فورين أفيرز: الحرب التكنولوجية بين ضفتي الأطلسي، كيف تورطت شركات وادي السيليكون في الجغرافيا السياسية وخسرت؟

فورين أفيرز 4-2025، هنري فاريل وأبراهام نيومان: الحرب التكنولوجية بين ضفتي الأطلسي، كيف تورطت شركات وادي السيليكون في الجغرافيا السياسية وخسرت؟
ثمة حقيقة مزعجة يجب على شركات التكنولوجيا مثل “ميتا” و”ألفابت” و”أوبن أي آي”، أن تتنبه وتواجهها “إن تقربها من الرئيس الأميركي دونالد ترمب سيجعلها تخسر حرية الوصول إلى إحدى أضخم أسواقها المتمثلة في القارة الأوروبية”.
قبل عقد واحد فحسب، كانت هذه الشركات تؤمن بأن تكنولوجيا المعلومات ستحد من سلطة الحكومات وتحرر العالم. لكن، ومع تراجع العولمة وتصاعد المواجهة بين الولايات المتحدة والصين، حاولت هذه الشركات استغلال الانقسامات الجيوسياسية المتزايدة، واصطفت إلى جانب واشنطن في الحرب الباردة التكنولوجية الجديدة. والآن، يبدو أن إدارة ترمب الجديدة أقل حماسة لمواجهة الصين مما هي عليه من ميلها إلى إخضاع حلفاء الولايات المتحدة في الاتحاد الأوروبي وأماكن أخرى. وتجني شركات التكنولوجيا الأميركية مليارات الدولارات من الأسواق الأوروبية. وعلى رغم أن عدداً من هذه الشركات تتمنى لو تتمكن من تقليص نفوذ الجهاز التنظيمي الأوروبي، فإنها لا تريد أن تجد نفسها في مرمى نيران حرب تكنولوجية شاملة بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.
ولسوء حظ شركات التكنولوجيا الكبرى، فإن مثل تلك الحرب باتت وشيكة الاندلاع. ومع الازدراء الواضح الذي تبديه إدارة ترمب لأوروبا، بات الخطر يتهدد المصالح التجارية للشركات الأوروبية. وقد يصل الأمر إلى نهاية شبكة الإنترنت المفتوحة كما نعرفها، بفعل سعي الأوروبيين إلى إرساء منصات رقمية بديلة لما صنعته كبريات الشركات التكنولوجية الأميركية.
محاولات وادي السيليكون لاسترضاء إدارة ترمب تهدد بنسف نموذج الأعمال الذي تعتمد عليه شركات التكنولوجيا الكبرى، في معظم أنحاء العالم. فمع تبني التنفيذيين في قطاع التكنولوجيا للإدارة الأميركية الجديدة، باتوا ينغمسون أكثر فأكثر ضمن النزاع المتصاعد بين الجهات التنظيمية الأوروبية في بروكسل والإدارة الأميركية التي تتصرف بطريقة أحادية لافتة. ونتيجة لذلك، بدأ الأوروبيون يعيدون النظر في اعتمادهم على مزودي الخدمات السحابية والمنصات والأقمار الاصطناعية الأميركيين. وهم يرون هذا الاعتماد بصورة متزايدة لا بوصفه مسألة تنافسية فحسب، بل كضعف استراتيجي بالغ يمكن استغلاله ضدهم. والأمر الأكثر إثارة للقلق بالنسبة إلى شركات التكنولوجيا الأميركية هو أن القضاة والمنظمين والنشطاء الأوروبيين قد يبادرون إلى التحرك في حال تردد السياسيين الأوروبيين، ويدفعون نحو قطع تدفق البيانات بين الولايات المتحدة وأوروبا.
وليست هذه المرة الأولى التي يحدث فيها شرخ بين أوروبا والولايات المتحدة في التكنولوجيا. قبل 10 أعوام، كشف المتعاقد مع “وكالة الأمن القومي” الأميركي إدوارد سنودن أن الولايات المتحدة كانت تتجسس على قادة أوروبيين، وهي تسريبات دفعت الاتحاد الأوروبي إلى التهديد بتقييد تدفق البيانات الشخصية إلى الولايات المتحدة. وشرح رئيس شركة “مايكروسوفت” براد سميث في كتاب صدر عام 2019، أن الضجة التي أثارتها إفصاحات سنودن خلقت “هوة دائمة بين الحكومات وقطاع التكنولوجيا”. وعندما حكمت محكمة العدل الأوروبية عام 2015 ضد الترتيب الذي كان يسمح بنقل بيانات مواطني الاتحاد الأوروبي إلى الولايات المتحدة، أعرب إيريك شميت الذي كان حينها الرئيس التنفيذي لشركة “ألفابت” عن أسفه، قائلاً إن الاتحاد الأوروبي قد يحطم الإنترنت العالمي، الذي وصفه بأنه “واحد من أعظم إنجازات البشرية”.
ومن المرجح أن يستمر وجود الإنترنت العالمي على صورة بنية تحتية تقنية مشتركة، لكن إذا واصلت الشركات الأميركية تموضعها مع إدارة أميركية معادية لأوروبا، فمن المحتمل أن تسعى أوروبا إلى بناء شركاتها ومنصاتها الخاصة وتشييد تحصينات تكنولوجية في وجه الحليف والحامي السابق. ومن جانبهم، سيحاول الصينيون توسيع وجودهم في أوروبا أيضاً، وإن كان من المرجح أن يواجهوا قدراً أكبر من الشكوك العامة. وفي الحالتين، ستكون النتيجة النهائية أرباحاً أقل، وابتكاراً أميركياً أضعف، وولايات متحدة أكثر عزلة وأقل إحساساً بالأمن.
هلام على الحائط
حتى وقت غير بعيد، لم تكن الأمور معقدة إلى هذا الحد. وكان نموذج الأعمال في وادي السيليكون يبدو متماشياً تماماً مع الإجماع الجيوسياسي لواشنطن. فقد كانت الحكومة الأميركية وشركات التكنولوجيا الأميركية تتفق على أن المستقبل يكمن في بناء عالم آمن للسياسة والاقتصاد الليبراليين. وكان يعتقد أن انتشار الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي سيقوض تدريجاً قوة الحكومات الاستبدادية. وخلال عام 2000، اشتُهر عن بيل كلينتون قوله للصين إن محاولة السيطرة على الإنترنت تشبه محاولة تثبيت حلوى الـ”جيلو” الرخوة على الجدار بواسطة مسامير. ومول الرئيس جورج بوش الابن إنشاء ونشر “تكنولوجيا الحرية” التي قد تقضم أسس الأنظمة الديكتاتورية.
وعندما بدا أن وسائل التواصل الاجتماعي تضخم من أثر التظاهرات في إيران عام 2009، كان المدير التنفيذي في مؤسسة “غولدمان ساكس” المالية جاريد كوهين يعمل في وزارة الخارجية الأميركية أثناء عهد الرئيس باراك أوباما. وطلب من “تويتر” (“إكس” الآن) تأجيل عملية صيانة تقنية حتى تظل المنصة متاحة للمتظاهرين. وبالطبع، لم تكن الاحتجاجات تعتمد كلياً على وسائل التواصل الاجتماعي. ومع ذلك، مضى كوهين في تأليف كتاب بالاشتراك مع شميت، يحتفيان فيه بقوة التكنولوجيا على نشر الحرية وتعزيز الازدهار المشترك.
دعمت شركات تكنولوجية أخرى هذه الحماسة التبشيرية لإعادة تشكيل الكوكب. ففي عرض داخلي شهير عام 2016، قال أندرو بوسوورث أحد “أوثق المقربين” من مؤسس “فيسبوك” مارك زوكربيرغ لموظفي الشركة، إن شخصاً ما قد يموت ربما بسبب التنمر عبر خدمات “فيسبوك” أو في هجوم إرهابي منسق باستخدام أدوات “فيسبوك”. ومع ذلك، وضع الصحافيون ريان ماك وتشارلي وازيل وآلكس كانتروفيتز منشوراً على موقع “باز فيد” BuzzFeed عام 2018 يبين أن بوسووث، على رغم ما أورده، حاجج لمصلحة استمرار “فيسبوك” في أعماله. وعدَّ آنذاك أن مهمة “فيسبوك” في الربط بين أرجاء العالم، ومنها الصين في نهاية المطاف، تجسد “الخير بحكم الواقع”، حتى لو كان لا بد أن يعاني بعض الأشخاص في الطريق.
وعلى نحو مؤكد، لقد عانى الناس. ففي مطلع العقد الثاني من القرن الجاري، بدا أن النظام الاستبدادي في ميانمار قد شرع بشيء من الانفتاح. وحاجج النشطاء المتحمسون بقناعة لمصلحة التكنولوجيا، بأن ذلك البلد يجب أن يحتضن حرية الإنترنت على أساس أن “الرد على الخطاب السيئ يتمثل في نشر مزيد من الخطب”. لكن المسؤولين الحكوميين والمتطرفين الدينيين في ميانمار اكتشفوا إمكانات أخرى. استخدموا “فيسبوك” حينها لنشر الدعاية ضد أقلية الروهينغا، مما ساعد في تأجيج حملة إبادة جماعية واسعة النطاق عام 2016. لم تكن لدى “فيسبوك” القدرات الفنية ولا اللغوية المحلية التي تتيح له إدراك ما كان يحدث، ناهيك باتخاذ أي إجراء تجاهه.
في الواقع، لم يؤد الربط بين أرجاء العالم إلى تحول ليبرالي في المجتمعات غير الليبرالية. فبعد انتخاب ترمب رئيساً عام 2016، بدأ كثر يخشون من أن الإنترنت جعل المجتمعات التي كانت ليبرالية في السابق أكثر ميلاً إلى التسلط، إذ أغرقها بالمعلومات المضللة. واستخدم بعض منتقدي ترمب حججاً واهية وأدلة ضعيفة لاتهام “فيسبوك” وخدمات التواصل الاجتماعي الأخرى بأنها سمحت لمروجي البروباغندا الروسية أن يتلاعبوا بالأميركيين، كي يصوتوا لمصلحة قائد لديه ميول تسلطية. وردت شركات السوشيال ميديا بأن أدخلت أدوات تقاوم المعلومات المضللة داخل الولايات المتحدة وغيرها من الأسواق الأساس، لكنها غالباً ما كانت تهمل تطبيق مثل هذه الضوابط في البلدان الأفقر.
رسم خطوط على الرمل
طرأ تحول مهم آخر خلال تلك الفترة. ففي عهد إدارة ترمب الأولى، أصبح معظم السياسيين الأميركيين من المتشددين تجاه الصين. وبدأوا يرون في التكنولوجيا وسيلة ليس لتحرير الصين من الاستبداد، بل لكبح طموحات بكين. وحين تسربت فكرة مشروع “غوغل” المسمى “دراغون فلاي” Project Dragonfly عام 2018 -وهو محرك بحث مصمم ليتماشى مع قواعد الرقابة التي تفرضها السلطات الصينية على الإنترنت وموجه للسوق الصينية- أدانه كل من الديمقراطيين والجمهوريين، بينما أعرب رئيس هيئة الأركان المشتركة عن دهشته من أن “غوغل” لا تزال تستثمر في بلد استبدادي، تتعارض قيمه جذرياً مع قيم الولايات المتحدة، واصفاً الأمر بأنه “لا يمكن تفسيره”. وتخلت “غوغل” عن طموحاتها في العودة إلى السوق الصينية.
انحازت شركات التكنولوجيا الكبرى إلى التوجهات السياسية الجديدة، وتبنت المواجهة التكنولوجية الناشئة. وبدأ قادة الأعمال بإعادة النظر بصورة جدية في دور التكنولوجيا داخل عالم تسوده المنافسة الجيوسياسية. وكان من بين هؤلاء إريك شميدت الذي استقال من منصبه كرئيس للشركة الأم لـ”غوغل”، وتولى رئاسة لجنة بالغة التأثير تضم أعضاء من الحزبين الرئيسين. وخلص تقريرها النهائي عام 2021 إلى أن الولايات المتحدة في حاجة إلى التفوق على الصين في مجال الذكاء الاصطناعي. ويمكنها تحقيق ذلك من خلال تعزيز قدراتها التكنولوجية الذاتية، ومنع الصين من الحصول على أشباه الموصلات المتخصصة التي تتلاءم مع تدريب النماذج الأكثر تقدماً في الذكاء الاصطناعي.
وفي حين جمع بعض بين النظريات الجيوسياسية الكبرى والمناشدات التي تخدم مصالحهم الخاصة، قدم الرئيس التنفيذي لشركة “ميتا” مارك زوكربيرغ شهادة أمام الكونغرس عام 2020، قال فيها إن تشديد السلطات الأميركية للرقابة على شركته أو السعي إلى تفكيكها سيصب في مصلحة المنافسين الصينيين مثل “تيك توك”، مما يهدد الهيمنة التكنولوجية الأميركية. وبدأ عدد كبير من شركات وادي السيليكون، التي كانت في السابق تبقي مسافة بينها وأجهزة الأمن القومي الأميركي، يدرك أن هذه الأجهزة تمثل سوقاً تجارية جديدة ضخمة، فانضمت إلى شركات مثل “بالانتير” المتخصصة في تحليلات البيانات، في مسعى إلى تسويق خدماتها ومنصاتها للحكومة.
ومع عودة ترمب إلى السلطة العام الحالي، بدت شركات التكنولوجيا الأميركية في وضعية ملائمة لذلك تماماً، حتى قبل أن يغدو الملياردير والمستثمر في التقنية إيلون ماسك المبعوث الشامل لترمب. وقبل انتخابات العام الماضي، شرعت شخصيات نافذة من أمثال زوكربيرغ وجيف بيزوس، مؤسس “أمازون”، في التقرب من النظام الجديد. إذ اتصل زوكربيرغ بترمب في مكالمات هاتفية خاصة، وأعاد خلال صيف عام 2024 تفعيل حسابي ترمب على “فيسبوك” وإنستغرام”، بعد أن فرضت عليهما قيود، في حين ألغى بيزوس خطة صحيفة “واشنطن بوست” -التي يملكها- لدعم منافسة ترمب، كامالا هاريس. وبعد فوز ترمب، قام كل من زوكربيرغ وبيزوس بزيارات “حج” إلى مقر إقامة الرئيس المنتخب في مارالاغو.
ترمب أظهر متعة واضحة في خضوعهما له، قائلاً خلال ديسمبر (كانون الأول) 2024 “الجميع يريد أن يكون صديقي”. أما قادة التكنولوجيا، فكانوا يأملون أن تكون عودة ترمب مفيدة لهم، إذ بدا حازماً تجاه الصين ومستعداً لتخفيف القيود التنظيمية على التكنولوجيا. وكانت شركات مثل “فيسبوك” و”غوغل” تخلت عن فكرة التوسع في السوق الصينية، وراهنت بدلاً من ذلك على إدارة ترمب جديدة تتصدى للمنافسين الصينيين، وتقاوم أيضاً القوانين الأوروبية التي وصفها زوكربيرغ خلال يناير (كانون الثاني) بأنها أشبه بـ”نظام رقابة”.
فك الترابط بين ضفتي الأطلسي؟
بالتأكيد، لم يرغب قادة كبريات شركات التكنولوجيا في اتخاذ ترمب عدواً لهم، وامتلكوا من الأسباب ما يكفي لتصديق أنه ربما يساعدهم. فقد أبدى رؤساء هذه الشركات وملاكها، مثل بيزوس، وخليفة شميدت في قيادة “غوغل”، ساندار بيتشاي، وزوكربيرغ، استعدادهم للظهور في حفل تنصيب ترمب الثاني وكأنهم طرائد صيد معروضة على الجدران.
ولسوء الحظ، لم ينل أي منهم ما تمنى. صحيح أن إدارة ترمب الثانية لا تحبذ القوانين التنظيمية المحلية أو قواعد الاتحاد الأوروبي، غير أن الحكومة تواصل حالياً ملاحقة “غوغل” في قضية احتكار بدأت في ولاية ترمب الأولى، وتستعد لاتخاذ إجراءات ضد “أمازون” و”آبل” و”ميتا”. ويبدو أن ترمب لا يمانع في استمرار تطبيق “تيك توك” -المملوك للصين- بالعمل داخل الولايات المتحدة، ما قد يمهد الطريق لاتفاق أوسع مع الصين. وأظهرت إدارة ترمب عداء صريحاً للاتحاد الأوروبي، تجلى في الرسائل المسربة على تطبيق “سيغنال”، والتي كشفت عن ازدراء نائب الرئيس جي دي فانس لأوروبا. وبدلاً من إعادة التفاوض على علاقة تكنولوجية أفضل بين الولايات المتحدة وأوروبا، فإن مطالبة ترمب لأوروبا بالكف عن تنظيم شركات التكنولوجيا الأميركية (ومطالبته الدنمارك بتسليم جزيرة غرينلاند) قد تدفع الأوروبيين إلى طرح سؤال لا ترغب الشركات الأميركية في سماعه “هل يعد اعتماد أوروبا على التكنولوجيا الأميركية مجرد مشكلة تتعلق بالتنافسية؟ أم أنه يمثل ثغرة خطرة في أمنها القومي؟”.
حتى خلال الولاية الأولى لترمب، وجد كثير من الأوروبيين أن طرح مثل هذه الأسئلة أمر لا يعقل. لقد دعمت الولايات المتحدة أوروبا لعقود من الزمن. وعلى رغم استياء الأوروبيين من هيمنة شركات التكنولوجيا الأميركية الكبرى، فإنهم لم يروا بديلاً قط، بل ولم يرغبوا بالضرورة في وجود واحد. يروي كاسبر بودن، المدافع البريطاني عن الخصوصية والموظف السابق في شركة “مايكروسوفت”، كيف أن الأوروبيين كانوا يضحكون حرفياً عندما حذرهم من أخطار المراقبة المرتبطة بالحوسبة السحابية الأميركية، خلال الأعوام التي سبقت تسريبات سنودن.
أما الآن، فقد بات بإمكان الجميع في أوروبا أن يروا أخطار الاعتماد على التكنولوجيا الأميركية. وأوضح مثال على ذلك هو شركة “ستارلينك” للاتصالات عبر الأقمار الاصطناعية، التي يملكها إيلون ماسك. فعندما أرادت الولايات المتحدة ممارسة ضغوط على أوكرانيا بخصوص مفاوضات محتملة لإنهاء الحرب مع روسيا، اقترح البيت الأبيض حرمان أوكرانيا من الوصول إلى خدمات “ستارلينك”، التي كانت تزود الجيش الأوكراني بموارد حيوية في ساحة المعركة. ولاحظت دول أوروبية أخرى هذا الأمر، وأدركت أن الولايات المتحدة قد تضحي بها أيضاً من أجل مكاسب موقتة. فهي، بدورها، تعتمد على “ستارلينك” وغيره من البرمجيات والأجهزة والتقنيات في عملياتها اليومية. ولهذا، يسعى الأوروبيون إلى الابتعاد من “ستارلينك” بأسرع ما يمكن، ويحقق الاتحاد الأوروبي في كيفية دعم البدائل المحلية. وفي الوقت ذاته، بدأ المشترون الأوروبيون للسيارات بالعزوف عن سيارات “تسلا” التي يملكها ماسك. ولسوء حظ “وادي السيليكون”، باتت وسائط كـ”خدمات أمازون الشبكية”، وتقنية “آزور” Azure، التابعة لـ”مايكروسوفت”، في حوسبة السحاب، و”فيسبوك” أيضاً معرضة لخطر فقدان سمعتها في نظر كثير من الأوروبيين.
وليس الأمر متعلقاً فقط بإمكانية إيقاف تشغيل التكنولوجيا، بل باستخدامها أيضاً ضد المصالح الأوروبية. فقد أثارت تدخلات ماسك لمصلحة الجماعات اليمينية المتطرفة في ألمانيا والمملكة المتحدة، وهجماته على الأحزاب الرئيسة، قلق عدد من العواصم الأوروبية. وذهب رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز خطوة أبعد، محذراً من أن “أصحاب المليارات في قطاع التكنولوجيا يريدون الإطاحة بالديمقراطية”.
كسر الإنترنت
هناك تهديد أكبر يواجه شركات التكنولوجيا الأميركية، لم يحظ بكثير من الانتباه. فعلى النقيض الحاد من الولايات المتحدة اليوم، يلتزم الاتحاد الأوروبي بقوة بسيادة القانون، ما يلزم السياسيين بالامتثال لأحكام القضاء. لكن نزعة إدارة ترمب إلى تجاهل القانون، إلى جانب ازدياد عداء شركات التكنولوجيا للقيم الأوروبية، قد تؤدي إلى انهيار الترتيبات بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة التي تعتمد عليها شركات التكنولوجيا مثل “ألفابت” و”ميتا” و”مايكروسوفت”.
