أقلام وأراء

رندة حيدر: ذاكرة لبنانية انتقائية في استعادة حرب 1982

رندة حيدر 24 سبتمبر 2022

إحياء ذكرى مرور 40 عاماً على مجزرة صبرا وشاتيلا واغتيال بشير الجميل أظهر مجدّداً أن لبنان لم ينجح قط في مداواة الجروح العميقة والندوب التي تركتها الحرب الأهلية، ومن آثار الغزو الإسرائيلي له في عام 1982 والتداعيات الكارثية التي تركها على المجتمعين اللبناني والفلسطيني. في هذه الفترة، شهد لبنان أفظع مجزرة همجية عرفها القرن العشرين هي مجزرة مخيمي صبرا وشاتيلا للاجئين الفسطينيين، التي ارتكبتها مليشيات القوات اللبنانية والتنظيمات المسلحة الموالية لها، والتي ذهب ضحيتها نحو ثلاثة آلاف ضحية (بحسب بعض التقديرات) من الفلسطينيين واللبنانيين من الرجال والنساء والأطفال والمسنين، والتي جرت بحماية قوات الجيش الإسرائيلي التي كانت تحاصر مداخل المخيمين، وحدثت ظاهرياً كردة فعل انتقامية على اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب حديثاً بشير الجميل.

في ذكرى إحياء هذين الحدثين في لبنان في الأسبوع الماضي، برز مجدّداً حجم الفجوة في الروايات والسرديات، وبصورة خاصة في ما يتعلق باغتيال بشير الجميل، الذي احتل أخيرا حيزاً مهماً في وسائل الإعلام اللبناني في ما بدا أنه محاولة شحن وتعبئة للمجتمع المسيحي بصفة خاصة في لبنان، وسائر الجمهور اللبناني، في مواجهة أحداث راهنة مأساوية، تتجلى في انهيار الاقتصاد اللبناني والتدهور السريع لمقومات الحياة في لبنان، وتفكّك بنى الدولة اللبنانية، واقتراب الاستحقاق الرئاسي مع التخوف من عدم القدرة على انتخاب رئيس جديد للجمهورية اللبنانية بعد انتهاء ولاية الرئيس الحالي ميشال عون في نهاية الشهر المقبل (أكتوبر/ تشرين الأول)، وفي ظل تحدّيات داهمة، مثل التوصل إلى اتفاق على ترسيم الحدود البحرية مع لبنان، ومنع حصول مواجهة عسكرية محتملة بين إسرائيل وحزب الله، في حال تعذّر التوصل إلى مثل هذا الاتفاق واضطر حزب الله إلى تنفيذ تهديداته ومهاجمة منصة كاريش لمنع استخراج الغاز منها.

في هذه الأجواء الضاغطة والصعبة، لا تزال أطراف لبنانية معنية تصرّ على إعادة كتابة التاريخ والأحداث من خلال وجهة نظر ضيقة وفئوية، وبمعزل عن الظروف والوقائع في تلك الفترة، وقد يكون ما نشر أخيرا بشأن عملية اغتيال بشير الجميل أبرز مثال على ذلك، ففي كل التحقيقات، جرى التركيز على عملية الاغتيال بحد ذاتها التي كان منفذها حبيب الشرتوني من الحزب القومي السوري الاجتماعي، الذي جنده الحزب لهذه المهمة قبل عامين من انتخاب بشير، وعلى الظروف التي أدّت إلى اعتقاله. وحتى المشاهد الحيادي لهذه التحقيقات لا بد أن يدهش من كيفية تمكّن الشرتوني من تنفيذ تفجير أودى بحياة 21 شخصاً إلى جانب الرئيس المنتخب حديثاً، على الرغم من تحذيرات كثيرة قيل إنها وصلت إلى المقرّبين من الجميل قبل الاغتيال والإجراءات التي اتخذها طاقم حراسه الشخصيين. وبدا واضحاً أن هناك محاولة لإعادة كتابة الوقائع لا من أجل الحقيقة، بل من أجل تلميع صورة بشير بعد 40 عاماً على اغتياله، وتبرئة من لا يزالون من حوله على قيد الحياة.

الأبشع والأكثر خطورة أن هذه الاستعادة لحادثة اغتيال الجميل لم تتطرّق لا من قريب ولا من بعيد إلى الظروف التي أوصلته الى رئاسة الجمهورية، والدور الكبير الذي لعبته إسرائيل في ذلك، فمن المعروف أن من بين الأهداف التي وضعها وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك، أرييل شارون، وهو المهندس الأول لهذه الحرب، تغيير صورة لبنان السياسية وانتخاب رئيس جمهورية موال لإسرائيل. ناهيك عن أن رئيس الحكومة الإسرائيلية آنذاك، مناحيم بيغن، كان يعتبر نفسه منقذاً للأقلية المسيحية في لبنان من خطر التنظيمات الفلسطينية الذي شبّهه بخطر “النازية”.

لم يتحدّث أحد في التحقيقات بشأن اغتيال الجميل عن العلاقة بينه وبين إسرائيل، وعما حدث بعد انتخابه، وعن الاجتماع الشهير بينه وبين بيغن في نهاريا، حين طالبه الأخير بأن عليه الآن القيام بدوره في الحرب، والدخول إلى بيروت الغربية “لتنظيفها” من الوجود الفلسطيني، وعندما تردّد بشير، وقال إن من الصعب عليه القيام بذلك الآن، ثارت ثائرة بيغن وتوجه إليه بعبارات قاسية ونابية جعلت بشير يكتشف فعلاً مع من يتعامل.

والأخطر من هذا كله أن الذين أرادوا إحياء مرور 40 عاماً على اغتيال بشير الجميل، لم تستوقفهم التداعيات الكارثية لهذا الاغتيال على سكان مخيمي صبرا وشاتيلا من الفلسطينيين واللبنانيين. وربما النقطة الأصعب، والتي لا يمكن فهمها والقبول بها، كيف يمكن ألا يعترف الطرف الذي كان وراء ارتكاب هذه المجزرة في لبنان بهذه المسؤولية ويعتذر عنها. صحيح أن جرائم واغتيالاتٍ كثيرة وقعت في لبنان من دون القدرة على المساءلة والمحاكمة، لكن في ما يتعلق بمجزرة صبرا وشاتيلا، هناك كم هائل من الشهادات والوقائع التي تكشف تورّط إسرائيل وتواطؤها مع القوات اللبنانية التي نفذت المجزرة. ومن بين الكتب المهمة التي عالجت موضوع مجزرة صبرا وشاتيلا، كتاب بيان نويهض الحوت، وكتاب شث أنزيسكا الصادر أخيرا عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية، وقد خصص فصلاً عن حرب 1982 تطرّق فيه إلى التواطؤ الأميركي وإلى الدور الإسرائيلي في المجزرة إلى جانب دور القوات اللبنانية التي نفذتها.

قد يكون بشير الجميل الآن بطلاً في نظر جمهور من اللبنانيين، لكن هناك من يعتبره خائناً في نظر شريحة أخرى كبيرة من اللبنانيين. ومع الأسف، عملية الاعتراف بمسؤولية اللبنانيين في تلك الفترة عن المجزرة التي وقعت بحق الفلسطينيني واللبنانيين بعد اغتياله لا تزال بعيدة جداً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى