هآرتس: معركة محلية محدودة أم طريقة لترسيم خريطة سيطرة جديدة في سوريا

هآرتس 1/12/2024، تسفي برئيل: معركة محلية محدودة أم طريقة لترسيم خريطة سيطرة جديدة في سوريا
الهجوم المفاجيء الذي قام به تنظيم “هيئة تحرير الشام” على مدينة حلب في شمال غرب سوريا، واحتلال معظم المناطق فيها، يمكن أن يغير ليس فقط قوة سيطرة الرئيس بشار الاسد على الدولة، بل ايضا حدوث عمليات يمكن أن ترسم خريطة سياسية جديدة على الحدود الشمالية الشرقية لاسرائيل.
سؤال هل ستعزز روسيا وايران قواتها في سوريا لمساعدة قوات النظام في احتلال حلب، وهي لمدينة الثانية من حيث حجمها والتي كانت تحت سيطرة النظام منذ العام 2016 وصد قوات المتمردين، واسئلة مهمة اخرى مثل هل ستتدخل تركيا وكيف، وهل الاكراد في شمال سوريا والدروز في محافظات الجنوب سينضمون لهذا الهجوم، ويقومون بتأسيس “وحدة ساحات” للمتمردين واستئناف العصيان المدني في ارجاء الدولة المختلفة.
ايران وروسيا – التي هاجمت من الجو عدة اهداف للمتمردين – اكتفت في هذه الاثناء بالتعبير عن قلقها، وطلبت تهدئة. ولكن الضرر الاستراتيجي الذي اصابها، ليس فقط الاسد، يحتاج الى رد عملياتي على الارض. توقيت الهجوم كان مفاجئا، لكن الاستعداد له ظهر على الارض قبل اسابيع، وحتى قبل أشهر. تقارير في سوريا تحدثت عن تركيز قوات “الهيئة” على حدود محافظة ادلب، وعن اقامة وحدة جديدة تقوم بتشغيل الحوامات والمسيرات، اضافة الى تطوير وسائل انتاج محلية منها سيارات مصفحة وسلاح دقيق. ايضا نشر عن تعزيز منظومات وتغيير في هيكلية القيادات الحالية المقاتلة، بالاساس عن الخوف المتزايد في اوساط قادة “الهيئة” من جس نبض تركيا للدفع قدما بالتطبيع بين تركيا وسوريا، وهي العملية المقلقة جدا، سواء للمعارضة في ادلب وعلى رأسها “الهيئة” أو الاكراد في شمال سوريا.
التطورات الاقليمية والدولية منحت ايضا الدعم الذي حدد توقيت الهجوم. يبدو أنه ليس بالصدقة أن الهجوم بدأ في وقت قريب من موعد دخول اتفاق وقف اطلاق النار بين اسرائيل ولبنان الى حيز التنفيذ، الذي أدى بقيادة “هيئة التحرير” الى الاستنتاج بأنه توجد فرصة تقيد قدرات حزب الله على التحرك بشكل حر بين لبنان وسوريا، وتوفير للنظام السوري المساعدة والدعم من اجل القضاء على الهجوم.
يضاف الى كل ذلك الاعتراف بضعف ايران الحالي في سوريا. ففي اعقاب هجمات اسرائيل المتواترة اضطر حرس الثورة الى تقليص عدد قواعده في وسط وغرب سوريا، وحجم القوة البشرية القيادية وعدد الجنود السوريين والافغان الذين تم تجنيدهم في صفوف المليشيات المؤيدة لايران. هذه المليشيات قامت بتكثيف قواعدها في شرق سوريا في منطقة دير الزور، وعلى طول الحدود مع العراق، لكن في هذه المناطق اضطروا الى مواجهة يومية مع القبائل السنية التي تعارض التواجد الايراني. ايضا روسيا، التي في 2015 تجندت بكل القوة لمساعدة الاسد على قمع التمرد ونجحت في قلب من اجله الامور رأسا على عقب ومنحه السيطرة على 70 في المئة من الدولة، الامر الذي غير الوضع. في اعقاب الحرب في اوكرانيا قلصت روسيا بشكل كبير حضورها في سوريا، وحتى أنها قامت بسحب مقاتلين ومتطوعين (سوريين) الى جبهة اوكرانيا، وهكذا قلصت حجم القوات التي كانت في متناول يد الاسد.
النجاح العسكري لـ “هيئة التحرير”، وهي مليشيا المتمردين الاكبر في سوريا، حتى الآن لا يجعلها حليفة لقوات متمردة اخرى. “هيئة التحرير” هي حفيدة “جبهة النصرة”، وهي المليشيا الاسلامية المتطرفة التي كانت فرع من القاعدة في سوريا. في 2016 انفصل أبو محمد الجولاني (احمد الشرع) عن القاعدة وقام بتسمية التنظيم الجديد الذي غير اسمه عدة مرات الى أن استقر على “هيئة تحرير الشام”، ولكن من ناحية ايديولوجية بقي مخلصا لمباديء الاسلام المتطرف.
كما يدل اسم التنظيم، فهو تحالف يتشكل من خمس مليشيات كبيرة وست مليشيات التي العلاقات فيما بينها اقل من مثالية. الجولاني رسخ حكمه بواسطة التصفية المنهجية للخصوم، ايضا الذين ساروا طريق طويلة معه وكانوا من مؤسسي التنظيم. هذا التحالف الجديد يدير معظم محافظة ادلب التي يعيش فيها 4 ملايين نسمة، بينهم مليون لاجيء، بواسطة “حكومة الانقاذ” التي اسسها الجولاني، ويشارك فيها ممثلون عن عدد من المليشيات.
مداخيل التنظيم التي تقدر بعشرات ملايين الدولارات كل شهر، يحصل عليها من الرسوم، الغرامات، الضرائب التي يجبيها من السكان ومن “رسوم العبور” على الشاحنات التي تنقل البضائع من تركيا. المداخيل تصل ايضا من جباية الضرائب في المعبر الذي يوجد في باب الهوا على الحدود بين تركيا وسوريا، الذي تأتي منه قوافل المساعدات للامم المتحدة الى شمال سوريا، والمعبر البري الداخلي الموجود بين محافظة عفرين التي احتلتها تركيا وبين محافظة حلب.
نظام القمع والضغط الذي تفرضه “الهيئة” على سكان المحافظة ولد المواجهات العنيفة التي طالب فيها السكان طرد الجولاني وقيادة المحافظة. وحسب بعض المحللين المحليين فان قرار شن الهجوم الاخير هدف الى حرف الانتباه عن هذه الخصومات الداخلية وتوحيد الجمهور حول “هدف وطني”.
“دولة الرعاية” للهيئة هي تركيا، التي تعتبرها حليفة، سواء بسبب قوتها العسكرية (تستند ضمن امور اخرى الى التعاون مع تركيا) التي يمكنها صد سيطرة الاسد على كل الاراضي في سوريا، والعمل ككابح حيوي لوقف حركة اللاجئين الكبيرة الى تركيا. في سنوات الحرب الاهلية استوعبت تركيا 3.5 مليون لاجيء سوري.
سيطرة “الهيئة” على محافظة ادلب، التي تحيط من الجنوب بعض محافظات الاكراد، بعضها تم احتلالها من قبل تركيا، وفي اجزاء اخرى تطمح انقرة الى تاسيس قطاع امني بعمق 25 – 30 كم، تحولها الى شريك استراتيجي حيوي، الذي عمل عسكريا ايضا ضد تجمعات للاكراد لصالح تركيا. الاكراد في المقابل هم حلفاء الولايات المتحدة في الحرب ضد تنظيم “داعش”، الذي يوفر الذريعة لمواصلة التواجد الامريكي في سوريا، 900 جندي ومدرب عسكري.
هكذا فان الاكراد يحصلون على الرعاية الامريكية، التي تشمل التزويد بالسلاح والوسائل القتالية والمعلومات، الامر الذي لا يرضي تركيا التي تعتبر القوة العسكرية الكردية تنظيم ارهابي لا يختلف حسب رأسها عن “حزب العمال الكردستاني” الذي تدير ضده تركيا حرب ضروس.
في الوقت الذي فيه خلفية العلاقات هكذا فانه يصعب كما يبدو توقع أن يتعامل الاكراد مع “هيئة التحرير” التي تعتبر في الولايات المتحدة منظمة ارهابية، وتم تخصيص في 2017 لمن يجلب رأس زعيمها جائزة بمبلغ 10 ملايين دولار.
بسبب أن الائتلافات والتحالفات هي موضوع غير ثابت، وعندما تظهر مصالح مشتركة حتى الاعداء الايديولوجيين يعرفون كيفية اظهار المرونة المدهشة، الهيئة أو الاكراد تهددهم الآن نية اردوغان التصالح مع الاسد، وهي العملية التي حتى الآن لم تنجح بسبب شروط الرئيس السوري، لكنها لم تبتعد عن جدول اعمال تركيا. اهداف تركيا معروفة. فهي تطمح الى جعل الاسد شريك ناجع في الحرب ضد الاكراد واعادة الى سوريا ملايين اللاجئين الموجودين على اراضيها.
معنى هذه المصالحة بالنسبة للاكراد هو فقدان الاستقلال النسبي لهم وعدم سيطرتهم على آبار النفط التي تشكل معظم مداخيلهم. بالنسبة لهيئة تحرير الشام فان التداعيات مشابهة. فهي ستفقد السيطرة على محافظة ادلب وستفقد مصادر الدخل، ورجالها سيضطرون الى نزع سلاحهم، والمقاتلون الاجانب فيها من الدول الاسلامية الاخرى، لا سيما من القوقاز، سيتم طردهم، ومستقبلها في ظل نظام الاسد لا يحتاج الى التخمين. ازاء تهديد المصالحة بين تركيا وسوريا اعلن قائد القوات الكردية، مظلوم عابدي، في ايلول الماضي بأنه مستعد لفحص التعاون حتى مع “الهيئة”. ولكن من غير الواضح اذا كانت هذه الرغبة هي متبادلة، ويصعب ايضا التقدير كيف سيتصرف هذين الخصمين ازاء التطورات الاخيرة.
على أي حال، هجوم عسكري جريء وواسع على حلب استهدف، ضمن امور اخرى، التوضيح لتركيا، ليس فقط لسوريا، ما معنى المصالحة بين الدولتين اذا كانت ستكون على حساب “الهيئة”.
ايضا الدروز لهم حساب طويل مع “هيئة التحرير” التي قامت بالتنكيل بسكان ادلب الدروز وسرقت بيوتهم واراضيهم. ايضا الفجوة الايديولوجية والدينية والسياسية ستستمر في أن تكون عقبة امام “وحدة الساحات” الداخلية. ضمن امور اخرى، الدروز، في معظمهم، مستعدون للتعاون مع نظام الاسد طالما أنهم يوعدون بحكم ذاتي، اداري وثقافي، ولا يتعين عليهم التجند للخدمة العسكرية. مع “الهيئة” فان هذه الاحتمالية مستحيلة.
الايام القريبة القادمة هي التي ستحسم كيف ستبدو الساحة السورية، لكن مرة اخرى سنرى أنه مثلما في كل سنوات الحرب الاهلية ايضا الآن تغيب عنها الولايات المتحدة ودول اوروبا، وهي ستواصل كونها ملعب لروسيا وايران، الذي فيه اسرائيل هي لاعب ثانوي.