هاني المصري: ماذا بعد استشهاد السنوار؟
هاني المصري 22-10-2024: ماذا بعد استشهاد السنوار؟
الأمر الذي يدعو إلى الغرابة ليس استشهاد يحيى السنوار، بل الغريب جدًا والأشبه بالمعجزة عدم اغتياله أو اعتقاله حتى الآن بعد مرور أكثر من عام على استهدافه وملاحقته في بقعة صغيرة جدًا، في ظل استمرار حرب الإبادة التي أدت إلى أكثر من 150 ألف فلسطيني بين شهيد وجريح، وتدمير البنية التحتية ومعظم المنازل وتشريد سكان غزة وتعريض لحياتهم للخطر، وعلى الرغم من اللجوء إلى أفضل وحدات وأدوات الملاحقة في العالم التي استخدمت كل الأساليب المتقدمة من الطائرات والمسيّرات والأقمار الصناعية، إلى أحدث طائرات التجسس التي ترصد الحرارة وبصمة الصوت والعين على الأرض وفي باطنها.
جاء استشهاد السنوار كما أراد مقاتلًا مع زملائه المقاتلين حتى اللحظة الأخيرة، وليس كما كان يدعي الاحتلال بأنه كان مختبئًا في الأنفاق ومحاطًا بالأسرى أو الأهالي بوصفهم دروعًا بشرية، وأنه يلبس ملابس النساء لكي لا يُعرَف، وأنه يبحث عن صفقة تؤمن له ولأسرته مغادرة قطاع غزة بأمن وسلام.
ما تأثير استشهاد السنوار على الحرب على غزة؟ وما انعكاس ذلك على حركة حماس، وعلى الوحدة الوطنية، وعلى الحرب على الجبهة اللبنانية؟ وهل سيزيد استشهاده من احتمال اندلاع الحرب الإقليمية بين إيران وإسرائيل ومعها أميركا وحلفاؤها؟
هذه الأسئلة تطرح نفسها بقوة، ومن الصعب الإجابة عنها بعمق وشمول وبشكل وافٍ، لأن هناك عوامل وتطورات ومتغيرات أخرى معروفة وغير معروفة تفعل فعلها وتؤثر في الإجابة عنها.
إن مفتاح الإجابة الشافية عن هذه الأسئلة وغيرها يتحدد ويوجد في الميدان في مختلف الجبهات والساحات، خصوصًا غزة ولبنان، وليس في أروقة الأمم المتحدة ولا في واشنطن وغيرها من عواصم العالم والمنطقة، ولا في جولات واجتماعات المبعوثين الأميركيين والوسطاء العرب وغيرهم، فإذا استمرت المقاومة وتصاعدت وكبدت الاحتلال خسائر فادحة متزايدة ومتنوعة بصورة عامة، وبشرية بصورة خاصة، سترحل قوات الاحتلال تجر أذيال الخيبة، وسينتصر خط السنوار ونصر الله وخيارهما، وسيحمله خلفاؤهما من بعدهما.
أما إذا هزمت المقاومة وتحققت أهداف نتنياهو فسيترك هذا تأثيرًا حاسمًا على حزب الله وحماس، حيث يمكن أن يصبح الحزب سياسيًا ضمن التركيبة اللبنانية. وأما حماس، فيمكن أن تختفي أو تظهر “حماسات”، منها من يتخذ من داعش نموذجًا، ومنها من يعود إلى المرحلة الدعوية التي كانت عليها جماعة “الإخوان المسلمين” قبل تأسيس حماس واتباعها الجهاد؛ أي نكون أمام “حماس جديدة” مختلفة عن حماس التي نعرفها.
وحتى في هذه الحالة ستولد موجة مقاومة جديدة عاجلًا أم آجلًا، وستقوم بدحر الاحتلال من لبنان كما فعلت سابقًا، ومن الأرض الفلسطينية المحتلة وإنجاز الحرية والاستقلال على طريق تحقيق الهدف النهائي المتمثل في هزيمة المشروع الاستعماري الاستيطاني وتفكيك نظام الفصل العنصري.
أجاب رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو ووزراؤه عن السؤال الأول الذي يتعلق بتأثير غياب السنوار على الحرب برفع سقف مطالبه، متصورًا أن قدرته على تحقيق أهدافه باتت أكبر، إذ أصبح يطالب باستسلام المقاومين والإفراج عن الأسرى والمحتجزين مقابل ضمان حياتهم من دون تبادل أسرى ولا انسحاب، مع تأكيده أن العدوان مستمر حتى يحقق أهدافه، التي تصل إلى تغيير الوضع الأمني في المنطقة لأجيال.
والأهم من أقوال نتنياهو ما يجري على الأرض منذ استشهاد السنوار من استمرار للمجازر في مختلف المناطق في قطاع غزة، خصوصًا في شماله، وتكثيف العمليات العسكرية لتطبيق “خطة الجنرالات”، مع أن الجنرال المتقاعد غيورا آيلاند الذي وضع الخطة انتقد طريقة تنفيذها الفاشلة وطالب بوقفها.
استمرّ العدوان على الرغم من أن الرئيس الأميركي جو بايدن وأركان إدارته وحكام لندن وباريس وبرلين سارعوا – تأكيدًا لانحيازهم لحكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة المجرمة – إلى التهليل بمقتل السنوار، واعتبروا أن العالم أفضل من دونه، وأن “تصفيته” تزيل العقبة الرئيسية أمام التوصل إلى صفقة تبادل وهدنة تنتهي بوقف إطلاق النار، رغم معرفتهم أن نتنياهو ووزراءه حالوا دون التوصل إلى اتفاق، لأنهم يريدون تحقيق نصر مطلق يتضمن أهدافًا معلنة وغير معلنة، وهي أهم من المعلنة، تتمحور كلها حول حسم الصراع، وتصفية القضية الفلسطينية وتهجير شعبها وضم أرضها، وهي أهداف عصية على التحقيق، لأن الفلسطيني لا يزال وسيبقى متمسكًا بأرضه، ومستعدًا لمواصلة الكفاح لإنجاز حقوقه مهما طال الزمن وغلت التضحيات.
تأثير استشهاد السنوار على حركة حماس كبير، فغيابه يمثل خسارة كبيرة من الصعب تعويضها مع أن الأحزاب والحركات الوطنية، وخصوصًا العقائدية، لا تعتمد أكثر مما ينبغي على الأفراد، بل على الأسس والمبادئ والقيم والأهداف التي تجذب باستمرار أعضاء ومناصرين جددًا.
ليس صحيحًا كما هو شائع أن فقدان القادة لا يهم كثيرًا، هو مهم، ولكنه لا يقضي على التنظيم، كون السنوار ليس قائدًا عاديًا، بل يكفيه أنه العقل المدبر لطوفان الأقصى، وغيّر قواعد اللعبة في حماس والمنطقة، وأقام تحالفات جديدة، خصوصًا مع إيران وحزب الله وبقية أطراف محور المقاومة. كما أقام علاقات جيدة مع مصر من خلال إعطائها معظم ما كانت تطلبه من حماس، وأبدى استعدادًا لتقديم عرض للوحدة الوطنية لا يمكن رفضه، ولكن الرئيس محمود عباس أساء التقدير واعتبر ذلك إشارة ضعف وعلامة على قرب انهيار حماس.
وكذلك، كان السنوار صمام الأمان لحماس والممسك بأركان القيادة السياسية والعسكرية، ما يجعلها بحاجة إلى توزيع مهماته على أشخاص عدة، وعلى استخلاص الدروس والعبر. فالسنوار له ما له وعليه ماعليه، وطوفان الأقصى مغامرة كبرى وقفزة إلى السماء بحاجة إلى أن تتموضع على الأرض حتى يمكن استثمارها عبر تقليل الأضرار وتعظيم المكاسب.
يأتي استشهاد السنوار بعد حرب إبادة مستمرة من أكثر من عام، لذا فإنّ غيابه سيؤثر مثلما حدث في التاريخ عند غياب رموز كبيرة. نعم، لن ينهي أو يقضي اغتياله على حماس ولا على المقاومة التي تستمد وجودها من جذور وأسباب عميقة زرعت في الأرض الفلسطينية قبل السنوار وحماس وستبقى بعدهما، ولن يهبط غيابه على الأقل على المدى المباشر بسقف حماس السياسي ولا التفاوضي، لأن الحكومة الإسرائيلية لا ولم ولن تترك للصلح مكانًا، وتخوض حربًا وجودية ضد الفلسطينيين لا تترك أمامهم سوى خيار الصمود والمقاومة.
ليس من المبالغة القول إن إيقاع خسائر كبيرة ومتزايدة في صفوف جيش الاحتلال هو محل الرهان الأساسي على وقف الحرب، خصوصًا أن فرص التوصل إلى اتفاق تراجعت، فلا أحد غيره سيكون له مثل التأثير الذي كان له على مقاتلي القسام، حيث هو الأقدر على عقد صفقة تبادل وكان يريدها بإلحاح وليس مثلما تشيع المصادر السياسية والإعلامية الأميركية والإسرائيلية، وهو مثلما كان الزعيم الراحل ياسر عرفات هو القادر على تقديم تنازلات لا يجرؤ أحد غيره على تقديمها حتى لو كان راغبًا في ذلك. بل أكثر من ذلك، ليس من المبالغة القول إن الطريقة التي استشهد بها السنوار ستصعب التنازل عن السقف الذي تمسك به، فقد جعلته أيقونة ومحط تقدير الملايين، وستلهم تجربته ونضاله الكثير من الشباب للاحتذاء به.
أما عن تأثير غياب السنوار على الوحدة الوطنية، فهذا يتوقف على ما يأتي:
أولًا، على موقف منظمة التحرير وحركة فتح، وتحديدًا الرئيس محمود عباس. فالسنوار كان يمد يده للوحدة ومستعدًا للتخلي عن السلطة في القطاع مقابل شراكة كاملة في السلطة والمنظمة، فهل يتم إنجاز الوحدة أو التوافق على أساس القواسم المشتركة الذي يمكن أن يبدأ بالاتفاق على تشكيل وفد فلسطيني موحد للتفاوض بقيادة منظمة التحرير، والتوافق على تشكيل لجان شعبية تتولى مختلف الأمور، بما فيها استلام وتوزيع المساعدات والسلم الأهلي ومنع الفوضى والفلتان الأمني، إضافة إلى مجلس إعمار على طريق تشكيل حكومة وفاق وطني وتفعيل الإطار القيادي المؤقت بعيدًا عن الصيغ التي تعطي غطاء للاحتلال مثل تشكيل لجنة إدارية تحت الاحتلال.
ثانيًا، يتوقف على كيفية الإجابة عن سؤال هل يعدّ استشهاد السنوار أزمة كبيرة يمكن ويجب تحويلها إلى فرصة، أم الاستمرار من القيادة الرسمية في السياسة الانتظارية نفسها التي لا تفعل الكثير، وتنتظر أن يهبط كل شيء في حضنها في النهاية، أم الاستمرار في المقاومة من أجل المقاومة من دون برنامج سياسي قابل للتحقيق على المدى المباشر والمتوسط، على الرغم من اتضاح السياسة الإسرائيلية التي ترفض حماس وعباس، وتسعى إلى تقويض مظاهر الهوية الوطنية الفلسطينية، حتى التي تجسدها السلطة الفلسطينية التي تمسكت بالتعاون مع دولة الاحتلال رغم حرب الإبادة التي تشنها ضد الشعب الفلسطيني ونظامه السياسي بمختلف مكوناته وحركته الوطنية بمختلف ألوانها؟
أما عن تأثير غياب السنوار على الحرب على الجبهة اللبنانية واحتمالات اندلاع الحرب الإقليمية، فهذا لن يترك تأثيرًا كبيرًا، لأن حكومة نتنياهو لا تزال تريد تصفية القضية الفلسطينية مع وجود السنوار وما بعده، والقضاء على محور المقاومة في جميع أماكن تواجده، وعلى البرنامج النووي الإيراني، وخلق “شرق أوسط جديد” اليد العليا فيه لدولة الاحتلال.
وهذه أهداف فوق قدرة حكومة نتنياهو لتحقيقها، هذا حتى لو تمكنت إسرائيل من استعادة مكانتها وقوة الردع التي فقدتها في السابع من أكتوبر، كما يتضح عجزها من عدم قدرتها على حسم الحرب لصالحها رغم مرور أكثر من عام على اندلاعها.
سيصدم نتنياهو رأسه بصخرة الواقع، وسيدرك بأن هناك حدودًا للقوة، وأن قدرة دولة الاحتلال على تحقيق ما تريد مقيدة، إن لم تكن معدومة، في ظل ما يأتي:
أولًا: صمود الشعبين الفلسطيني واللبناني رغم حجم العدوان وحرب الإبادة، واستمرار وتصاعد المقاومتين الفلسطينية واللبنانية ومنعهما الحكومة اليمينية المتطرفة من تحقيق العديد من أهدافها، ومنع سيطرة واستقرار قوات الاحتلال في قطاع غزة، ومنع تقدم القوات الإسرائيلية برًا في جنوب لبنان على الرغم من مرور أكثر من سنة على العدوان على قطاع غزة، وأسابيع عدة على بدء الحرب البرية على حدود لبنان.
ثانيًا: من دون شراكة أميركية في الحرب ضد إيران لن تستطيع إسرائيل خوض الحرب ولا الفوز فيها، وفي ظل أن الإدارة الأميركية الحالية ترى أن السياسة الفضلى ليس الحرب، وإنما احتواء إيران ومحاصرتها ودفعها إلى تغيير سياستها، أو السعي إلى إسقاطها عبر زعزعة استقرارها، وإشغالها بالقلاقل والفتن الداخلية، والمزيد من الحصار والعقوبات ضدها.