عياد البطنيجي: عن المقاومة واللامبالاة وتغيير أنفسنا
عياد البطنيجي 30-10-2024: عن المقاومة واللامبالاة وتغيير أنفسنا
ينتمي الكلام عن المقاومة إلى جنس الكلام الشائع حيث الكلام دون سند واقعي، وبالتالي يفتقر للطاقة الدلالية. إذ ينطلق من معادلة بسيطة فيكفي أن المقاومة تشترط الاحتلال باعتباره يمثل سبباً كافياً لأفعالها. والنتيجة انفكاك فعل المقاومة عن العواقب، فلا تشترط أفعالها الحساب الذي ينبغي أن يحسب بدقة متناهية، كالإحاطة الدقيقة بالعدو، أو التوقيت المناسب، وحساب النتائج وقياس أثرها على المجتمع وعلى قدرته على التحمل والصمود، أو الغطاء السياسي وقدرة القيادة على تحقيق مكاسب لصالح القضية الفلسطينية، أو حساب التوازنات الدولية وانعكاسها على مجرى الأحداث، وحساب مدى استعداد حلفائك لدعمك، وحدوده وإمكاناته ومداه.
وهكذا، فاللامبالاة جزء لا يتجزأ من مبدأ تقدير أفعال المقاومة. فالأبعاد والتداعيات والنتائج والأحداث فهي من الحسابات المحرمة، إذ تعفي نفسها من كل ذلك فلا تتحمل العواقب، فتفعل وتتطير من نتائج أفعالها.
وعليه، أن موقف المقاومة تجاه النتائج هو اللامبالاة بوصفها جرائم احتلال الذي يغطي فعل المقاومة بما هي لا تفعل الأشياء جزافاً ولا تتصرف بلا سبب. وهكذا، فإن اللامبالاة والمقاومة أمران متلازمان، والنتيجة أن اللامبالاة والاحتلال يجعلان المذبحة تتكرر والموت مضاعفاً.
قيل بعد عملية السابع من أكتوبر، وما نتج عنها من تكاليف باهظة بأن حماس، كونها صاحبة الفعل، لم تتوقع النتائج، وبعد مرور عام من الحرب ما تزال تردد الكلام ذاته غير عابئة بالعاقبة. إن التخفيف من وطأة النتائج بالقول بعدم توقعها يكشف أن المسألة، بعدما رأت حماس أهوال النتائج وفي نفس الوقت إصرارها على موقفها، هي أنها ليست لم تتوقع النتائج بل الصحيح أنها محكومة باللامبالاة، وأن النتائج ليست جزءاً من عقلها، فكان يجب أن تحسب أثرها على الناس كافة وليس فقط على مجتمعها العسكري.
وبالفعل لقد ميزت حماس، كما صرح أحد قياداتها مؤخراً، بين القتلى المدنيين والقتلى المقاتلين وهم عندها فئة أعلى وأرقى، حيث لا يزال مقاتلوها كما هم لم يمسوا، وحملت الاحتلال المسؤولية عن القتلى المدنيين. وهكذا، فإن فائدتهم تتمثل في ما يقدمونه من برهان على وحشية العدو الإسرائيلي. فالمدنيون، من جهة، هم مادة للاستهداف تقدمها المقاومة للعدو عندما تختبئ في المناطق الإنسانية، ومن جهة أخرى يدرجون في قائمة جرائم الاحتلال التي كلما اتسعت برهن على وحشيته. وبذلك تفصل نفسها تماماً عن المساس بالمدنيين وما يحيق بهم من كوارث، وأن الخسائر التي يعتد بها تتمثل في خسارة مقاتليها الذي تنكره الحركة.
هذه القراءة ليست دعوة لتحرير الاحتلال من المسؤولية، أبداً، بل دعوة لتحسين الرد على الاحتلال، فلا يكفي أن تقاوم بل أن تحسن المقاومة، وبناء مقاومة على تحسين رد الفعل وليس رداً يجعل الأوضاع أسوء من ذي قبل فتلحق الضرر بالصمود، وبعدها تغطي فداحة النتائج بعموميات مهترئة عن الواجب الوطني في تحمل التضحية من أجل أهداف ذاتية وطموحات يستحيل تحقيقها.
يكمن السبب وراء ظاهرة اللامبالاة بوصفها جرائم احتلال، وبالتالي فصل فعل المقاومة عن النتائج، في أن جهاز المقاومة ونظام التفكير القابع في خلفيته لا يتحرك بدافع كلي، فضلاً عن كون المقاومة مفصولة عن الناس بدلاً من تلاحمها بشعبها، وتخدم فئة مفصولة عن المجتمع، كما أنها تحتجب خلف الإبادة الجارية وما تنتجه اللامبالاة من كوارث.
من المعروف أن النصر بكلفة عالية يعادل الهزيمة، فماذا تكون الهزيمة بكلفة عالية! هذا ما يقدمه نموذج حماس في مقاومة الاحتلال: الهزيمة بكلفة عالية، واللامبالاة بما هي ترفُّع عن المسؤولية، وتطيُّر من النتائج وعدم الاكتراث بأهوال الدمار، وهو نموذج يرشح أساساً من انفصال المقاومة عن الناس في أصل نشأة لا مبالاتها. وهو انفصال يفسر تناقضه الداخلي فمن غير الممكن الجمع بين السلطة والمقاومة، ومقاومة هي سلطة أو مقاومة في خدمة نموذج سلطة تحت الاحتلال.
النموذج هذا محكوم بالهزيمة: فهو بحكم تكوينه وتركيبته قد استنزف نفسه، وتشبثه بغزة حتى انهكته، وأنه غير مقنع، وقد تحول إلى مذبحة ساقها إلى الناس فالأجدر أن يمقت، وأصبح عبئاً لتكاليفه العالية، وطبيعة طموحاته والفئة التي يخدمها، وطبيعة علاقاته الإقليمية وتحالفاته، وعوض دفع عنا الاحتلال فإذا به يدله علينا، وهو محكوم بعلة ذاتية لا بدافع حماسي كبير.
ناهيك أن أفعال المقاومة لم تؤثر على السلوك الحربي الإسرائيلي. فقد عاشت حركات المقاومة على شعارات تدمير إسرائيل وتوازن الرعب، وعندما فرض عليها الاحتلال معركة حقيقية تهاوت سريعاً وانكشف عوارها، وتبين بأنها شعارات لإسكات الناس واحتكار الكلام. والمعنى أن هذا النموذج غير مؤهل للمواجهة مع الاحتلال، فشعاراته تنتهي إلى أكاذيب صريحة تغطي على التراجع. وينتهي هذا النموذج ليس بتحرير البلاد كما يدعي فإذا به يسوقه إلينا، وكما قال حازم صاغية في عبارة موجزة “نُحتل فنقاوم، ونقاوم فنحتل، ونتحول إلى مقبرة كبرى”. ما فعلته حماس أنها أعادت الاحتلال المباشر لغزة بعد أن خرج منها في عام 2005 وأدعت حينها أنه خرج بسبب ضربات المقاومة وإذ يعود مرة أخرى بسبب المقاومة. الأمر نفسه يتكرر في لبنان فبعد أن انسحبت إسرائيل من الجنوب عادت إليه مرة أخرى.
وما نقوله ليس دعوة لاستسلام الضعيف أمام القوي، وإنما القصد هو في أن فشل هذا النموذج من المقاومة ليس لأن العدو قوي لديه تقنية عالية واستخبارات قوية وقدرات مادية كبيرة، بل لأن لدى المقاومة اختلالاً كبيراً هو الذي يبين أن العدو قوي ويتقدم، وبالتالي ينجح في تعميق سيطرته علينا.
فمن أجل الخروج من هذا الوضع المفروض علينا من قبل ميليشيا مسلحة فرضت نفسها على الناس بقوة السلاح، وعالم لا يبالي بآلامنا، فلا يوجد أمامنا سوى أنفسنا. من المحظور الوقوع في الوهم بأننا في الطريق لتغيير الوضع دون تغيير أنفسنا هذا الذي سيؤثر في الوضع.
وما تزال حماس ترفض القبول باستحقاق الهزيمة، وعاجزة عن إنقاذ نفسها بحكم قصورها الذاتي، وبالتالي عاجزة عن إنقاذنا، وأن الوضع القائم لا يأخذ الحيز الأكبر في تقدير حماس لنفسها ولعلاقتها بالوضع الجديد الذي تشكل بعد السابع من أكتوبر، فهي تتطور في صناعة الوهم عبر خلق رهانات لا توجد إلا في رأسها.
وختاما، يحدونا الأمل في تشكل قوى فلسطينية قادرة على رتق هذا الاختلال الداخلي في بنية المقاومة انطلاقاً من حمل فكرة تغيير أنفسنا كبرنامج عمل للخروج من هذا الوضع والحؤول دون تكراره في المستقل.