هآرتس: ايران تبني طوقا دبلوماسيا ولا تسارع للدخول الى حرب شاملة
هآرتس 27/10/2024، تسفي برئيل: ايران تبني طوقا دبلوماسيا ولا تسارع للدخول الى حرب شاملة
“الهجوم الدقيق ضد اهداف عسكرية في ايران” الذي نفذته اسرائيل، حسب الصياغة المحسوبة للمتحدث بلسان الجيش الاسرائيلي، دانييل هجاري، ليس هو الهجوم المباشر الاول بين الدولتين. في الحقيقة حجم الهجوم كان متسع ومدمر اكثر، لكن ما زال يمكن اعتباره “تقليص للقدرات”. هذا ليس الضربة التي يمكنها تغيير خارطة التهديدات الاستراتيجية التي تضعها ايران امام المنطقة وامام اسرائيل، وهذه بالتأكيد ليست “الحرب الشاملة” التي رافقنا ظلها وسيرافق أي مواجهة كهذه. يبدو أنه، حسب الردود العلنية في ايران، بذلك انتهت جولة “الثأر” التي انتظرت اكثر من ثلاثة اسابيع من اجل انضاجها.
المتحدثة بلسان الحكومة في طهران، فاطمة مهاجرني، لخصت باختصار موقف النظام بالقول إن “الشعب في ايران يتفاخر بقوات الدفاع في الدولة، والجميع يثق بها”. وسائل الاعلام الرسمية في ايران هي ايضا عملت على تقليص حجم الاضرار، والمتحدثون بلسان النظام سارعوا الى الاعلان عن “العودة الى روتين الحياة”.
الزعيم الروحي الاعلى علي خامنئي حتى الآن لم يرد، وايضا هكذا قادة الجيش الايراني وحرس الثورة. هذا ازاء التصريحات العنيفة التي اسمعتها جهات رفيعة في ايران في المرات السابقة، مثلما حدث بعد تصفية قائد قوة القدس في سوريا ولبنان، الجنرال رضا زاهدي أو تصفية اسماعيل هنية. ايضا خامنئي تحدث بهذا الشكل. هذه المرة السلطات ابقت تصريحات التهديد في يد المحللين الايرانيين، الذين هم ايضا تبنوا لغة متشككة ومنضبطة.
رد اسرائيل اثبت القدرة على مهاجمة عشرات الاهداف في عمق ايران، على مساحة جغرافية كبيرة وفي انتشار واسع. وقد نقل الرد رسالة، التي هي اهم من حجم الاضرار الفورية التي لحقت بالاهداف المهاجمة، بأنه توجد لاسرائيل قدرة تكتيك وقدرة عسكرية وعملياتية واستخبارية لمهاجمة اهداف استراتيجية في ايران، وعند الحاجة ايضا مهاجمة المنشآت النووية.
لكن في نفس الوقت من الحيوي القول بأنه ليست القدرة العسكرية وحدها هي التي حددت ابعاد الهجوم واهدافه، بل ايضا التخطيط والرؤية السياسية والاستراتيجية، التي تمت ملاءمتها، الاكثر دقة املاءها بالاساس من قبل الولايات المتحدة، وتم توجيهها بالاعتبارات السياسية مثل الانتخابات في الولايات المتحدة، والاعتبارات الاقليمية مثل التداعيات المحتملة للهجوم على دول المنطقة، لا سيما دول الخليج. نتنياهو تعود في الحقيقة على نثر الوعود المتغطرسة، التي بحسبها اسرائيل ستعمل وحدها ضد ايران عند الحاجة. ولكن في الحقيقة اسرائيل تحتاج جدا الى غطاء الدفاع والدعم الامريكي، الذي ليس فقط سيمكن من تنفيذ الهجوم، بل بالاساس حماية الجبهة الداخلية. هذا الغطاء يوجد له ثمن سياسي، يلزم اسرائيل بأن تأخذ في الحسبان ليس فقط مصالح واشنطن، بل ايضا مصالح دول المنطقة.
هذه المصالح الاقليمية معروفة جيدا لايران، التي استغلتها من اجل تقييد حجم الضربة الموجهة اليها. وقد استخدم الرئيس الايراني، مسعود بزشكيان، ووزير الخارجية الايراني، عباس عراقجي، في الفترة الاخيرة آلية دبلوماسية كثيفة، شملت محادثات متواترة مع زعماء دول اوروبية ومع الرئيس الروسي فلادمير بوتين. عراقجي أجرى ايضا عدة زيارات في دول الخليج، خلالها نقل رسائل لواشنطن، التي اجرت هي نفسها حوار غير مباشر مع القيادة في ايران بهدف تنسيق خطة رد اسرائيل بشكل لا يجر كل المنطقة الى الحرب.
اذا كان هناك أي تجديد استراتيجي على الطريقة التي تعمل فيها ايران في الشرق الاوسط فهو يكمن في التطورات السياسية الهامة في السنوات الاخيرة، التي تشمل استئناف العلاقات الدبلوماسية بين ايران ودولة اتحاد الامارات في العام 2022، والسعودية في آذار 2023، ومؤخرا تدفئة العلاقات بين طهران والقاهرة. الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ونظيره الايراني قاما بعقد لقاء ودي في مؤتمر دول البريكس، الذي عقد في يوم الاربعاء الماضي في مدينة كازان في روسيا. وقد اعلنا عن نية الاستمرار في توطيد العلاقات بين الدولتين.
