أقلام وأراء

د. جمال عبدالجواد: معجزة الصين الاقتصادية

د. جمال عبدالجواد 26-6-2023: معجزة الصين الاقتصادية

معجزة الصين الاقتصادية هى أعجوبة زماننا. الصيغة الصينية فريدة جدا، فهذه دولة يحكمها حزب واحد بعقيدة شيوعية، تتعايش فيه الشركات الحكومية والخاصة بقدر كبير من التكامل، بحيث إن السؤال الشائع فى بلاد كثيرة حول شكل الملكية المفضل، وما إذا كانت القيادة للقطاع الخاص أم القطاع العام، يبدو سؤالا غير ذى قيمة فى الصين.

فى كوريا، وهى معجزة اقتصادية آسيوية أخرى، القطاع الخاص هو الأساس، وعندما تؤسس الدولة شركة فإنها سرعان ما تبيعها للقطاع الخاص. تقدم الصين نموذجا اقتصاديا مختلفا. فالشركات الحكومية هى الأكبر فى الصين، وهى شركات مملوكة للدولة لكن يجرى إدارتها وفقا لقواعد السوق والربحية والمنافسة، فكونها شركات دولة لا يعفيها من القواعد المطبقة على الشركات الخاصة، أو يتيح لها امتيازات لا يحصل عليها القطاع الخاص. الشركات الحكومية فى الصين مدرجة فى البورصة، ليس بغرض البيع والخصخصة، ولكن بغرض ضبط الأداء وتعريض المديرين لمساءلة تجبرهم على تحسين الأداء. عادة لا يتم طرح أكثر من 10% من أسهم الشركات الحكومية فى البورصة، بل إن جزءا أقل من هذا بكثير هو الذى يتم إتاحته للتداول بالفعل، فيما يكون الجزء الأكبر من هذه الأسهم القليلة بحوزة هيئات هى أيضا تابعة للدولة. ومع هذا فإن هذه الصيغة الفريدة كافية لتعريض مديرى الشركات لمحاسبة ورقابة وضغوط كافية لضمان جودة الأداء.

قاد دنج سياو عملية الإصلاح فى الصين فى مطلع ثمانينيات القرن الماضي. لم يكن الزعيم بنج ليبراليا أو ديمقراطيا، بل كان يرى أن تنفيذ الإصلاحات يحتاج إلى دولة قوية، وأنه كلما تم تحرير الأسواق زادت الحاجة لتشديد قبضة الحزب الحاكم.

قبل مجىء الزعيم بنج، وتحت قيادة الزعيم ماو، تحمل الفلاحون عبء توفير الموارد اللازمة للتصنيع، فكانت الدولة تحصل على كل الناتج الزراعى، وكان الفلاحون مجبرين على العيش فى حياة جماعية متقشفة، حتى إن أدوات المطبخ كان يجرى مصادرتها من بيوت الفلاحين لإجبارهم على تناول وجباتهم فى المطاعم الجماعية. كان الاقتصاد الريفى الصينى منزوع النقود، يعتمد على مقايضة السلع والخدمات عبر الدولة كوسيط، لم يكن للنقود من معنى، ولم يكن الفلاحون لديهم دافع للاحتفاظ بجزء من المحصول، لأنه لا توجد سوق لبيعه فيها، ولا يوجد فى المحلات سلع لشرائها بالنقود لو توافرت.

هذا هو الواقع الذى تم تغييره عبر إصلاح تدريجى، يعتمد أسلوب التجربة والخطأ، وليس تطبيقا لنظرية أو نموذج مسبق، فلم يكن هناك نموذج سابق لكيف يمكن إصلاح اقتصاد دولة شيوعية فاشل تسيطر فيه الحكومة على كل شيء. فى البداية كانت هناك خطوات صغيرة، وعندما تبين أن نتائج الإصلاح المحدود جيدة، حدث توسع تدريجى إضافى على نطاقات أوسع. السماح للفلاحين ببيع جزء من ناتج الأرض فى السوق كان هو الخطوة الصغيرة الأولى التى خلقت السوق ووضعت الثروة فى يد الأفراد.

فى الصين اقتصاد سوق، وفيها أيضا تخطيط مركزى. يتم إقرار الخطة الخمسية فى الصين فى السنة السابقة على اختيار حكومة جديدة، حتى تكون الخطة ملزمة للحكومة الجديدة، كطريقة لضمان الاستمرارية والحفاظ على الأهداف الطويلة المدى.

يوجد فى الصين 150 ألف شركة مملوكة للدولة مركزيا ومحليا.تسهم هذه الشركات بما يصل إلى 50% من الناتج المحلى الإجمالى غير الزراعى. تهيمن الشركات المملوكة للدولة على عدد من القطاعات أهمها البترول والتعدين والمنافع العامة والاتصالات والنقل. بين أكبر 500 شركة صينية يوجد أكثر من 250 شركة مملوكة للدولة. تقود شركات الدولة قطاع الخدمات، فواحد وستون بالمائة من أكبر 500 شركة فى هذا القطاع مملوكة للدولة.فى 2016 اختارت مجلة فورشن 103 شركات صينية ضمن قائمة 500 أكبر شركة فى العالم، كان منها 75 شركة مملوكة للدولة. تمثل البنوك المملوكة للدولة أكثر من 65% من إجمالى أصول القطاع المصرفى الصينى، وتحصل شركات الدولة على نسبة تصل إلى 80% من الائتمان الذى تقدمه البنوك. السهولة الشديدة التى يحصل بها القطاع الحكومى على الائتمان هو أخطر تهديد لمعجزة الصين الاقتصادية.

لا يثق الصينيون فى التفاعل الحر وحرية اتخاذ القرار المتروكة للشركات بشكل تام، ولا يضعون ثقتهم الكاملة فى المديرين الأفراد، لكنهم فى نفس الوقت يدركون مشكلات الإدارة البالغة المركزية التى سبق لهم تجربتها، فكان أن استقروا على صيغة هجين.تعين الدولة مديرى الشركات التى تملكها، ثم تراقبهم مرتين، مرة عبر الشفافية التى يوفرها طرح الشركات فى البورصة، والثانية عبر المنظمة الحزبية المحلية التى تقوم بمتابعة الأداء ورفع التقارير إلى المستويات القيادية. هكذا يدير الحزب الحاكم والدولة اقتصادا ضخما معقدا.

النموذج الصينى يتحدى النظريتين الماركسية والليبرالية. تقول الماركسية إن تطور قوى الإنتاج يغير علاقات الإنتاج، لكن هذا لم يحدث فى الصين.الصين تاريخيا هى مركز ابتكارات تكنولوجية كبرى سبقت بها الغرب، من البارود للمطبعة والبوصلة ومسابك الحديد والزهر، لكن هذا لم يغير علاقات الإنتاج والبنية الاجتماعية والسياسية الآسيوية الجامدة فى الصين. راهن الليبراليون الأمريكيون على أن ازدهار الصين الاقتصادى واندماجها فى التجارة الدولية سيحولها تدريجيا إلى دولة ديمقراطية ليبرالية تنضم لنادى الأثرياء الغربيين. أصيب الأمريكيون بالإحباط عندما حافظت الصين على سيطرة الدولة والحزب رغم التجارة والتكنولوجيا والاستهلاك والازدهار. نحتاج إلى نظرية خاصة تشرح المعجزة الصينية بإنجازاتها وتناقضاتها.

مركز الناطور للدراسات والأبحاث  Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى