عبد المجيد سويلم: ونحن نقترب من لحظة الحقيقة
عبد المجيد سويلم 2-5-2024: ونحن نقترب من لحظة الحقيقة
ها نحن نقترب من لحظة الحقيقة، وها هي إسرائيل تُحشَر في أضيق زاوية. السرعة والمسافة والزمن تتقاطع كلّها عند نقطة الانسداد الأخير.
للمرّة الأولى منذ الصفقة الأولى تختفي من الأفق كافّة الهوامش التي كانت تغطّي “عورة” الحرب الإجرامية التي انتهت، وإلى أجلٍ معروف ومسمّى بالفشل المكعّب. والأجل المسمّى والمعروف هو؛ ما بعد الانتخابات الأميركية.
حسمت الإدارة في البيت الأبيض أمرها الآن، والآن فقط نحو الصفقة، بعد أن خاب ظنّها بحكومة التطرُّف والعنصرية، وتبخّرت كلّ آمالها، بتحقيق نصرٍ إسرائيلي حقيقي يمكن أن تعتدّ به، وتبرّر به وقوفها ــ ولو من حيث الشكل والمظهر ــ وراء المذابح والإبادة والإجرام.
حسمت الإدارة الأميركية أمرها بالوصول السريع إلى الصفقة، وخلال ساعات فقط لن تتجاوز الأيّام القليلة، ولم تعد تُحسب بالأسابيع.
أدركت الولايات المتحدة أنّ رفح ليست سوى “فخّ” ينصبه بنيامين نتنياهو لكلّ أنواع المستهدفين في الداخل والخارج، لإخراجه من الحفرة التي وقع بها، وأوقع كلّ إسرائيل بها، وأوقع أميركا و”الغرب” بها، أيضاً. لقد حُشروا بالزاوية هم، أيضاً. وإليكم منطق تسلسل الحسم الأميركي نحو الصفقة وليس غيرها:
راهنت أميركا، وراهن “الغرب” كلّه إلى ما قبل ثلاثة شهور خلت، وراهن بعض “الغرب” إلى ما بعد شهر أو شهرين من بدايتها على “الانتهاء” من المقاومة في القطاع، وعلى حسم الحرب لصالح إسرائيل، لكي يُصار إلى الدخول في مرحلة ــ ما بعد المقاومة ــ وأسموه اليوم الثاني للحرب!
من سوء الطالع لإسرائيل في هذه الحرب أنّها فشلت في حسمها على مدى ما يقارب السبعة أشهر، وهو ما جعل الاستمرار بها بعد هذا الفشل، وعلى أبواب المرحلة الانتخابية في الولايات المتحدة أشبه بالخيار الانتحاري للرئيس جو بايدن، وإدارته كلّها، بل إن ما يسمّى بالدولة العميقة في أميركا سارعت الآن، وعلى الفور لتقديم “أسخى” أنواع الدعم لإسرائيل لتفادي الانهيار، ليس بسبب استمرار الحرب الدموية التي تشنها إسرائيل على الشعب الفلسطيني، وإنّما لتفادي الآثار التي ستترتّب على توقفها إلى ما بعد الانتخابات الأميركية على أقلّ تقدير.
ليس كلّ هذا فقط، وإنّما وعلى غير توقّع جدّي انفجرت “انتفاضة الجامعات الأميركية”، وبزخمٍ أصاب هذه الإدارة بالصدمة، كما أثار خوف الدولة الأميركية كلّها، بما فيها “اليمين” الأميركي من أن تؤدّي هذه “الانتفاضة” إلى تدهورات كبيرة في الحالة الداخلية الأميركية على نحوٍ غير مسبوق.
وتتوارد الأنباء أثناء كتابة هذا المقال بأن بايدن شخصياً يتابع بصورة حثيثة وخاصة، ويضغط بكلّ قوّته وتأثيره للوصول إلى الصفقة بأسرع ما يمكن.
ظنّت إسرائيل، ومعها الإدارة الأميركية أنّ الحرب لن تستغرق ــ من الزاوية العسكرية ــ أكثر من عدّة أسابيع، ثم طلبت إسرائيل تمديدات جديدة لعدة شهور إضافية، وليس عدة أسابيع، ووافقت واشنطن على كلّ تمديد أملاً بالحسم، لكنّ إسرائيل كانت تكرّر الفشل نفسه، دون أن تحسم في الميدان أيّاً من أهداف الحرب المعلنة، بل لم تتمكّن من تحقيق الأهداف غير المعلنة، وهي الإبادة الجماعية إلّا بثمنٍ سياسي باهظ، حيث ظهرت الولايات المتحدة جرّاء تأييدها التام لهذه الأهداف كدولة داعمة للإبادة الجماعية، بل وتلطّخت الأيادي الغربية كلّها بالدماء الفلسطينية، هذا إضافةً إلى فشل التهجير الجماعي المعلن إلى خارج قطاع غزة.
عندما وصلنا إلى الاستنتاج بأنّ إسرائيل قد فشلت في كلّ ذلك، وبعد كلّ هذه التمديدات، ومع الدخول في مرحلة الانتخابات، ومع انفجار “الانتفاضة الطلابية” أصبح خيار استمرار الحرب مستحيلاً بالقراءة السياسية، وأصبح “خيار” الدخول إلى رفح فخّاً سياسياً أخطر على الإدارة الأميركية مما هو على إسرائيل، وأصبح الذهاب إلى الصفقة حتمياً.. لاحظوا كيف حُشروا!
من هنا، ومهما كانت التقديرات متباينة حول هذه الحرب من حيث الدوافع والسياق، ومن حيث دقة الأهداف، وصحّة توقّعات الأطراف التي خاضتها، وتواصل خوضها، إلّا أنّ النتائج التي انتهت إليها حتى الآن واضحة وضوح الشمس، من حيث أنّ الفشل الإسرائيلي هو الذي جعل منها الخيار الوحيد الممكن إذا أرادت إسرائيل أن لا تقامر بوجودها كلّه، وإذا أرادت الولايات المتحدة أن “تنقذ” نفسها من إعلان هزيمة إستراتيجية في كامل الإقليم.
لا يمكن الوثوق بأيّ رأي يحاول، أو سيحاول القفز عن هذا الاستنتاج، ولا يمكن لأيّ مكابرة أن تعفي أصحابها من خطيئة القراءة الفاشلة.
والسؤال الآن: كيف سيكون وقع الصفقة على إسرائيل؟
في أغلب الظنّ أنّ نتنياهو الآن يعيش يوم الاستحقاق الكبير، لكنّه لن يسلّم بهذا الواقع، وسيدّعي أنّ الحرب ما زالت مستمرّة، وأنّ الصفقة ليست سوى هدنة مؤقّتة، وأنّ اجتياح رفح قادم على كلّ حال، وأنّ إسرائيل من أجل ــ إنقاذ الأسرى ــ قبلت بهذه الهدنة المؤقّتة لكي تعيد تنظيم عدوانها “الكاسح” الذي سيؤمّن لها “النصر الكامل”.
هذا مؤكّد ومعروف، وليس لدى نتنياهو ما يقوله غير مثل هذه الخطابات. “مغامرة” القبول بالصفقة، وهي إجبارية في الواقع، ولم يذهب إليها إلّا صاغراً، وليس أمامه من فرصةٍ إلّا أن يكون صاغراً، مغامرة الصفقة هذه يمكن أن تؤدّي إلى سقوط حكومته الفاشية إذا رفضها إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، وأطاحا بالحكومة بسبب قبول نتنياهو بها.
لكن “اليمين” الفاشي الذي تمادى كثيراً بالتهديد، ووصل الأمر إلى إهانة نتنياهو بصورةٍ صلفة من قبل بن غفير في واقعة ما كانت لتحدث مطلقاً في أيّ زمن، وذلك بالنظر إلى ما كان يتمتع به نتنياهو من مهابة وعنجهية.
هذا “اليمين” الذي تمادى في التهديد، وأوصل الأمور إلى حافّة الهاوية لا يمكن الوثوق “بصدق” نواياه الحقيقية، وقد يظهر بمظهر الكاذب، والمخادع بل وحتى الجبان إذا عاد عن كلّ هذه التهديدات.
وإذا ما قُدّر، وتم الإعلان عن الصفقة في الساعات، أو الأيّام القليلة القادمة فإنّ هذا “اليمين” الفاشي يكون قد دخل إلى أعمق أزمةٍ تتعلّق بكامل مستقبله السياسي في إسرائيل.
فمن سيصدّق هذا “اليمين” الفاشي بعد اليوم إذا تراجع عن تهديداته؟ ومن سيضمن لهذا “اليمين” عودةً جدّية إلى الحلبة السياسية في حال إن جرت انتخابات مبكرة في إسرائيل؟ أو من سيضمن لهم مشاركة فاعلة في حكومة من المستوطنين وعُتاة العنصريين المتطرّفين؟
وإلى متى سيظلّ نتنياهو يخضع لهذا الابتزاز الرخيص إذا ما بات مُرغماً على الصفقة، وأصبح مُرغماً، أيضاً، على البحث عن تحالفات، أو مناورات جديدة لمنع إجراء الانتخابات المبكّرة، أو للبقاء بدعمٍ من قوى جديدة، سواء بصورة مباشرة، أو بصورة غير مباشرة. وهل ستؤمّن “المعارضة” له “شبكة الأمان” في حال نفّذ “اليمين” هذه التهديدات؟
فإذا بقي “اليمين” الفاشي في نفس الائتلاف، وفي نفس الحكومة “ولَحَس” كلّ تهديداته، و”تأجّلت” حرب الإبادة الجماعية والتجويع إلى ما بعد الانتخابات الأميركية فعلى ماذا سيعتاش هذا “اليمين” الفاشي طالما أن الحرب انتهت بالفشل، وخسرت إسرائيل قوّة ردعها، وتراجعت هيبة جيشها، وبعد خراب اقتصادها لسنوات طويلة قادمة، وطالما لحق بها هذا العار، وتلطّخت سمعتها، وتحولت إلى دولة مارقة وفاشلة ومجرمة، وطالما أنّ شعوب الأرض تلاحقها، ومؤسّسات القانون الدولي والإنساني تتوعّدها، وطالما أنّ الحلف الذي ساندها بات يتنصّل شيئاً فشيئاً من تبعات هذا الفش؟
هذا “اليمين” الفاشي والعنصري ليس أمامه سوى الهجوم الكاسح على الضفة الغربية والقدس. أمّا إذا خرج هذا “اليمين” من الحكومة والائتلاف فليس أمامه سوى أن يعيد تشكيل نفسه مع كلّ العنصريين والمتطرّفين في دولة الاحتلال ويذهب إلى نفس الاتجاه نحو الضفة والقدس.
وستنقل الحرب على الشعب الفلسطيني من مرحلة إلى مرحلة جديدة من الاستيطان والتهويد والقتل الهمجي للمدنيين الفلسطينيين بهجماتٍ كبيرة ومنظّمة من قبل تشكيلات مسلّحة كبيرة من المستوطنين، بحماية الشرطة والجيش.
“اليمين” الفاشي وعصابات الاستيطان المسلّحة ليس لهم أيّ مستقبلٍ سياسي من دون هذه الإستراتيجية، وأحزاب “اليمين” بكلّ أنواعها في إسرائيل ليس أمامها إلّا دعم هذه الإستراتيجية، والحرب في هذه الحالة ستمتدّ في كلّ فلسطين بوسائل جديدة.
هذه الحرب ستلقى نفس مصير حرب الإبادة والإجرام التي شُنت وما زالت تُشنّ على قطاع غزة، مع فارق كبير وهو أنّ هذه الحرب ليس لها من يدعمها في هذا العالم، وستفاقم من الأزمة الداخلية في إسرائيل، في ظروف العزلة السياسية، وفي ظلّ مطاردة مؤسسات القانون الدولي لها، وفي ظل واقع إقليمي يرفضها، وستحوّل هذه الحرب مكانة دولة الاحتلال ودورها وكامل وظيفتها إلى الدرك الأسفل من كامل تاريخ خلقها.
هذه حرب ليس لها داعمون، ولا حلفاء، ولا مساندة، وليس من نتائج ملموسة لها سوى خروج إسرائيل من حالة الاحتضان لها إلى حالة التشكيك بجدواها، وبضرورة المحافظة عليها بأيّ ثمن، في ظل الانفصال عن “قيم” “الغرب” ومصالحه.
و”الغرب” سيكون مُجبراً عند درجة معيّنة من هذه الحرب الجديدة، إمّا أن يجدّد مشروعه، ويُحدث التغيير المطلوب في الحالة الإسرائيلية، أو ينأى بنفسه عن هذه الحرب الإجرامية، ويترك إسرائيل لمصيرها، وفي الحالتين ستكون هزيمة المشروع الصهيوني مؤكّدة. لقد حُشر تماماً وضاقت به السُّبُل.