الشكوك وعدم الثقة بين الدول العربية وايران لم تتلاشى، ولكن هذه الخطوات تفسح المجال للمصالح المشتركة، التي تعتبر نوع من “طوق الدفاع” السياسي حول ايران، بدلا من “حلقة النار” التي اوجدتها ايران بواسطة وكلائها في العراق وفي لبنان وفي اليمن، التي لا تستطيع أن تساعدها أو أنها غير كافية.
بعد أن تكبدت المليشيات برعايتها، لا سيما حزب الله في لبنان وحماس في غزة ضربات شديدة، والتي بسببها جُرت الى مواجهة مباشرة مع اسرائيل، فانها لا تنجح في أن تستمر كونها “مانعة صواعق” تحيد خطر المس بايران نفسها، ويوجد لحزام الدفاع السياسي الآن اهمية كبيرة بالنسبة لايران بشكل خاص.
خطواتها السياسية أدت الى أن دول الخليج ومصر والاردن لم تنضم حتى الآن الى التحالف العسكري برئاسة الولايات المتحدة في البحر الاحمر لمحاربة الحوثيين. في الفترة الاخيرة اوضحت هذه الدول بشكل علني أنها لن تسمح باستخدام مجالها الجوي أو البري كقواعد انطلاق للهجوم ضد ايران. هذا نجاح سياسي هام حققته ايران، نجاح يضع علامة استفهام واضحة أمام الرؤية الاستراتيجية البسيطة التي تقول بأن الشرق الاوسط منقسم بين دول “سنية” تؤيد امريكا و”المحور الشيعي المناهض لامريكا”.
هذه النظرية، التي تطمح الولايات المتحدة واسرائيل الى تأسيس عليها حلف الدفاع الاقليمي، وجدت نفسها في جمود عميق في اعقاب الحرب في قطاع غزة ورفض اسرائيل لرسم أفق سياسي للقضية الفلسطينية. ولكن “حلف الدفاع” ضد ايران كان يجب أن يتصادم ليس فقط مع سياسة الرفض لاسرائيل، بل دول الخليج نفسها تجد صعوبة في الحصول على التشجيع من دعم امريكا لاسرائيل، والاستنتاج منه الحماية التي ستحصل عليها من واشنطن اذا قامت ايران ووكلاءها بمهاجمتها.
السعودية تذكر جيدا الرد المخيب للأمل والمهين للرئيس ترامب، الذي جاء بعد مهاجمة منشآت النفط لشركة “عرامكو” في السعودية في 2019. فقد عرض مساعدته على المملكة ولكن مقابل الدفع. في حين أن دولة الامارات ما زالت تنتظر المصادقة على صفقة لشراء طائرات اف 35، التي وعدت بها كجزء من الثمن مقابل التوقيع على اتفاق السلام مع اسرائيل.
دول الخليج لا يمكنها أن تكون واثقة تماما بالحصول على دعم امريكا، الذي ستحصل عليه اذا تسببت مواجهة بين اسرائيل وايران بالمس بالملاحة في مضائق هرمز أو فعلت ايران مبعوثيها في العراق واليمن ضد البنية التحتية للطاقة فيها. في قرار سياسي، يبدو أنه منسق، تبنت دول الخليج استراتيجية لينة، التي ستبقى سارية المفعول حتى لو تشكل تحالف دفاع اقليمي، التي تقول بأن هذه الدول ستواصل اقامة علاقات وثيقة ليس فقط مع ايران، بل ايضا مع روسيا والصين.
هذه الاستراتيجية تشبه الاستراتيجية التي تتبناها ايران. لأن ظهر ايران ايضا غير محمي من قبل القوى التي تعتبر حليفتها. روسيا ما زالت حتى الآن لم توقع على اتفاقية التعاون الاستراتيجي مع ايران. هذا الاتفاق يمكن أن يمنحها الدعم العسكري والسياسي ويزودها بأفضل الذخيرة والسلاح الروسي (في هذه الاثناء هي التي تبيع لروسيا الصواريخ والمسيرات). بوتين ايضا لم يقم حتى الآن بالوفاء بالتزامه من العام 2022، الاستثمار بمبلغ 40 مليار دولار في ايران، مثلما لم تطبق الصين حتى بداية اتفاق التعاون الاقتصادي الذي يمكنه أن يغرق ايران بمئات مليارات الدولارات في العشرين سنة القادمة.
مصفوفة العلاقات والروافع السياسية التي نسجتها ايران في السنوات الاخيرة، اضافة الى الازمة الاقتصادية الشديدة الغارقة فيها، فانها وجهت خلال معظم فترة الحرب الى سياسة احتواء وضبط للنفس حتى اللحظة التي فيها الضربة التي تسببت بها اسرائيل لمكانتها، تطورت الى ضرر استراتيجي اعتبر تهديد لمكانة النظام في ايران. يبدو في هذه الاثناء أن ايران مستعدة للعودة الى هذه السياسة من اجل الحفاظ على ثرواتها في المنطقة وتعزيز سيطرتها عليها عبر القنوات الدبلوماسية وعدم المخاطرة بحرب تضر بهيبتها.
مركز الناطور للدراسات والأبحاث Facebook