قبل عقد من الزمان، أعرب شميت عن قلقه من أن خلافاً في شأن البيانات بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة قد يؤدي إلى انهيار الإنترنت. وكشفت تسريبات سنودن عن أن وكالات الاستخبارات الأميركية وصلت بطريقة غير مشروعة إلى بيانات وسائل التواصل الاجتماعي ومحركات البحث الخاصة بالأوروبيين، مما شكل خرقاً لقواعد الخصوصية الأوروبية. وتوصل إلى اتفاق غير متقن لتسوية هذا الخلاف، جرى التفاوض عليه بين المفوضية الأوروبية والحكومة الأميركية. ووافق الاتحاد الأوروبي على السماح بتدفق البيانات، بشرط أن تلتزم الولايات المتحدة بحماية حقوق الخصوصية لمواطني الاتحاد الأوروبي، وتوفير وسيلة للإنصاف في حال انتهاك تلك الحقوق من قبل وكالات المراقبة الأميركية. وكان حجر الزاوية في هذا الترتيب التزاماً أميركياً عام 2016 بأن تحترم وكالات المراقبة في واشنطن حقوق الخصوصية الأوروبية، من خلال عملية تشرف عليها هيئة أميركية مغمورة تعرف باسم “مجلس الرقابة على الخصوصية والحريات المدنية” (PCLOB).
لم ينل الاتفاق رضا الطرفين لكنه قدم غطاء شرعياً وسياسياً لتدفق البيانات عبر ضفتي الأطلسي. واستمرت “ميتا” في تشغيل “فيسبوك” داخل أوروبا، واستطاعت شركات كـ”أمازون” و”غوغل” و”مايكروسوفت” الحصول على البيانات الشخصية للأوروبيين ووضعها على منصاتها السحابية. وبالنسبة إلى تلك الشركات، بدت الأمور على أحسن ما يرام. وحصلت “غوغل” وحدها على ما يزيد على 100 مليار دولار من المبيعات في أوروبا.
لكن هذا الترتيب بات الآن على شفا الانهيار، وأصبحت عمليات شركات التكنولوجيا الأميركية في أوروبا مهددة بصورة جدية. فلم تكتف إدارة ترمب بإقالة معظم أعضاء مجلس “PCLOB”، بل أوضحت أيضاً، بطرق متعددة، أنها لن تلتزم بالقوانين التي تراها غير ملائمة. ويجري حالياً مراجعة الأمر التنفيذي، ولكن حتى لو ظل قائماً رسمياً، فلا أحد يثق في أن إدارة ترمب ستلتزم به.
قد يفتح الاتفاق الجديد حول نقل البيانات بين أوروبا وأميركا الباب للطعن فيه من قبل نشطاء مثل ماكس شريمس، وهو ناشط نمسوي بارع في مجال الخصوصية، والذي أدت شكاواه القانونية إلى انهيار ترتيبين سابقين. وكما حذرت منظمة شريمس بالفعل، فقد يصبح من غير القانوني قريباً لأي كيان أوروبي استخدام خدمات الحوسبة السحابية الأميركية لتخزين البيانات الشخصية، أو أن تقوم شركات مثل “ميتا” بنقل بيانات المواطنين الأوروبيين ذهاباً وإياباً بين أوروبا والولايات المتحدة. ومن المرجح أن يؤدي ذلك إلى تدمير نموذج “ميتا” التجاري، وسيجعل من الصعب على شركات مثل “غوغل” و”مايكروسوفت” تقديم خدمات سحابية آمنة في أوروبا. وحتى إن قامت هذه الشركات بفصل البيانات الأوروبية عن الأميركية، فإنها ستظل عرضة للمطالب الأميركية بمشاركة المعلومات المخزنة على خوادمها الأوروبية، أو بوقف تقديم التشفير القوي لعملائها في أوروبا.
وفي هذه المرة، لن يتوافر أي اتفاق مقبول بين المنظومتين [الأوروبية والأميركية]. إذ سيكون القضاة الأوروبيون والجهات التنظيمية الوطنية لحماية الخصوصية متشككين للغاية إزاء وعود إدارة ترمب، وهم محقون في ذلك. فالقضاة الأوروبيون لا يخضعون لنفس الضغوط السياسية التي يتعرض لها السياسيون الأوروبيون أو مسؤولو المفوضية الأوروبية. إنهم يعدون أنفسهم أوصياء على القوانين الوطنية والنظام الدستوري الأوروبي، وهو ما يسعى ترمب ومسؤولوه إلى تقويضه. كما أن القضاة لن يظهروا تعاطفاً مع شركات التكنولوجيا الأميركية. فمنذ عقد مضى، كانت تلك الشركات قادرة على النأي بنفسها عن تجاوزات الحكومة الأميركية، وكانت تستنكر برامج المراقبة الأميركية التي لم تكن على دراية بها في بعض الأحيان. أما الآن، فقد اصطف مالكو هذه الشركات ومديروها التنفيذيون علناً لإظهار دعمهم لترمب، وهو ما يقوض أية أعذار محتملة أو ادعاءات بالاستقلالية.
تسيطر شركتا “غوغل” و”مايكروسوفت” حالياً على ثلثي سوق الحوسبة السحابية في أوروبا. لكن الساسة الأوروبيين والأكاديميين ومراكز الأبحاث ورواد الأعمال بدأوا يتلاقون بالفعل حول فكرة أن أوروبا في حاجة إلى بناء مواردها السحابية الخاصة، لتحقيق الاستقلال الاستراتيجي الذي يمكنها من فك ارتباطها بالتكنولوجيا الأميركية. إن صدور حكم من محكمة أوروبية ضد تدفق البيانات بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة من شأنه أن يسرع بصورة كبيرة من هذه الخطط. وقد تسهم الرسوم الجمركية الأميركية الواسعة النطاق، بدورها، في دفع أوروبا إلى تقييد خدمات التكنولوجيا الأميركية.
وإذا حدث ذلك، لن يكون بوسع شركات التكنولوجيا الكبرى إلا أن تتحمل مسؤولية ما آلت إليه الأمور. فقد كان ردها على التغيرات الجيوسياسية هو بناء علاقة أوثق مع الحكومة الأميركية، على أمل أن تتمكن من مواصلة الازدهار في عالم يسوده التنافس بين الولايات المتحدة والصين. لقد تبنى قادة التكنولوجيا ترمب طواعية بعد إعادة انتخابه، وكان بإمكانهم أن يحافظوا على مسافة بينهم وبينه. وقد تكتشف شركات التكنولوجيا الكبرى قريباً أنها لن تدخل السوق الصينية أبداً، وأنها أصبحت أيضاً غير مرغوب فيها بصورة متزايدة في الأسواق الأوروبية.
وقد تمثل هذه الروابط المتداعية نهاية حلم الإنترنت العالمي، الذي يتشارك فيه الجميع الخدمات ذاتها. وكما هو الحال في الصين، قد تواصل المنصات الأوروبية استخدام الإنترنت كأساس تكنولوجي لخدماتها، لكنها ستبدأ في بناء منصات بديلة خاصة بها فوق هذا الأساس، معزولة عن التدخل الأميركي من خلال نماذج أعمال تقتصر على أوروبا وتشفير قوي. ولن يؤدي ذلك فقط إلى تقليل أرباح الشركات الأميركية، بل سيلحق ضرراً إضافياً بعلاقة الأمن عبر الأطلسي. وقد تتحقق نبوءة شميدت بعد عقد من الزمن الذي توقعه لها، ولسوف تكون شركات التكنولوجيا الأميركية شريكة متواطئة في إنضاج ذلك التحقق.
هنري فاريل، يعمل في “ستافروس نياركوس فاونديشن أغورا انستيتيوت” وبروفيسور العلاقات الدولية في جامعة جونز هوبكنز
أبراهام نيومان، يشغل كرسي جون باورز للدبلوماسية في التجارة الدولية التابع لمعهد والش للخدمات الخارجية، وهو بروفيسور في قسم الحكومة بجامعة جورجتاون.
ألف فاريل ونيومان كتاب “الإمبراطورية السرية، كيف جعلت أميركا من الاقتصاد العالمي سلاحاً لها” Underground Empire: How America Weaponized the World Economy
مركز الناطور للدراسات والابحاثFacebook