هآرتس: نهاية نظام الأسد

هآرتس 9/12/2024، تسفي برئيل: نهاية نظام الأسد
انتشار قوات الجيش الاسرائيلي في المنطقة منزوعة السلاح في هضبة الجولان، والسيطرة على جبل الشيخ في الجانب السوري ومهاجمة اهداف عسكرية في سوريا، كل ذلك ربما هو المميز الاول لخارطة سوريا الجديدة، التي يتوقع أن تتطور في الفترة القريبة القادمة. اسرائيل ليست الوحيدة التي بدأت في اعادة ترسيخ نفسها امام سوريا وتغيير خارطة تموضعها العسكري في سوريا لصالحها.
أمس (الاحد) نشر بأن مليشيات مؤيدة لتركيا، التي تنتظم في منظمة “الجيش الوطني السوري”، (احفاد تنظيم “جيش سوريا الحر”، المليشيا العسكرية الاولى والاكبر التي تشكلت في بداية التمرد في سوريا في 2011)، قد سيطرت على مدينة منبج في غرب نهر الفرات، التي تتركز فيها قوات كردية كبيرة لتنظيم “قوات سوريا الديمقراطية”، عالقة في مركز خطة سيطرة تركيا على المحافظات الكردية في سوريا التي تشمل اقامة قطاع امني في الاراضي السورية.
مليشيات وقوات شعبية غير منظمة سيطرت على مدينة السويداء ومدينة درعا في جنوب سوريا، ومدينة القنيطرة على الحدود مع اسرائيل، وهي من شأنها أن تطالب وتؤسس فيها “حكم ذاتي”. يبدو أن سوريا في هذه المرحلة اصبحت “ارض الامكانيات غير المحدودة” لكل قوة مسلحة، في الداخل وفي الخارج، التي ستحاول السيطرة على مناطق جغرافية ومواقع عسكرية من اجل ترسيخ الحقائق على الارض قبل استقرار في دمشق نظام مركزي ومحاولة اقامة دولة موحدة تحت سلطة متفق عليها.
أبو محمد الجولاني، الذي تخلى أمس عن اسمه السري وعاد الى اسمه الحقيقي، احمد الشرع، أمر مقاتليه بعدم المس بالمباني الحكومية، والحفاظ على الممتلكات العامة والحذر من حملة انتقام ضد اجهزة نظام الاسد والمدنيين الذين تعاونوا معه، بالاساس من ابناء الطائفة العلوية. ولكن يبدو أن سيطرته على غضبه وعلى مشاعر الانتقام محدودة. المقارنات التاريخية هي موضوع مضلل وخطير، لكن لا يمكن عدم تذكر المشاهد القاسية في الايام الاولى لاحتلال العراق في 2003. الجمهور اندفع في حينه الى الوزارات الحكومية ومئات الاشخاص من حزب البعث قتلوا في حملة انتقام على يد المواطنين والعصابات. المتحف الوطني تم نهبه والجريمة اصبحت ظاهرة جماهيرية حتى قبل بدء موسم العمليات الكبيرة وقبل تجذر تنظيم القاعدة في الدولة.
ليبيا اظهرت مظاهر مخيفة خاصة بها، عندما ومع طرد وقتل الرئيس معمر القذافي في 2001، تمزقت في صراعات قوة قاتلة بين القبائل والعائلات، الامر الذي تطور الى مواجهات سياسية وعسكرية أحبطت وتحبط حتى الآن امكانية اقامة دولة موحدة قادرة على العمل. في سوريا توجد كل العوامل لوصفة مشابهة.
