أقلام وأراء

جميل مطر الحرب الناشبة ضد فلسطين: تحديات وسقطات وتحولات

جميل مطر 2024-01-06الحرب الناشبة ضد فلسطين: تحديات وسقطات وتحولات

من وجهة نظري المتواضعة لن يعود توازن القوة في القمة الدولية إلى ما كان عليه قبل تسعين يوماً، ولن تعود تراتيب المكانة في النظام الإقليمي العربي إلى سابق عهدها، ولن تستعيد الصهيونية بعض وربما أكثر ما فقدته من قدسية ونفوذ في كثير من دول الغرب نتيجة تهور وتعصب سياسيين في إسرائيل، ولن تعود أفريقيا السمراء إلى أوضاع سمحت باستباحة ثرواتها أو مهدت لإفريقيين أقل سمرة في شمال القارة باحتكار القيادة والتوجيه.

• • •

أبدأ بالاعتذار عن قصور في العنوان. فالعنوان ليكون دقيقاً كان يجب ألا يغفل أو يتغافل عن حقيقة أن الحرب الناشبة ضد فلسطين لا بد وأن تمس دولاً في الجوار ودولاً للضرورة التي تفرضها قواعد الاشتباك التقليدية والمتوارثة في هذه المنطقة. بالتالي هي حرب ناشبة بكل أنواع الأسلحة ضد فلسطين وضد جاراتها الأقرب وحتى الأبعد. أيضا هي حرب كغيرها من الحروب الكبرى في التاريخ، وهي في نظري واحدة من هذا النوع من الحروب، حرب كاشفة عن نهاية مرحلة. لا شك أن وجود أميركا في هذه الحرب كان أحد العناصر اللازمة لتثبيت صفة الحرب الكبرى على عديد الأعمال الهجومية والعدوانية ضد الشعب الفلسطيني خلال الأسابيع الأخيرة. هذا الوجود لم يكن عفوياً وهناك ما يثبت وجود توطؤ في حال وجدت الحرب طريقها إلى محكمة دولية ذات يوم في المستقبل. تعددت أركان هذا التواطؤ، منها على سبيل المثال:

أولا: نذكر بكثير من الاستغراب والاندهاش ولن نكون آخر المندهشين، نذكر ما نقلته وكالات الأنباء والتصريحات الرسمية عن اشتراك الرئيس جوزيف بايدن في جلسة لمجلس الحرب الإسرائيلي في الساعات الأولى من نشوب هذه الحرب. كان مبعث الاندهاش أن الرئيس كان قد اطلع على خطط تجهز للتخلص من سكان في قطاع غزة وإجلاء آخرين، وأنه كان قد أعلن قبل أيام أنه صهيوني العقيدة، بمعنى آخر التزم بأن بلاده في عهده شريك متضامن في كل حرب تقرر إسرائيل شنها في أي مكان وتحت أي حجة. وهو التزام لا يلتزم بمثله تلقائياً أو خارج المواثيق رئيس أميركي مع دولة عضو في الأحلاف التي أقامتها أميركا كالناتو وغيره.

ثانياً: لم يقتصر الأمر على موقف رئيس الدولة الأميركية. إذ إن وزير خارجيته الذي أساء إلى سمعة الدبلوماسية الأميركية حين تعمد التعريف بنفسه كيهودي الديانة في أول رحلة له بعد نشوب الحرب إلى الشرق الأوسط. أثار هذا الإعلان قلقاً مبرراً داخل وزارة الخارجية التي راحت منذ سنوات تعاني من سلوكيات تمييز عرقي وديني، مثلها مثل أجهزة أخرى في الدولة الأميركية. أعتقد أن هذه المعاناة الساكتة وجدت في شراكة أميركا في حرب لا إنسانية وربما عرقية في أحد أهدافها دافعاً للتصريح علناً بهذه المعاناة. ثم وجدت ما يشجعها في قرار وزير الخارجية غير المسبوق حسب ما سمعنا إرسال أسلحة إلى إسرائيل بدون العودة إلى الكونغرس وبعيداً عن وعي الرأي العام الأميركي. ربما فات على الوزير أن دولا في أوروبا وخارجها سوف تفسر هذا القرار بأنه أزاح أوكرانيا من موقع الأسبقية في اهتمامات الحلف الغربي لصالح حرب إسرائيل ضد فلسطين.

ثالثاً: بهذا المعنى وبهذه التصرفات صارت الولايات المتحدة في نظر التاريخ طرفاً في أحدث عملية إبادة بشرية. الأهم من وجهة نظري أن الولايات المتحدة أراها من موقعي تتخلى طوعياً وفي أحد أشد مسيرتها حرجاً عن دور هو الأسمى في تاريخ العلاقات الدولية منذ أقدم العصور، أراها وهي في مرحلة انحدار لا شك فيه وصعوبات داخلية راهنة ومتوقعة لا قبل لها بمثلها، أراها بسلوكيات مضطربة ومستوى يزداد تدنياً لمرشحي الرئاسة في الانتخابات القادمة، ومثال على هذا المستوى المرشحة الهندية الأصل ورئيس وفد أميركا في الأمم المتحدة سابقاً نيكي هالي، رأيناها، وأقصد أميركا، في تجارب فشل مذهلة في أفغانستان والعراق وفيتنام، ونراها تتخلى عن وظيفة صانعة وراعية مرحلة هي الأطول بين مختلف مراحل «السلم الدولي»، مرحلة «السلم الأميركي» Pax Americana.

رابعا: أتصور، للأسف، أن أميركا باشتراكها في حرب تشنها وتقودها فعلياً إسرائيل أساءت إساءة بالغة إلى سمعتها ومكانتها. صارت على المحك «إنسانية» أميركا وديموقراطيتها، وبخاصة بعد التعتيم على قرار تزويد إسرائيل بأسلحة في غمار حملة إبادة صريحة ومتعمدة. أيضاً صار يقيناً شك دول الجنوب في انتهاج واشنطن سياسة القيم المزدوجة. لم يمر علينا مرور الكرام قرار حكومة جنوب أفريقيا اللجوء إلى محكمة دولية شاكية أعمال الإبادة الجارية في فلسطين. هذا القرار يعني في نظرنا أن أفريقيا جديدة تحاول إثبات وجودها واستعادة حقوقها المنهوبة والتمرد على تقاليد الهيمنة. ليست أفريقيا وحدها بل نرى حركة غير عادية في أميركا الجنوبية وبخاصة في المكسيك والبرازيل. بمعنى آخر نرى عالم الجنوب ينهض، ينهض معه وللغرابة الشديدة شباب في مختلف أنحاء العالم متآلف مع شعوب الجنوب وإن عن بعد. الاستثناء الباحث عن دراسة تفسر وتحلل ولا تعذر أو تبرر، هو حال العالم العربي نظاماً إقليمياً رسمياً أو حالة أمة وشعوباً مرهقة ولكن بوعي جديد في طور النهوض وقبلها الاستفاقة.

• • •

قبل يومين كانت بداية العام الجديد. أول أيام العام الجديد يعني السؤال المتكرر في اليوم الأول من كل عام عن الاستمرار والتغيير في توجهات العام المنفرط. هل يستمر السلم الأميركي في تدحرجه بعيداً عن الأهداف الإنسانية والديموقراطية ومقترباً من أساليب فاشية ووحشية ومدافعاً عن تفوق عنصر أو عرق بعينه؟ هل تستمر الصين وروسيا وكوريا الشمالية، لسنوات قادمة وليس فقط العام الذي بدأ اليوم، منشغلة بتعظيم قوتها المادية والعسكرية منتهزة فرصة انشغال أميركا بتحقيق أهداف إسرائيل التوسعية، وكل من الثلاثة مستفيد من استمرار انحدار المكانة الأخلاقية للقطب الأوحد الأميركي ومن نهوض عالم الجنوب والتوسع المستمر في تجمع البريكس؟. هل يستمر النظام العربي في العام الجديد في سعيه ابتكار مظلة شرق أوسطية أو إسلامية أو أفروآسيوية يحتمي بها أو يكتسب بها عزوة خلال فترة الاستفاقة، أو خلال فترة استئناف مسيرات البحث عن الذات، أو خلال فترة إعادة ترتيب البيت العربي، كل فترة على حدة أو كلها مجتمعة في مرحلة واحدة؟.
    
 

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى