أقلام وأراء

عماد شقور: ملاحظتان عن الانقلاب السياسي في إسرائيل والسلام من أجل الحرب

عماد شقور 23-25-2024: ملاحظتان عن الانقلاب السياسي في إسرائيل والسلام من أجل الحرب

لم تكن إسرائيل في أي يوم من الأيام، «دولة» طبيعية. ومنذ إعلان إقامتها، ليلة الخامس عشر من أيار/مايو، في عام «النكبة» 1948، وهي تحتفل في هذا التاريخ، كما حصل قبل عشرة أيام، بما تسميه «عيد الاستقلال» وهو في حقيقته «عيد الفِطام» حيث رفعت «المُرضعة» بريطانيا ثديها عن رضيعها، الحركة الصهيونية العنصرية، وسلّمت مفاتيح فلسطين لإسرائيل، لترعى في حقولها، ولتدميرها، وتدمير ما أمكن من حقول الدول العربية المحيطة. وكان ذلك تطبيقاً لوعد بلفور، ولقرار عصبة الأمم، الذي اشترط وضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني، بتعهد بريطانيا العمل على تطبيق ذلك «الوعد» المشؤوم.
تلا ذلك مباشرة قرار «مهندس دولة إسرائيل» دافيد بن غوريون، حل جميع الميليشيات والعصابات الصهيونية، من الهاغاناة والبلماح وإيتسل وليحي وغيرها، ودمجها جميعاً في ما سمّاه «جيش الدفاع الإسرائيلي» وكان له ذلك رغم تمرد عصابة إيتسل، بقيادة مناحيم بيغن، وقصف باخرة السلاح ومن عليها من أفراد تلك العصابة، قبالة شاطئ تل ابيب. وكان السبب في القرار الحكيم لبن غوريون، قناعة راسخة بأن دور الميليشيات والعصابات المسلحة هو التدمير وتخريب ما هو قائم، وأن دور الجيش هو البناء والدفاع عمّا يتم تشكيله، وحصر استخدام السلاح والقوة بالجيش وأجهزة الأمن الخاضعة للقيادة السياسية.
مع إقرار إسرائيل قانون الخدمة العسكرية الإلزامية للذكور والإناث، من جيل 18 سنة، وقانون خدمة الاحتياط، أصبح للجيش الإسرائيلي مهمة جديدة، حيث تم اعتباره «بوتقة صهر» المجتمع الجديد، المكون من المهاجرين اليهود من شتى بقاع الأرض، وبدأ انتشار تعبير يقول إن «إسرائيل ليست دولة لها جيش، وإنما هي جيش له دولة» وبدأت تتشكل إسرائيل على هيئة «اسبارطة العصر الحديث» وكلما نجح هذا الجيش في ارتكاب مجازر ضد المدنيين الفلسطينيين، من «قبية» الى «السّموع» الى غزة، بل وضد الفلسطينيين داخل «الخط الأخضر» في كفر قاسم وغيرها، ازداد إعجاب الإسرائليين بجيشهم، وبلغ ذلك ذرىً غير مسبوقة، في العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956، وبشكل خاص بعد حرب حزيران/يونيو 1967، وما تلا ذلك من عمليات عسكرية.

جاءت حرب السادس من أكتوبر/تشرين الأول 1973، وانعكست داخل المجتمع الإسرائيلي على شكل زعزعة صورة الجيش الإسرائيلي، ولم يعد «البقرة المقدسة» التي يسجد لها الإسرائيليون، لكن الصورة التي تحطمت بالكامل كانت صورة القيادة السياسية، متمثلة برئيسة الحكومة، غولدا مئير، وبطاقمها القريب، فتنحت هذه عن السلطة، ليعتليها اسحق رابين. وبعد أقل من أربع سنوات، سقط ما يعتبر في إسرائيل «معسكر اليسار والوسط» ليتولى اليمين الإسرائيلي مهمات تشكيل الحكومات الإسرائيلية، برئاسة مناحيم بيغن، وبعده اسحق شامير، ثم لفترة قصيرة اسحق رابين وخلفه لأشهر قليلة شمعون بيرس، الذي خسر أمام بنيامين نتنياهو، وهكذا عاد اليمين الأكثر عنصرية ليحكم إسرائيل، حتى يومنا مع استثناء سنة وثمانية أشهر، كان ايهود براك خلالها رئيساً للحكومة الإسرائيلية.

هذا يعني أن اليمين الإسرائيلي شبه العاقل، واليمين المتطرف، ثم اليمين بالغ العنصرية، هذه الأيام، يحكم إسرائيل منذ 47 سنة، باستثناء أقل من ست سنوات متقطعة.

في ظل هذا الوضع، وفي زمن قيادة اليمين العنصري والمعتوه للسياسة الإسرائيلية، جاء زلزال السابع من أكتوبر/تشرين الأول، الذي أفقد قياد الجيش وأجهزة الأمن الإسرائيلية صوابها، وألحقَ بها انتكاسة غير مسبوقة، تمكن نتنياهو، مدعوماً من وزراء بالغي العنصرية، من إجراء ما يمكن اعتباره «انقلابا سياسيا» على الجيش، في سابقة غير معهودة. وإذا كنا معتادين على متابعة انقلابات عسكرية في عالمنا العربي وبقية «دول العالم الثالث» فإن ما نتابعه هذه الأيام هو «انقلاب سياسي» في واحدة من «دول العالم الثالث عشر» هي إسرائيل، التي تتصرف بجنون، قاد الى انطلاق مظاهرات الملايين في عواصم ومدن العالم وجامعاتها، رفضاً لسياساتها وجرائمها، وجر إسرائيل الى مقعد المتهم في محكمة العدل الدولية، ومطالبة المدّعي العام في محكمة الجنايات الدولية بإصدار قرار القبض على نتنياهو، وعلى وزير دفاعه، يوآف غالانت، وسَوقهما الى المحاكمة… و«الحبل على الجرار» كما يقولون. إضافة لما هو أخطر: إضعاف الجيش الإسرائيلي، وبدء تشكيل ميليشيات صهيونية، من الشرطة الإسرائيلية وضباط وجنود «حرس الحدود» بل وبعض التشكيلات في الجيش الإسرائيلي نفسه، والتي وضعت أمريكا واحدة منها في «القائمة السوداء». لا شك أن بن غوريون يتململ في قبره.

على أن مشكلة المجتمع الإسرائيلي مع نفسه، ومشكلتنا نحن الفلسطينيين مع هذا المجتمع، لا تتوقف وتنتهي عند المعاناة من اليمين العنصري بالغ التطرف والمسعور. إنها تتجاوزه الى مشكلتنا مع اليمين العاقل المعتدل، (بالمقاييس الإسرائيلية) ومع الوسط واليسار الصهيوني كله.

أعطي، للاختصار، مثالاً واحداً: إيهود أولمرت، رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق، الذي بدأ حياته ونشاطه السياسي في صفوف اليمين المتشدد، ثم بدأ الميل نحو الاعتدال، الى درجة أنه كشف في مذكراته، التي نشرها تحت عنوان «ضمير المتكلم» أنه عندما دعا الرئيس أبو مازن على العشاء في بيته، وهو رئيس للحكومة، أمر برفع العلم الفلسطيني الى جانب علم إسرائيل، على سارية البيت، وكذلك على مائدة العشاء. وبعد انتهاء العشاء، والبحث والحوار بين اولمرت وأبو مازن والوفد المرافق له، طلب أن يختلي مع أبو مازن في جلسة «أربع عيون» وأبلغه فيها عن قراره التوصل الى حل وإقامة دولة فلسطينية، وطلب من أبو مازن اختيار مسؤول من طرفه للتوصل الى تحقيق هدفه، فأبلغ أبو مازن أولمرت أنه يختار لذلك أبو علاء، (أحمد قريع) وعندما أظهر أولمرت عدم ارتياحه لاختيار أبو علاء، دافع أبو مازن عن قراره: إن أبو علاء ملتزم بالمسيرة السلمية. وعندها قال اولمرت، كما كتب في مذكراته، هذا صحيح، لكن أبو علاء يعشق «المسيرة» السلمية، وليس هذا هو ما أسعى اليه، أسعى الى إنهاء هذه «المسيرة» والتوصل الى حل وسلام. أولمرت هذا نفسه، نشر قبل أيام مقالاً في جريدة «هآرتس» دعا فيه الى وقف الحرب على غزة، وإعادة المخطوفين والأسرى الإسرائيليين في غزة، والتوصل، بمساعدة أمريكا الى تطبيع العلاقات مع السعودية، وتشكيل تحالف معها ومع «الدول السّنية المعتدلة» بقيادة أمريكا…. «لمواجهة إيران».

هكذا إذن هي المعادلة لدى المعتدلين في القيادات الإسرائيلية: يريدون التطبيع والسلام، ليس من أجل السلام والاستقرار والهدوء والبناء، بل من أجل التحضير لحرب مقبلة. سلام من أجل الحرب! فإسرائيل تنهي الحرب والقطيعة على هذه الجبهة، لتستعد (مع من تعتقد بقدرتها على إغوائهم وتضليلهم) لشن حرب على الجبهة الثانية.

لا مكان حتى في عقول العقلاء المعتدلين في إسرائيل لسؤال: ما هو مبرر العداء الذي تعلنه إيران في مواجهة إسرائيل؟ أليس التوصل الى حل عادل ومقبول مع الشعب الفلسطيني والدول العربية كفيل بإنهاء كل التوترات في المنطقة؟

ثم، تقول المراجع الإسرائيلية والدولية، إن تكلفة حرب إسرائيل على غزة، بلغت حتى الآن ما يزيد على أربعين مليار دولار. هذا المبلغ، وحده، كافٍ، (في حال التوصل الى تسوية وحل عادل للقضية الفلسطينية، وفق الشرعية الدولية) لأن يكون دفعة أولى وحاسمة في باب التعويضات والاستحقاقات المترتبة على إسرائيل تجاه الشعب الفلسطيني، وهو ما يعني تحقيق أهداف الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، وإقامة دولته كاملة السيادة، وعاصمتها القدس الشرقية، وبدء مرحلة حل قضية اللاجئين الفلسطينيين، الى جانب بدء عصر من الهدوء والاستقرار والازدهار في المنطقة، تطبيقاً لـ«المبادرة العربية» في قمة بيروت سنة 2002، حيث كانت بذرتها الأولى «مبادرة الأمير فهد» في قمة فاس 1981، ثم ثبتت في قمة فاس الثانية 1982، الى أن نضجت واكتمل نموها في قمة بيروت.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى