عماد شقور: الاحتلال الإسرائيلي بين «الذكاء الاصطناعي» و«الغباء الفطري»
عماد شقور 9-5-2024: الاحتلال الإسرائيلي بين «الذكاء الاصطناعي» و«الغباء الفطري»
في مطلع العقد الأخير من القرن التاسع عشر، نشر واحد من أهم المفكرين اليهود في اوروبا، هو أشير تسفي غينتسبرغ (1856 ـ 1927) الذي كان يوقِّع مقالاته وكتاباته باسمه الادبي «إحاد هعام» (الذي يعني: واحد من الشعب، او «أحدهم»)
مقالاً عن «الروح والجسد» وكان ذلك واحدا من مقالين اثنين له، إلزامِيّين في مادة اللغة والأدب العبري لطلاب المرحلة الثانوية في المدارس العربية في إسرائيل، أثناء دراستي في المدرسة الثانوية البلدية في مدينة الناصرة، في نهايات العقد الخامس من القرن الماضي، وكان مقاله الثاني بعنوان «موسى». ضمّن إحاد هعام مقاله عن الروح والجسد، كما أذكر، نصيحة لحكومات وشعوب أوروبا، بكيفية حل «المسألة اليهودية». قال فيه، ما فحواه، باختصار، إن شعوب ودول أوروبا، واليهود في تلك القارة، في شرقها وغربها، يعانون من المعضلة أو «المسألة اليهودية» سبب ذلك، كما قال إحاد هعام في مقاله، أن اليهودية عبارة عن روح بلا جسد، وكل روح في مثل تلك الحالة هي «شبح» لا يمكن التخلص منه ولا من شروره، لأنه لا يموت ولا يحول ولا يزول، ويبقى موجوداً كشبح، وحتى لو قطع بالسيف فإنه يصبح شبحين، وكلما قطَّع أكثر، مرّات ومرّات، تضاعف عدده، وأصبح أشباحاً كثيرة. ولذلك فإن الحل الأمثل، وربما الوحيد، كما قال إحاد هعام في مقاله، هو حشر هذه الروح (الشبح) في جسد، فتتحول بذلك من شبح هائمٍ ومؤذٍ، عصيٍّ على العِقاب، الى كائن حي متجسّد، وفي حال تحقُّق ذلك، يصبح بإمكان أوروبا أن تكافئ هذا الكائن الحي إذا تصرف بحكمة، وأن تعاقبه إذا أساء.
بعد بضع سنين من نشر ذلك المقال، كان للحركة الصهيونية، بدفع ودعم وتشجيع من سياسيين أوروبيين، ما أرادت، وكانت الخطوة الأولى هي بدء اعتماد تحويل أتباع الديانة اليهودية، من مجرد أتباع دين سماوي، إلى «شعب» تم اختراعه، (كما شرح ذلك البروفيسور شلومو ساند، أستاذ التاريخ في جامعة تل أبيب، المقامة على أراضي قرية الشيخ مونّس، سابقاً، وأستاذ التاريخ حالياً في جامعة السوربون في باريس، حالياً، بعد أن هاجر من إسرائيل، وأعلن انفصاله عن الديانة اليهودية، في كتابه «اختراع الشعب اليهودي»). ثم كان لهذا «الشعب» ما أرادته دول أوروبا والغرب الاستعماري، حيث تم بعد خمسة عقود من إنشاء الحركة الصهيونية، تجسيد «الشبح» اليهودي، بإقامة «دولة إسرائيل».
لكن حل «مأساة يهود أوروبا» خلق مأساة جديدة، هي «مأساة الشعب الفلسطيني» حيث كانت «النكبة» 1948، التي أنتجت انفصال الروح الفلسطينية عن الجسد الفلسطيني، وتحول تلك «الروح الفلسطينية» إلى شبح يطارد «الكائن الصهيوني الحي» ويقض مضاجعه ومضاجع الشرق والغرب. وبدأ مسلسل الغباء الإسرائيلي بتقطيع «الروح الفلسطينية» لتتحول إلى «أشباح»: شبح في داخل مناطق الـ48، وشبح في الضفة الغربية، وشبح في قطاع غزة، وأشباح كثيرة في دول اللجوء والشتات.
عندما بدأت الروح الفلسطينية في محاولة التجسّد (الافتراضي) المرحلي، ممثلة بمنظمة التحرير الفلسطينية، ارتكبت إسرائيل، بزعامة مناحيم بيغن وآريئيل شارون، حماقة اجتياح جنوب لبنان ومحاصرة بيروت الغربية، وتقطيع «الروح الفلسطينية» قيد التجسّد، التي نتج عنها خلق «أشباح فلسطينية» في تونس والجزائر والأردن وسوريا واليمن والسودان وغيرها، تطارد إسرائيل.
في اعتقادي أن شمعون بيرس، بذكائه، (وبخبثه المعروف) تعلم الدرس من إحاد هعام، واقتنع بأن مصلحة إسرائيل تكمن في «تجسيد الروح الفلسطينية» وأقنع إسحق رابين بذلك، فكانت أوسلو… من «غزة أريحا أولاً» وبدأ «تجسيد» الروح الفلسطينية، وتحويلها من شبح يطارد إسرائيل ويقلقها ويشكك في حقها في الوجود على حساب الحقوق الشرعية الطبيعية للشعب الفلسطيني الى كائن حي يمكن مكافأته، ويمكن معاقبته ايضاً.
لكن هذا التجسّد، من مؤتمر مدريد إلى «غزة أريحا اولاً» ثم إلى رام الله ونابلس وبيت لحم وجنين وطول كرم و80 في المئة من الخليل، وغيرها، لم يرق لأغبياء إسرائيل في اليمين العنصري المتطرف، فكان اغتيال رابين، ثم إعادة شارون احتلال ما تم انسحاب الاستعمار الإسرائيلي منه من أرض فلسطين، ثم اغتيال الزعيم الفلسطيني الخالد، ياسر عرفات، ثم انسحاب من كل قطاع غزة دون تنسيق مع منظمة التحرير الفلسطينية، لكي ينتج ذلك قطيعة بين غزة والضفة الغربية، بين حركة حماس ومنظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية وحركة فتح، ويفتح لإسرائيل، بقيادة بنيامين نتنياهو، باباً لتغذية وتسمين وحماية هذه القطيعة المأساوية المشينة، وهو ما نتج عنه أن عادت «الروح الفلسطينية» لتكون أشباحاً، أقواها وأكثرها حيوية «شبح القيادة الميدانية لمقاتلي حركة حماس، ومن معها، في قطاع غزة».
جاء «شبح» زلزال السابع من أكتوبر ليوقظ إسرائيل من أحلامها السعيدة، ولتصحو على كابوس أفقدها صوابها، (المعطوب أساساً) فراحت تتصرف بغباء ودموية وإجرام، خسرت، وتخسر فيه كل أرصدتها الكبيرة، وكل أرصدتها من الأخطاء المسموحة:
ـ خسرت ثقة الإسرائيليين بمستقبلهم وبمستقبل إسرائيل، بل وبامكانية وجودها، بالصورة التي هي عليها.
ـ خسرت صورتها الوهمية بأنها قادرة على حماية نفسها، وحماية من يتحالف معها ويستجير بها من أعداء وهميين، أو أعداء حقيقيين.
ـ خسرت ما كان يُعتبر دورها في حماية مصالح أمريكا وأوروبا في الشرق الاوسط، وصارت عبئاً عليهم، وبحاجة إلى أساطيلهم وصواريخهم وإمكانياتهم العسكرية والمادية لحمايتها.
ـ خسرت صورتها كضحية أبدية لجرائم التطهير العرقي والإبادة الجماعية، وأصبحت هي من يتم جرّه الى مقاعد المتهم بهذه الجرائم، في محكمة العدل الدولية.
ـ خسرت تعاطف الرأي العام العالمي معها، وفي الغرب خاصة، وعلامات ذلك المظاهرات الحاشدة المتواصلة في عواصم العالم ومدنه، وآخرها، وربما أهمها: مظاهرات واعتصامات الطلاب المتصاعدة في ساحات الجامعات الأكثر عراقة وأهمية، دعماً لفلسطين وشعبها، وإدانة واستنكاراً لجرائم إسرائيل في قطاع غزة أساساً، وفي الضفة الغربية والقدس، وفي كل أماكن تواجد أبناء الشعب الفلسطيني.
قيام الدولة الفلسطينية المستقلة، ذات السيادة الكاملة، وعاصمتها القدس الشرقية، وكنس كل المستعمرات/المستوطنات من أراضي الدولة الفلسطينية هي المرحلة الأولى لبدء عودة الهدوء والاستقرار إلى هذه المنطقة، تليها خطوات إلزام إسرائيل الحالية بدفع وتسديد كل ما عليها من استحقاقات للشعب الفلسطيني، عن كل ما عاناه من ظلم… وصولاً الى تسويات منطقية مقبولة، وتعاون، ولا نستبعد أن تكون بداية مرحلتها الثانية كونفدرالية فلسطينية إسرائيلية، منفتحة لاستيعاب غيرها، تتطور إلى فدرالية فلسطينية إسرائيلية، يتعايش فيها ملايين الفلسطينيين، مع ملايين اليهود الإسرائيليين لبناء مستقبل مشرق للأجيال المقبلة.
يقولون: «لا يُصلِح العطّارُ ما أفسدَ الدّهرُ». وأقول: «لا يُصلح الذكاء الاصطناعي الإسرائيلي ما أفسده الغباء الفطري الإسرائيلي والأمريكي».
كل عمليات وفذلكات «الذكاء الاصطناعي» المتوفرة في ترسانة نتنياهو والمعتوهين حوله، لا يمكن لها أن تلغي حقيقة وجود سبعة ملايين فلسطيني على «أرض فلسطين» وسبعة ملايين لاجئ فلسطيني في دول الجوار والشتات، لهم حقوقهم الطبيعية والشرعية، التي سيتم استردادها.
لا يمكن أن يحقق أي «ذكاء اصطناعي» يقوده ويوجهه «غباء فطري» عنصري، أي انتصار.