أقلام وأراء

جميل مطر: واقع جديد يتحدى الدبلوماسية المصرية

جميل مطر 30-3-2023: واقع جديد يتحدى الدبلوماسية المصرية

نقف، العالم والإقليم ومصر، على مقربة من عصر جديد في العلاقات الدولية. أبواب هذا العصر غير مشرعة تماماً، واللاعبون في غالبيتهم متوجّسون سنوات صعبة وعمل شاق وحروب صغرى وعظمى محتملة. بعض معالم هذا العصر ما تزال ضبابية. الواضح لنا منها ليس إلا ما تبقى من معالم عصر ينقضي. من هذه المعالم انحدار مكانة ونفوذ القطب الأحادي وبخاصة منذ أن جرّته التطورات إلى حروب قيادة أو وكالة امتحنت هذه المكانة وذاك النفوذ. منها أيضاً، وأقصد من هذه المعالم المتبقية، توالي حدوث أزمات مالية واقتصادية عالمية حادة، ومنها وبوضوح أشد، العودة من سياسات العولمة ومبادئها وقيمها إلى السياسات الحمائية التي سبق أن تسببت في حروب عظمى، ومنها خروج مئات الألوف من المواطنين إلى الشوارع في دول غربية احتجاجاً على تدهور في سياسات الرفاه والعدالة الاجتماعية، وتعدّ دليلاً قوياً على أزمة مستحكمة في النظام الديمقراطي المهيمن في الغرب.

نسق النظام الدولي الذي عرفناه يرحل بصعوبة شديدة. عشنا في ظله ما يقارب ثلاثة أرباع قرن. يرحل واللاعب القائد فيه عاقد العزم على مقاومة الرحيل بكل ما أوتي من قوة.. راح على سبيل المثال يستنهض نوايا العسكرة في كل من اليابان وألمانيا ويدعو حلفاءه الأصغر في دول حلف الناتو إلى زيادة الإنفاق العسكري وتحديث منظومة التسلح.

هنا في ساحتنا، الساحة العربية، ازداد الميل المتدرج نحو الاهتمام بهوامشنا شرق الأوسطية. اتسم ميلنا هذا بالارتباك والانقسام حيال إخراجه إلى الواقع. فبين امتناع بعض الدول العربية عن التقدم نحو علاقات طيبة مع إيران، وملاقاتها في منتصف الطريق المؤدي إلى استئناف العلاقات أقبلت دول بحماسة وعدم تردد. هذا السباق «الساكت» في الإقليم، مصحوباً باختراق سياسي صيني لافت للنظر والاهتمام، انتهى إلى تأكيد فرضية نشأة توازن قوة جديد داخل النظام الإقليمي العربي، وفي الوقت نفسه إلى تأكيد حقيقة أن قمة النظام الدولي تشهد تحولاً مثيراً في تراتيب القطبية.

يلفت النظر بصفة خاصة اللاعب الإسرائيلي الذي قرر انتهاز فرصة انشغال الأطراف العظمى بالتحولات على مستوى النظام الدولي، وانشغال الساحة العربية بثمار وعواقب نشأة توازن قوة جديد في النظام الإقليمي العربي، ليتحرك بحماسة وسرعة على طريق الاقتراب من «الحل النهائي» لقضيته مع العرب وغيرهم من شعوب الشرق الأوسط.

أتصور أنه بالنظر إلى هذه الظروف، صار يتعين على الدبلوماسية المصرية أن تمتحن بدورها لياقتها في التعامل مع ظروف أغلبها لم يسبق لها مواجهته مجتَمعاً في لحظة واحدة. بالتأكيد لن ينفع أي من أساليب الإنكار أو التجاهل أو غض الطرف أو شراء الوقت، وكلها مع غيرها أساليب استخدمتها قيادات مصرية في أوقات كانت القضايا فيها تتعقد والإمكانات تضعف والرؤى تتضارب والضباب يتكثف.

للدبلوماسية المصرية تجارب وخبرات تشكل في مجملها منظومة إمكانات كان يمكن حشدها وتحديثها وما زال ممكناً. مثلاً خبرتها بالحياد وعدم الانحياز تجد فرصتها الآن في هذا الزخم غير المسبوق في اندفاعه نحو تبني الحياد أو تجديد الاعتناق به. هذه الخبرة وما أفرزته من تجارب عملية تجعل الدبلوماسية المصرية مرغوبة، إن لم تجعلها ضرورة، في هذه المرحلة الوليدة على الصعيدين؛ صعيد التحول في النظام الدولي، وصعيد التوازن الجديد للقوة في النظام العربي.

لدينا تصور للوضع في الإقليم ومحيطه يمهد للحديث عن المهام الجديدة والمستحقة للدبلوماسية المصرية في الأيام القادمة. ففي هذا التصور تظهر الصين قطباً عالمياً جديداً في الشرق الأوسط، وتظهر أمريكا وقد عادت إلى الإقليم أقل نفوذاً بعد غياب لم يطل. عادت قطباً منهك القوة بطيء المبادرة.

أما الإقليم العربي، أو ما اصطلحنا على تعريفه بالنظام الإقليمي العربي، فلعله من أكثر أقاليم العالم تأثراً بحال الفوضى الضاربة أطنابها في العالم بأسره. فمن نظام القمة الدولية نزولاً إلى اللا نظام في منطقة جنوب المحيط الهادي مروراً بنا في النظام الإقليمي العربي عاشت الإنسانية فترة أقرب شبهاً بحال الفوضى. لأعوام عديدة، كنا في إقليمنا العربي والشرق الأوسط نموذجاً للعجز عن التوحد في مواجهة تهديدات خارجية من كل نوع تقريباً. بدونا عاجزين عن مساندة الشعب الفلسطيني، وتراخت بالتدريج الإرادات العربية فتراخت بالتبعية الإرادة الكلية لنظام إقليمي صار بالفعل مهدداً بالزوال.

الأسباب كثيرة وبعضها مبرر من الناحية الموضوعية، أهمها على الإطلاق، الحال التي آلت إليها عملية صنع السياسة الخارجية في كثير من العواصم العربية تحت ضغط أمريكي مكثف، وضغط إيراني بالتدخل غير المباشر، وضغط تركي منتهزاً فرصة التفكك العربي لاستعادة موقع قدم كان الظن أنه ممكن.

إننا نقف عند مفترق طرق. يرى البعض منا بوادر صحوة من على البعد تتقدم.ولكن مهما حاولنا واجتهدنا فلن نلحق في الوقت المتبقي لنا بمن رحلوا أو بمن استسلموا. دعونا على كل حال نحاول ونجتهد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى