عبد المجيد سويلم: أسئلة الحرب المعلّقة: المناقشات
طرحنا في المقال الافتتاحي “أسئلة الحرب المعلّقة” وُجهَتَيّ النظر حول الموقف من هذه الحرب باختصارٍ وتكثيفٍ شديدَين على وعدٍ وأملٍ بأن تتمّ في عدّة مقالات لاحقة المناقشة المستفيضة لهما، وعلى أن نحاول إعطاء كلّ واحدة منهما حقّها الكامل والمستوفى من العرض والمناقشة، وعلّ مثل هذا النقاش أن يساهم في إثراء الحوار حول حربٍ كانت وما زالت فاصلة ومصيرية، وتحملُ في طيّاتها الكثير الكثير من المعالم والسمات الوجودية.
وعندما نثير مثل هذا النقاش، ويحدونا الأمل بأن يتحوّل إلى حوار حقيقي، مخلص وصادق، ولا يضع نُصب عينَيه أوّلاً وأخيراً، سوى البحث الدائم عن أهمّ قيمة إنسانية، وهي قيمة البحث عن الحقيقة – مهما كانت نسبية – فإنّنا بذلك لا نستبعد وجهة النظر الثالثة، والتي لا ترى في كلا وجهتَيّ النظر حقيقة كاملة ومكرّسة، بل ترى أن أحقّيات كثيرة توجد فعلاً، هنا وهناك، ولكننا في نهاية المطاف – مع أنّنا لا نودّ استبعادها – أي “وجهة النظر الثالثة”، نرى الوقوف في منطقة الوسط كمنطقة “مثمرة، وخصبة” للحوار مسألة مشكوكاً في جدواها لأسباب معروفة في حالات كهذه التي لا تحتمل التوفيق والتوليف لأنّها – أي الحالات – هي من النوع الذي ينطبق عليها القول المعروف: إن [المرأة لا يمكن أن تكون نصف حامل]، أو القول: إنّ المصباح الكهربائي لا يمكنه إلّا أن يكون إمّا مُضاءً أو مطفأً، وليس هناك أي مجال للمنطقة الوسط.
والآن لنبدأ بالمناقشة:
يرى أصحاب نظرية مغامرة حركة “حماس” غير المحسوبة أنها قد تخطّت في إطار وسياق الحسابات الخاطئة والمشوّشة، بل وربما الموهومة، أيضاً، ثلاث حقائق كبيرة تجعل ما أقدمت عليه في 7 تشرين الأوّل/ أكتوبر الماضي أخطر وأكبر مغامرة يقدم عليها فريق فلسطيني منذ النكبة وحتى يومنا هذا.
الحقيقة الأولى والصارخة من وجهة نظر هذا الفريق أن الإقدام على عمل كبير وهائل، وعلى هذه الدرجة من الاستهداف وهذا المستوى من الاجتياح الجغرافي، وعلى هذا القدر من الاتساع، وبمثل هذا الحجم الهائل من المقاتلين، وإلى هذا الحدّ من المباغتة وإحداث الصدمة والذهول، وبهذه الدرجة من مشهدية “الإذلال وتمريغ أنف الاحتلال بالتراب”، كان يتطلّب من قيادة “حماس” إدراك ردّة الفعل الإسرائيلية، والتي ستفوق كلّ تصوّر سابق ومسبق، خصوصاً وأنّها – أي الدولة العبرية – التي كانت قد بدأت “مسار” حسم الصراع، وكانت تعيش زهوّ انتعاشها في أجواء التطبيع العربي معها، وكانت تعتبر أنّ القضية الفلسطينية في “غرفة الإنعاش”، وأنّ “السلام الاقتصادي” المزعوم بات هو المتداول الأقوى في السوق السياسية.. ولذلك فإنّ الإقدام على عمل بهذه القوة، وبهذه الضخامة، وعلى هذا القدر من الإذلال لجيش الاحتلال والمستوطنين، كان يتطلّب إدراك التبعات الكارثية لردّة الفعل الإسرائيلية؛ خصوصاً أنّ أهل القطاع يعيشون في غالبيتهم الساحقة تحت خطّ الفقر، وتحت أقسى ظروف الحصار وضنك العيش، وليس لديهم ما يحتمون به ضد الإجرام الإسرائيلي الذي كان سيكون همجياً وقاسياً وتدميرياً على كل صعيد.
والحقيقة الثانية من وجهة نظر أصحاب نظرية المغامرة أنّ “حماس” راهنت على واقع عربي وإسلامي متهالك، وهو يرى في غالبيته وجودها في القطاع كصداع سياسي، وليس كحالة مقاومة تستدعي الدعم والإسناد، كما راهنت “حماس” على “محور إيراني” لا ينظر إلى وجودها في القطاع إلّا بكونها أكبر وأهمّ حركة سنّية يغطّي بها على واقع الاصطفاف “المذهبي” لهذا “المحور”، وأنّ أقصى ما يمكن أن يذهب إليه هذا “المحور” هو “مشاركات” رفع العتب، ومناوشات لا يمكنها أن تغيّر في معادلة الصراع ميدانياً أيّ شيء جوهري، وأنّ الارتهان إلى هكذا “محور” هو مغامرة سياسية “قاتلة” ومغامرة ميدانية أقرب إلى الجنون.
يضاف إلى ذلك أنّ ميزان القوة الدولي يشي ويشير إلى تبنّي “الغرب” وتعايشه مع ما هو متداول من “سلام اقتصادي”، وأنّ التمسّك “بالدولة” الفلسطينية من جانب الاتحاد الأوروبي، ومعظم بلاد “الغرب”، ليس في سياق الاختلاف مع الرؤية الأميركية والإسرائيلية، وإنّما في إطار وسياق التوافق العملي معها والتعايش معها، واللحاق بها ليبقى شعار “حل الدولتين” مجرّد “لازمة” سياسية في “أُنشودة” الحل السياسي.
ويستدلّ هؤلاء في قراءة ميزان القوى الدولي أنّ الولايات المتحدة، ومعها “الغرب” كلّه، ومعها بعض الدول العربية النافذة والكبيرة، وبعض الدول الصاعدة، خصوصاً الهند، قد ركبت سفينة “الغرب” في مؤتمر “دول العشرين” عندما توافق الجميع على بناء الخط البرّي والبحري الذي سيقوّض “طريق الحرير” الصيني، وأنّه بسبب إخفاقات “الغرب” في الحرب الأوكرانية بالذات، عادت الولايات المتحدة إلى إقليم الشرق الأوسط، وهي تراهن على “التطبيع” العربي لإعادة دمج دولة الاحتلال في كامل الإقليم، وعهدت إليها بالذات بالدور الاقتصادي والأمني الأكبر، ما يعني أنّ الولايات المتحدة، و”الغرب” كلّه سيدعمون دولة الاحتلال إلى أقصى الحدود في تدمير القطاع، وفي تصفية المقاومة فيه تحت ذرائع ما قامت به “حماس” في 7 تشرين الأوّل/ أكتوبر بـ”طوفان الأقصى”، وهذا كلّه يعكس قراءة مراهقة لتوازنات القوى الدولية، ومصالحها ومواقعها ومواقفها.
أمّا الحقيقة الثالثة فهي كما يرى أصحاب هذه النظرية حول الحسابات المغامرة لـ”حماس” تلك التي تتعلّق بحالة الانقسام الداخلي، واستمرار ضغط هذه الحالة على حالة النهوض والاستنهاض الوطني، وعلى تآكل حالة الكيانية الوطنية في ضوء هذا الانقسام، وفي ضوء درجة التهميش التي وصلت إليها هذه الكيانية على صعيد ضعف وتهالك منظمة التحرير الفلسطينية التي هي المؤسّسة الأمّ في هذه الكيانية، وإلى إنهاك السلطة الوطنية الفلسطينية نفسها سواء على أيدي الاحتلال، أو على أيدي أهلها وأصحابها من خلال الإمعان في سياسة تهميشها، وسياسات تهميش المؤسسات الوطنية كلّها، وسياسات الاستفراد والتفرُّد على كلّ مستوى، وعلى كلّ صعيد تحت مبرّرات وذرائع مختلفة.
والمحصّلة على مستوى هذه الحقيقة أنّ “طوفان الأقصى” قد ألحق ضرراً بالغاً بالكيانية الوطنية، وقد تكون من نتائج هذه “المغامرة” التي أقدمت عليها “حماس” ليس فقط تشريد مئات الآلاف أو ربما الملايين، وإنّما إنهاء هذه الكيانية الوطنية وبعثرتها، وتشتيتها، وتقويض كلّ أهمية لها.
وفي المحصّلة العامة لهذه الحقائق الثلاث فنحن أمام مغامرة على أعلى درجات الخطورة على واقع ومستقبل الكفاح الوطني، وقدرة شعبنا على البقاء والصمود، وقد نكون أمام كارثة وطنية ساحقة وماحقة، أكبر أثراً، وأبعد وأعمق ما ألحقته النكبة الأولى كما يرى أصحاب هذه النظرية، بصرف النظر عن تموضعاتهم في إطار “الرسميات الفلسطينية” أو في عموم المجتمع ومنظماته وتشكيلاته، وحيث تتراوح وجهات النظر هنا بين من تصل به الأمور إلى حدّ التشكيك بكامل رواية “الطوفان”، ويرى فيها جزءاً من “مؤامرة” على القضية الوطنية، وبين من لا يرى ذلك، ولكنه لا يختلف في جوهر النتائج التي يمكن أن تترتّب على هذه “المغامرة”.
والآن ما حقيقة هذه “الحقائق” الثلاث؟ وهل هي بالفعل تساوي وتوازي نظرية المغامرة غير المحسوبة والمشوّشة والموهومة؟ وحول “الحقيقة” الأولى هناك عدّة أسئلة معلّقة لم تُجب عنها نظرية “المغامرة”، وأحسب أنّها مع الأسف لا تمتلك مثل هذه الأجوبة.
كيف لحركة مقاومة أن تمتلك هذا القدر الهائل من القدرة على التخطيط والإعداد والتجهيز، وأن تُحدث هذا المشهد المذهل من الصدمة، والمباغتة، وأن تتخفّى لسنواتٍ عدّة في هذا كلّه، ولا يكون لها وعندها من القدرة على قراءة ردود الفعل من جانب الاحتلال؟
فقد ثبت من اللحظات الأولى للعملية أنّ عنصر الارتجال والعفوية الوحيد هو عنصر دخول “المدنيين” على خطّ العبور، وكان من المستحيل منع ذلك في ظروف الانقضاض، وكان الوقت باكراً، ولم يكن باستطاعة المقاومين فعل أيّ شيء حيالهم.
وعندما نتحدث عن تفاصيل الساعات التي استغرقها الهجوم، نلاحظ أنّ العملية كانت في غاية الدقّة والإتقان.
اختفاء الأسرى الإسرائيليين من الساعات الأولى وحتى يومنا هذا يعني أنّ التخطيط هو على أعلى درجات الدقّة.
القتال الاستنزافي سار حتى الآن بوتائر تفوق كلّ تصوّر وتوقّع، وهو على أبواب مرور سنة كاملة من القتال، وهي الحرب الأطول في تاريخ الصراع مع المشروع الصهيوني، والحرب الأكبر التي ألحقت بدولة الاحتلال خسائر بشرية وعسكرية لم تخسرها في كلّ حروبها السابقة بالمقارنة النسبية، وربما المطلقة، أيضاً.
لم تتمكّن دولة الاحتلال من تحقيق أيّ أهداف عسكرية يعتدّ بها حتى الآن رغم كل ما أعطيت القوات الإسرائيلية من حرية مطلقة بالقتل والتدمير، وأيضاً رغم ما أعطيت من وقت طال واستطال، فعاودت الاستطالة دون أيّ نتيجة جوهرية واحدة، وهي حتى الآن تستطيع أن تتحدّث عن سيطرة لا تزيد على 27% من مساحة القطاع، كحيّز تستقرّ فيه قواتها العسكرية.
وقد ضربت لجيش الاحتلال ألوية وكتائب كاملة، ودمّرت له العديد من الدبابات والعربات والجرافات والمعدات. ورغم تزويد هذه القوات بأسلحة أميركية تدميرية تمّت الإجازة الأميركية باستخدامها للمرّة الأولى في التاريخ العسكري.
ليس هذا فقط، فإنّ دولة الاحتلال، وكذلك أجهزة المخابرات الأميركية و”الغربية” تقول إنّ قوة “حماس” البشرية عادت لتكون أقوى مما كانت عليه، وباتت تقترح ألا تتولى توزيع المساعدات في مؤشّر مفحم حول تواجد، وحول إعادة بناء قواتها، بعد كلّ هذا القتال على مدار عام كامل.
فهل يُعقل أنّ القدرة على هذه الدرجة من التخطيط والمرونة والمناورة هي مجرّد صُدَف، وهل يُعقل أن يتم ذلك كلّه بمعزل عن درجة عالية من الإعداد والتخطيط والتجهيز؟
في الحلقة، أو المقالة القادمة، سنناقش ردود الفعل الإسرائيلية في قتل واستهداف المدنيين وعلاقة كلّ ذلك بنظرية المغامرة، وهي المسألة والأهمّ في هذه النظرية، بعد أن نعرض حقيقة الهزيمة التي تتعرّض لها القوات الإسرائيلية على لسان من لا يمكن اعتبار آرائهم دعاية سياسية.