الطريقة الروسية
لقد كانت للجولاني خطة عسكرية ناجعة، التي حسب قوله تم الاعداد لها لاشهر كثيرة وربما حتى سنوات. وقد عرف كيفية استغلال بشكل جيد الخطأ الروسي الاستراتيجي، التي خلقت في ادلب تجمع كبير من المسلحين الذين انتقلوا اليها من محافظات ومدن سوريا كجزء من عملية “المصالحة” مع قوات متمردين محلية، التي قامت باملائها موسكو. هذه الطريقة كانت فرض حصار متشدد على المدينة أو المحافظة التي عمل فيها المتمردون المسلحون، واقتراح عليهم نزع سلاحهم أو الاجلاء الى ادلب. النتيجة كانت أن عشرات آلاف المسلحين من عدة محافظات ومن خلفيات مختلفة وجدوا انفسهم في محافظة واحدة يعيش فيها 4 ملايين شخص تقريبا.
هذه المحافظة وفرت للجولاني المداخيل المطلوبة لتمويل نشاطات مليشياته، وتطوير وسائل قتالية دقيقة وادارة مدنية للمحافظة تحت حكم “حكومة الانقاذ” التي شكلها مع خمس مليشيات كبيرة اخرى. الجولاني، الذي تمتع بالدعم من تركيا وعدد من مليشياته حصلت على التمويل من قطر، قرأ جيدا الخارطة السياسية التي تطورت في ظل الحرب في قطاع غزة، ووجد التوقيت المناسب لشن الحرب، في اليوم الذي دخل فيه الى حيز التنفيذ وقف اطلاق النار بين اسرائيل ولبنان وحزب الله. ولكن من اجل الوصول الى مكانته كقائد اعلى للمليشيات في ادلب فقد ادار حرب ضروس وحشية ضد الخصوم في الداخل، وفي السنة الاخيرة اضطر الى مواجهة عصيان مدني داخلي في ادلب. التمرد شمل مظاهرات احتجاج للجمهور ضد فساد “حكومة الانقاذ”، والضرائب الكبيرة التي فرضت على المواطنين وعلى المصالح التجارية وضد المس المنهجي بالممتلكات الخاصة وابناء الاقليات.
لكن ادارة المحافظة لا تشبه ادارة دولة معقدة ومنقسمة، التي تحمل شحنة ضخمة من حسابات الماضي، ليس فقط بين المواطنين والنظام، الذي قام بذبح اكثر من نصف مليون من المدنيين وجعل اكثر من 11 مليون لاجئين أو مهجرين، بل ايضا بين اجزاء السكان: العلويين ضد السنيين، الاكراد ضد العلويين، ابناء النخب ضد الفلاحين أو الحضريين الذين تم انتزاع كل ممتلكاتهم منهم. عداء شديد تطور ايضا بين هيئات المعارضة المدنية، مثلا بين “حكومة الانقاذ” التابعة للجولاني و”الحكومة المؤقتة” التابعة لائتلاف قوات المعارضة، وبينها وبين الحكم الكردي الذاتي الذي تشكل في المحافظات الكردية في شمال سوريا.
من الذي سيدير الدولة؟
نظريا، من يحمل السلاح، أي الجولاني، هو الذي يمكنه املاء تركيبة الحكومة الجديدة وتقرير شكل الدولة السورية الجديدة. ولكن السلاح يوجد في يد الجميع ولا حاجة الى جيوش منظمة، مثل جيش “هيئة تحرير الشام”، من اجل وقف عملية البناء السياسية. في سوريا، العراق، اليمن والسودان، وبعض الدول الاخرى، تم تسجيل فصول مظلمة ودموية في تاريخ الصراع على بناء دولة. وفي سوريا مطلوب الآن بناء دولة من البداية. إن الاطلاع على المقابلات ومحادثات الجولاني خلال السنين يظهر أنه مقابل التصميم والثقة بالقدرة على اسقاط النظام، لم يقم بطرح خطة سياسية دستورية واقتصادية، التي بحسبها يطمح الى تأسيس الدولة بعد الاسد. من غير الواضح مثلا ماذا سيكون مصير الجيش السوري والشرطة وجهاز القضاء؛ هل سيتم حل البرلمان؛ هل ومتى ستكون انتخابات ومن أين ستأتي ميزانية الدولة. قبل بضعة ايام الجولاني قال بأنه مستعد لحل المليشيا الخاصة به بعد اسقاط النظام. هذا تصريح جيد خرج من فم الشخص الذي عمل على التخلص من صورة المتعصب المسلم، الذي يثير الشك، الخوف وحتى الرعب، في اوساط الجمهور السوري الواسع الذي تربى في احضان حزب البعث العلماني. ولكن مثلما يعرف السياسيون في العراق وفي لبنان وفي ليبيا فان المليشيات العسكرية الخاصة هي وسيلة حيوية لمن يريد التأثير، ناهيك عن الحكم.
السؤال الحاسم الذي يمكن أن يؤثر الآن على طبيعة سوريا والتوجه السياسي يتعلق بمصادر التمويل. سوريا دولة مفلسة، الليرة السورية انخفضت أمس بنسبة 46 في المئة في دمشق، و65 في المئة في حلب، ميزانية الدولة هي ورقة لا قيمة لها، الاستثمارات الاجنبية غير موجودة، باستثناء المشاريع التي تسلمتها شركات ايرانية وهي تعتبر جزء من دفع دين سوريا لايران، الذي يقدر بـ 30 مليار دولار. الاعتماد الذي منحته للاسد لم يعد موجود، والعقوبات الامريكية والدولية التي فرضت على اسرائيل تمنع استثمارات شركات دولية، ومنظومة البنوك محطمة، حقول النفط التي يسيطر على معظمها الاكراد، ويبدو أنها ستعود الى سيطرة الدولة، بحاجة الى اعادة ترميم عميقة مثل كل البنى التحتية في الدولة.
لكن بالذات العقبة الاقتصادية هي التي ستقرر الى أين ستتجه سوريا. على صورة “ارض الامكانيات غير المحدودة” المتحررة من قبضة ايران وروسيا، فان دمشق تخلي الساحة لدول المنطقة والدول الغربية، التي حتى الآن كانت تشاهد من بعيد، أو تابعت من قريب التطورات. هذه الدول لم تكن في الساحة عندما ذبح الاسد ابناء شعبه ولم تعمل ضد النظام المخيف باستثناء التنديد وفرض العقوبات التي لم تساعد حقا في تغيير اسلوب الاسد.
اضافة الى ذلك في السنة الاخيرة اعادت الدول العربية الاسد الى احضانها، وعدد من الدول الاوروبية حتى فحصت تطبيع علاقاتها مع نظامه وعرض الدولة كـ “مكان آمن” من اجل التمكن من اعادة ملايين اللاجئين السوريين الذين يوجدون فيها الى بيوتهم. هذه الدول، مثل كل العالم، كانت غير مستعدة للانقلاب المضاد الذي نفذه المتمردون. وازاء محاولة بذل الجهود “لبناء الامة” في افغانستان، العراق وليبيا، يمكن تفهم “موقف المشاهد” الذي تتبعه الآن. ولكن من هذا الموقف هي لا يمكنها التأثير وتوجيه تبلور نظام جديد في سوريا.
السعودية، مثلا، فهمت بشكل متأخر جدا أنها فقدت العراق لايران قبل البدء في نسج العلاقات السياسية والاقتصادية مجددا مع بغداد. الولايات المتحدة يمكنها مساعدة لبنان في النجاة من الازمة الاقتصادية الشديدة فيه لو أنها سمحت لمصر والاردن ببيعه الكهرباء، التي تم حرمانه منها فقط لأن خطوط الكهرباء تمر في سوريا. الرافعة الاقتصادية التي يمكن أن توجد في سوريا لدول الخليج الغنية والدول الغربية ليست فقط فرصة اقتصادية أو سياسية، بل هي تتعلق مباشرة بالامن الاقليمي الذي يحتاج سلطة ناجعة ومستقرة. وازاء الخطر الذي يوجد في سوريا فانه سيتطور نظام مليشيات يغرق في حرب العصابات.