعدي. وبناءً على ذلك، تم اتخاذ إجراءات احترازية مشددة تسببت في توقف الحياة في المدن الإسرائيلية القريبة من حدود القطاع. وكدليل واضح على هيمنة الأمنيين والعسكريين على قرارات الحكومة، تساءلت العديد من التعليقات في الصحف الإسرائيلية عن مدى فائدة عمليات إغلاق الطرق وحظر السير في الشوارع وإيقاف مظاهر الحياة في مدن ما يسمى بغلاف غزة مثل سيديروت وأشكلون؟، وهي إجراءات صورت إسرائيل كدولة غير قادرة على ردع مليشيا صغيرة العدد وقليلة الإمكانيات مثل تنظيم الجهاد، وبالتالي، وبشكل غير مباشر، بدا كما لو كانت هذه التعليقات تشير إلى ضعف المستوى السياسي الذي يترأسه يائير لبيد، وخضوعه بالكامل لتقديرات الأمنيين والعسكريين دون حساب للأثر السياسي والمعنوي لقراراتهم على المجتمع الإسرائيلي وعلى صورة إسرائيل في الخارج.

ثانياً: فرصة الوقيعة بين حماس والجهاد: من المنطقي والمسلم به أن زرع الخلافات بين التنظيمات الفلسطينية، هو هدف جوهري للسياسة الإسرائيلية التي نجحت من قبل في دفع حركتي حماس وفتح لنسيان القضية الوطنية والتركيز على حسم الصراع المستمر بينهما على السلطة والنفوذ في غزة والضفة الغربية. وعلى ذلك، قرأت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية بتمعن تطورات العلاقة بين حركتي حماس والجهاد على الأقل منذ استيلاء الأولى على قطاع غزة عام 2007 وطرد السلطة الفلسطينية منه.

فعلى الرغم من الأصل المشترك للحركتين من حيث انبثاقهما عن جماعة الإخوان المسلمين، فإن التنافس بينهما حول جذب المناصرين وتجنيدهم لا يمكن تجاهله كون الصراع المذهبي الذي يخفي مصالح متعارضة، هو سمة سائدة في الصراعات الدينية في التاريخ الإنساني عامة وتاريخ المسلمين في الوقت الراهن خاصة. ولكن حتى هذا العامل لا تعول عليه إسرائيل كثيراً كون الموقف الذي تتبناه التيارات الإسلامية منها على اختلاف مذاهبها وأيديولوجيتها، ينضح بالكراهية والعداء. ما تراهن عليه إسرائيل حقاً لإضعاف حماس والجهاد هو ما حدث ويحدث على أرض الواقع من أزمات بين الحركتين والتي تتصاعد حيناً وتخفت في أحيانٍ أخرى على خلفية المواجهات الممتدة مع إسرائيل وسياسة حكم حركة حماس للقطاع منذ سيطرتها عليه.

بالنسبة لحركة حماس والتي أدركت بعد أربعة مواجهات كبرى مع إسرائيل في الفترة 2008-2021 محدودية قدراتها على إجبار إسرائيل على تغيير سياستها تجاه القضية الفلسطينية، فإن تكرار المواجهات المفتوحة مع إسرائيل بات يهدد قدرتها على البقاء والاستمرار في حكم القطاع، ومن ثم تميل حماس حالياً للتوقف عن الاحتكاك بإسرائيل مقابل ضمان وصول الدعم المالي الذي تقدمه أطراف إقليمية لها بموافقة ودعم إسرائيل. كما لا تريد حماس أن يؤدي توسيع المواجهات مع إسرائيل إلى حرمان قرابة ثلاثين ألف عامل فلسطيني يدخلون إلى إسرائيل يومياً من مصدر عيشهم هم وعائلاتهم، بما يفرض عليها أعباءً مالية لن تكون قادرة على مواجهتها.

أما حركة الجهاد، فقد كانت تسعى لاستمرار المواجهات مع إسرائيل مهما كانت تكلفتها على حماس والشعب الفلسطيني، وقد هاجم زعيم حركة الجهاد زياد النخالة حركة حماس بعد الحرب الأخيرة مع إسرائيل في العام الماضي، قائلاً أن “حماس لم تنتصر في هذه الحرب كما تدعي”، كما وصف علاقات حماس مع العالم بأنها “فارغة ولا جدوى منها”، رداً على ادعاء حماس بأنها أجبرت العديد من القوى الدولية والإقليمية على الاعتراف بشرعية المقاومة الفلسطينية وشرعية  حماس نفسها.

وكبرهان واضح على صراع النفوذ والسلطة بين التنظيمين، اعتقلت الأجهزة الأمنية لحركة حماس في سبتمبر من العام الماضي 13 عنصراً من  سرايا القدس- الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي- في قطاع غزة على خلفية إطلاق صواريخ ضد إسرائيل دون التنسيق مع الحركة.

في ظل هذه العلاقات المتوترة بين حماس والجهاد، ربما أرادت إسرائيل من بدء المواجهة الماثلة حالياً مع الجهاد أن تزيد من هوة العداء وانعدام الثقة بين التنظيمين، وهو ما عكسته تصريحات القيادات الإسرائيلية وقيادات الجهاد معاً. فوزير الدفاع الإسرائيلي بيني جانتس قال أن “عمليات الجيش ستتركز على الجهاد الإسلامي”، فيما حذر بشكل غير مباشر حركة حماس بقوله أن “نطاق العمليات سيعتمد على رد تنظيم الجهاد”، وبمعنى آخر أراد جانتس أن تفهم حماس أن الحرب يمكن أن تتوسع وتطول مواقع عديدة في القطاع ما لم تقم حماس بمنع تنظيم الجهاد من إطلاق صواريخه صوب إسرائيل.

في المقابل، قال زياد النخالة زعيم الجهاد: “أنا لا أريد الحديث عن مفاجآت في الميدان حالياً، هذا يوم امتحان تاريخي، سنقف أمامه موحدين، أو سندفع الثمن بصورة منفصلة”. ويبدو واضحاً أن النخالة يوجه حديثه لحماس التي ما تزال خارج المواجهة حتى اللحظة.

ثالثاً: إرباك إيران: يبدو أن استئناف المفاوضات بين إيران من جانب، والولايات المتحدة والدول الأربع الكبرى في مجلس الأمن بالإضافة إلى ألمانيا من جانب آخر، قد لعب دوراً غير مباشر في إقدام إسرائيل على شن عدوانها ضد حركة الجهاد. فالموقف الإسرائيلي الرافض للاتفاق النووي الذي وقعته الدول الست السابقة مع إيران، والذي انسحبت منه الولايات المتحدة عام 2018 ، قبل محاولة إحياءه من جديد منذ العام الماضي.. هذا الموقف تأسس من جانب الدولة العبرية على عدة نقاط منها، أن الاتفاق لم يتناول ضرورة توقف إيران عن دعم الجماعات التي تراها إسرائيل “منظمات إرهابية”، مثل حزب الله وحركتي حماس والجهاد. ومع إقدام إسرائيل على توجيه ضرباتها إلى حركة الجهاد بالتزامن مع استئناف إيران التفاوض حول إحياء الاتفاق النووي، يمكن القول أن الضغط على إيران- التي تدعم جماعة الجهاد- كان أحد أسباب إطلاق إسرائيل لعملياتها العسكرية في هذا التوقيت.

رابعاً: المنافسة في الانتخابات المقبلة: تتجه إسرائيل لإجراء انتخابات عامة في نوفمبر المقبل، وفي هذا التوقيت وحتى موعد إجراء الانتخابات يحرص كل حزب من الأحزاب الإسرائيلية على مخاطبة الناخبين وفق الأولويات التي يتبنونها، وتعتبر المسألة الأمنية على رأس القضايا التي يهتم بها الناخب الإسرائيلي، خاصة في مدن الجنوب والوسط المعرضة للهجمات الصاروخية من جانب الفلسطينيين في قطاع غزة.

وعلى غرار المقولة الأمريكية الشهيرة “لكل رئيس حربه” والتي تعبر عن فكرة الربط بين شرعية من يسكن البيت الأبيض وبين الحرب التي يخوضها في الخارج ضد الدول أو الجماعات التي تهدد المصالح الأمريكية، فإن المقولة نفسها ربما تصدق على إسرائيل أكثر من الولايات المتحدة، بسبب التهديدات التي تروج إلى أنها تتعرض لها، ومن يعود للتاريخ الإسرائيلي سيجد أن حرب 1948 هي من منحت ديفيد بن جوريون شرعيته التي مكنته من حكم الدولة لقرابة أحد عشر عاماً. وفي الاتجاه العكسي، كان الفشل في حروب أخرى سبباً من أسباب تقويض شعبية القادة الذين حظوا برضاء الرأى العام في فترات سابقة، فعلى سبيل المثال انهارت شعبية موشيه ديان الذي قاد إسرائيل للانتصار في حرب عام 1967 بعد أن تلقى الجيش الإسرائيلي في ظل قيادته هزيمة مذلة أمام مصر في حرب 1973، كما سقط إيهود باراك الذي تولى رئاسة الحكومة في إسرائيل عام 1999 بعد أن عجز عن مواجهة انتفاضة الفلسطينيين الثانية عام 2001، وبالمثل سقط إيهود أولمرت الذي خلف شارون عام 2006 بسبب الإخفاق الكبير للجيش الإسرائيلي في حربه مع حزب الله.

في ظل تلك الخلفية التاريخية، يمكن القول إن المعارك الدائرة بين إسرائيل وحركة الجهاد الفلسطينية حالياً قد تخدم التحالف المناوئ لزعيم المعارضة ورئيس الوزراء السابق بنيامين نتنياهو، إذا ما حققت إسرائيل في ظل حكومة يائير لبيد الانتقالية انتصاراً واضحاً، أو قد يحدث التأثير العكسي بأن تقضي هذه المعارك في حالة إخفاق الجيش الإسرائيلي فيها على فرص الزعيمين الأبرز في ذلك التحالف (يائير لبيد، وبيني جانتس) في البقاء في الحلبة السياسية مستقبلاً. 

ومن المؤكد أن الحسابات السياسية لكل من لبيد وجانتس في لحظة اتخاذ قرار التصعيد ضد الجهاد، قد اشتملت على هذا البعد، مع التأكيد على أنه بعد  ثانوي قياساً على الأسباب السياسية والأمنية الأكثر إلحاحاً وتأثيراً، والسابق ذكرها.

ويبقى السؤال: هل تتحقق التقديرات الإسرائيلية بأن المعركة مع الجهاد ستكون قصيرة والعائد السياسي منها سيخدم التحالف المناوئ لنتنياهو بزعامة لبيد وجانتس، أم ينفجر الوضع ويتطور لحالة حرب شاملة في حالة انضمام حماس لصف الجهاد؟، وهل ستختلف نتائج تلك الحرب عن نتائج سابقتها، أى العودة لتهدئة هشة تمهد لحرب أخرى في مستقبل غير بعيد؟.

*خبير مشارك – مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى