أقلام وأراء

جميل مطر: عن الهند والصين وما بينهما

جميل مطر 17-8-2023: عن الهند والصين وما بينهما

كنت في الصين صغيراً وفي الهند كنت أصغر. الآن وأنا في هذا العمر المتقدم جداً صرت أتفهم دوافع سياسيين أجانب ودبلوماسيين من أصحاب الرؤى والأفكار كتبوا بغزارة عن سنوات أو شهور قضوها في بلاد عتيقة.

أثناء إقامتي في الهند، سمحت ظروفي بالتعرف إلى قطاع في فئة الشباب من المهتمين بتراثهم الديني ومتأثرين بتعليمهم العلماني. بعضهم خريج جامعات محلية وآخرون عادوا من إنجلترا بشهادات أعلى مرتبة. أذهلني وقتها اكتشاف أن للحب دوراً يخترق كل التقسيمات. لتفسير ما يقصدون اصطحبني فريق منهم لزيارة معبد أثري يعود تاريخه إلى بدايات الألفية الأولى، معبد ككل المعابد مخصص لعقيدة واحدة، عقيدة هذا المعبد: الحب.

أقمت أيضاً بالصين ولم أبخل بوقت أو مال على إشباع هوايتي للرحلات والسفر. بدأت طبعاً بسور الصين العظيم باعتبار أن جزءاً مهماً منه لا يبعد كثيراً عن العاصمة بكين؛ حيث كان محل إقامتي. أذهلني، وإن بدرجة أقل، أن آثار الصين تكشف عن أن القتال بين أمراء الحرب المتمردين على سلطة إمبراطور البلاد وأعمال الدفاع عن الوطن ضد الغزاة من وسط آسيا كانت الشغل الشاغل لحكام الصين على امتداد القرون وحتى نشوب حرب الأفيون في القرن التاسع عشر ثم الحرب ضد الغزو الياباني وأخيراً ما عرف بالمسيرة الطويلة للحزب الشيوعي الصيني. هكذا بدت الصين لي أنا الغريب القادم من الشرق الأوسط عبر الهند البلد الذي أقام للحب منذ آلاف السنين معبداً، أقول بدت لي الصين عبر مئات الأغاني والرسوم الوطنية لفتاة تقدم زهرة لجندي عائد لتوه من معركة، بدت لي البلد الذي يستحق أن يقيم للحرب معبداً.

تختلفان وتتشابهان كما لم تتشابه وتختلف دولتان في التاريخ. الدولتان عاشتا فوق أغلب مساحتيهما الراهنة لآلاف السنين.

تشابهتا في دور البوذية في تراث وعقائد البلدين. واختلفتا في الحيز الذي يحتله الدين في حياة وتاريخ البلدين وفي مفاهيم العبادة والتعبد.

كلاهما، وأقصد الصين والهند، تعيشان منذ منتصف القرن الماضي على رافدين لعبا على الدوام ويلعبان حتى اليوم الدور الأكبر في عمليات وأنشطة تخطيط وتنفيذ السياسة الخارجية لكلا البلدين. الرافدان هما القومية بمعنى الوطنية والمظلومية، اصطبغت بهما وتأثرت سياسة البلدين تجاه العالم الخارجي، وتحديداً تجاه دول الغرب. تصورنا، ونحن الأغراب، أن نخبتي الحكم في البلدين سواء في الحزب الشيوعي الصيني تحت قيادة ماو تسي تونج أو حزب المؤتمر الهندي تحت قيادة نهرو وإنديرا وسلالتها التزمت جميعها الخط الناتج عن استمرار الخضوع لضغوط الرافدين: المظلومية والقومية. لم أقابل مسؤولاً هندياً أو صينياً لم يشر من بعيد أو قريب إلى ما تسبب فيه الاستعمار الغربي من خراب ودمار في كلا الدولتين على امتداد ما يزيد على القرن كما في الصين وما يزيد على قرون عديدة في حال الهند. أظن أن الرافدين يقفان وراء العداء المنتصب لفكرة الانحياز للغرب والتحالف معه ووراء الانضمام معاً وبحماسة لا تخفى لعمل مشترك تحت سقف مجموعة البريكس.

كان في الهند من راوده حلم التقاء الحضارتين مرة أخرى لصد غزوات الغرب وإجهاض هيمنته على العالم. نارندرا مودي، أعلن عن اعتقاده أنه في عالم «اللا مؤكد» يتعين على قادة الدولتين العمل معاً على تعزيز تقدمهما وإنجازاتهما.

تتشابهان في الموقف من ضرورة تغيير قواعد العمل في قيادة النظام الدولي إذا أراد الغرب توفير فرصة لسلام عالمي لا يقوم على تعاليم وقواعد الهيمنة. تدركان أنه بدون شباب آسيا، وبخاصة شباب الهند والصين، لن تفلح أمريكا في قيادة عالم المستقبل. لدى الغرب العلماء والمبتكرون وأغلبهم من كبار السن والمكانة الوظيفية، لكنهم وبخاصة أمريكا، يفتقرون إلى وفرة في عنصر الشباب باعتبارهم المحرك الحقيقي والمتجدد للثورة التكنولوجية الزاحفة على الطريق.

أتوقع، مثلما يتوقع كثيرون في الخارج، زيادة كبيرة في انتباه الغرب إلى ضرورة الاستمرار في وضع العقبات أمام أي تقارب محتمل بين الصين والهند. أتوقع أيضاً سباقاً غربياً ممنهجاً يستهدف الهند، لا يختلف إلا في تفاصيله عن السباق الغربي الراهن على إفريقيا، وهو أيضاً ممنهج كما توضح الأحداث المحيطة بالنيجر وتوقعات العنف وعدم الاستقرار والاتصالات الجارية في القارة السمراء ومع الدول الإقليمية ذات التأثير المتزايد.

 

 

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى