أقلام وأراء

جميل مطر: القلق سمة المراحل الانتقالية

جميل مطر 6-7-2023: القلق سمة المراحل الانتقالية

لأيام وليالٍ عديدة متعاقبة كنت آوي إلى الفراش بعد ساعات متواصلة من مشاهدة أعمال كرّ وفرّ، ومظاهر عنف متبادل بين رجال الشرطة وشباب الأحياء المهمشة، شباب يسكنون ضواحي باريس ومدن أخرى في فرنسا. أستيقظ مبكراً لأعود بسرعة إلى التلفزيون للمتابعة فتتلقاني مذيعة بصور حية عن كر وفر وعنف متبادل في شوارع مدينة أمريكية، كحلقة في مسلسل الغضب والكره اللذين صبغا بلون الحمرة حياة المدن الأمريكية في السنوات الأخيرة بخاصة. الضحايا هنا وهناك مواطنون أو لعلهم أشباه مواطنين، محرومون من ممارسة حق أو أكثر من حقوق المواطنة، كالحق في العمل مثلاً.

ما يحدث في فرنسا منذ شهور عديدة تجاوز حدود احتمال الطبقة السياسية الأوروبية بفرعيها الحاكم والمعارض. يخشون في ألمانيا وإيطاليا وإنجلترا أن تمتد يد الغضب العنيفة ومشاعر الكره الملتهبة إلى بلادهم، وكلها بدون استثناء لم يقم بواجب الإدماج الفعال لأعداد هائلة من المهاجرين واللاجئين، ويتضح الآن أن هذا الإدماج لم يتحقق حتى لأبناء وبنات الجيلين الثالث والرابع بين هؤلاء المواطنين قانوناً والغرباء اجتماعياً وسياسياً.

أعرف، كما يعرف مراقبون كثيرون، أن انتشار ثم تمدد هذا الغضب وهذه الأفعال إنما يعني، بين ما يعني، أن القلق عاد ليهيمن على أحوال شعوب كثيرة ويؤثر في مقدراتها ويعرضها لأخطار ومخاطر جمّة.

لا يخفى الأثر المباشر لأحداث السودان على جيرانها كافة. سمعت رئيس كينيا يتكلم عن السياسة في بلده فيعبّر بصدق وإدراك عن القلق السائد في كل إفريقيا والمتراكم نتيجة عدد من التطورات العالمية، منها مثلاً السباق الاستعماري الثاني على إفريقيا، وقد بدأ بين أطراف لها تاريخ طويل وقديم في إذلال شعوب القارة ونزف مواردها وإجهاض أي أمل في نهوض القارة.

أعود إلى فرنسا في معسكر الغرب، أو في معسكر الشمال بدقة أعظم. لم يكن سراً معلناً على موائد قمم الكبار كالسبعة وكالعشرين وشمال الأطلسي أن فرنسا الشريك في جميع خطط الغرب الاستعمارية والتوسعية، باعتبار خبرتها الطويلة في التوسع، وباعتبار رمزيتها كصاحبة امتياز لجميع علامات وشعارات الديمقراطية والحقوق والحريات والمساواة، وبالتالي كنموذج مبهر لازدواجية المعايير، عادت تتصرف بارتباك واضح، وربما كانت تتخبط أو على الأقل هذا ما أوحت به مجمل تصريحات ومواقف وخطابات رئيسها إيمانويل ماكرون وحكومته في الأسابيع الأخيرة، كلها مجتمعة أو أي منها منفرداً، تسبّب في بث قلق شديد يهيمن الآن على تطورات الأحوال في مختلف مستعمرات فرنسا السابقة في شمال إفريقيا ومنطقة الساحل وفي لبنان بخاصة.

لا شك في أن أحد أهم مصادر القلق الذي يهيمن في اللحظات الحرجة التي نعيشها هذه الأيام، إلى جانب عدوى القلق السائد في أوروبا، الأحداث المثيرة التي وقعت في دهاليز سلطة الكرملين والمؤسسات التابعة له، ومنها المؤسسة العسكرية. أزعم أن القلق، الذي أعقب تحرك قوات فاغنر على الطريق من حيث كانت تواجه قوات أوكرانيا إلى حيث راحت تواجه قوات الكرملين على بعد ألف كيلومتر، أصاب بالارتباك الشديد أجهزة صنع القرار في واشنطن. لا أظن أن واشنطن كانت قد أعدت عدتها لمثل هذه الحالة من القلق، وأظن أن بلينكن وبيرنز كلاهما كان صادقاً إلى حد كبير عندما أنكرا ضلوع أمريكا في قضية فاغنر بالذات. نعم هي لا بد ضالعة في ترتيبات عديدة. كان الهدف ولا يزال وسوف يبقى إضعاف بوتين والعودة بروسيا في أفضل الأحوال إلى أروع أيام روسيا (الأمريكية)، أقصد روسيا في أيام حكم الرئيس بوريس يلتسين المحاط دائماً بثلة من خبراء الاقتصاد الأمريكيين، وبعض أساطين النهب الذين اشتروا أو تصرفوا في القطاع العام الروسي بأبخس الأثمان.

هنا في الشرق الأوسط لا يختلف حال القلق السائد عن حاله في إفريقيا. القلق في الشرق الأوسط، بعضه مثل القلق الإفريقي مستمد من أو معتمد على القلق في أوروبا. إلا أنه أشد لأسباب ثلاثة على الأقل:

*أولاً: امتداد عدوى القلق في دول في الشرق الأوسط تحتل مواقع حرجة من الناحية الاستراتيجية مثل تركيا ومصر والخليج.

*ثانياً: وجود قضية ساخنة عصية على التسوية العاجلة والدائمة والمشرفة لكل أطرافها.

*ثالثاً: فشل تجارب التنمية والتكامل والنهوض في معظم دول الإقليم متسبباً في موجات متدفقة ومتجددة من جماهير القلق.

في عالم يتزايد فيه وينتشر بالعدوى وبغيرها الشعور بالقلق صرت أحياناً أرى القلق حافزاً وليس عائقاً. أراه يؤذن بقرب ولادة عالم جديد كفعل القلق المصاحب لأي عملية ولادة، وفي الشرق الأوسط أراه في انتشاره وتمدده يوحي بقرب انطلاق تجربة «إقليمية جديدة» تغذي ولا تضعف الإقليميات القومية التي بذرت بذورها في نهايات الحرب العالمية الأولى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى