طوني فرنسيس: هدنة في غزة تعفي طهران من مأزق الرد؟
طوني فرنسيس 8-4-2024: هدنة في غزة تعفي طهران من مأزق الرد؟
قد يتيح التسهيل المستجد للمفاوضات برعاية أميركية لصيقة، هدنة ما في غزة عشية عيد الفطر، تكون فرصة للجميع للنزول عن شجرة الحرب المفتوحة والرد المزلزل أو المساندة المكلفة، وتوفر في الوقت نفسه لإيران والوكلاء فرصة الاحتفال بتحقيق وقف النار الذي سيكون الجنرال زاهدي دفع حياته ثمناً له.
هل يكون التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في غزة بديلاً عن تصعيد إيراني ضد إسرائيل، رداً على هجومها على القنصلية الإيرانية في دمشق واغتيالها قائد الحرس الثوري في سوريا ولبنان مع مساعديه؟ أم أن الضربة الإيرانية أمر لا مفر منه حفظاً لماء وجه صاحب “محور المقاومة والممانعة” الإيراني؟ وما شكل وحدود تلك الضربة وأين ومتى وإلى ما هناك من أسئلة؟.
لا يمكن استبعاد الفرضيتين معاً إذا أخذنا في الاعتبار أن التواصل الإيراني- الأميركي لم ينقطع وأن الهاجس الإيراني في الأساس ليس إسرائيل، على رغم رفع طهران شعار أولوية وقف الحرب في غزة مرفقاً بخطاب “الإزالة من الوجود” الموجه ضدها، وإنما الوصول إلى تفاهمات مع الأميركيين في شأن استمرار النظام وتكريم نفوذه في الإقليم العربي.
بعد ساعات قليلة من الهجوم على القنصلية مساء الإثنين الماضي كان وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبداللهيان يستعجل إيصال “رسالة مهمة” إلى الإدارة الأميركية عبر السفارة السويسرية في العاصمة الإيرانية، وفيها بحسب محمد جمشيدي مساعد مدير مكتب الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، تحذير من إيران إلى أميركا “من الوقوع في فخ نتنياهو” الذي يريد جر المنطقة إلى مواجهة مفتوحة، وإبلاغها بأن تتنحى جانباً “كي لا تتعرض لضربة”.
وبحسب المسؤول الإيراني، طلبت أميركا في جوابها “عدم ضرب أهداف أميركية”، والمتحدثون الرسميون الأميركيون أكدوا تلقي الرسالة وأبلغوا الإيرانيين أن لا علاقة لهم بغارة القنصلية، وحذروهم من استخدامها كذريعة لمهاجمة مصالحهم وقواتهم في المنطقة، “لا تفكروا في ذلك” أبلغت واشنطن طهران، ثم تشاورت مع إسرائيل ووضعت قواتها “في حال تأهب قصوى”.
مضى أسبوع على هجوم دمشق، استنفدت خلاله القيادة الإيرانية مخزونها الكلامي عن “الرد في المكان والزمان المناسبين”، مع تأكيدها على حتمية هذا الرد وقولها إن إسرائيل انتهت أو هي في طريقها إلى الزوال.
عينة من تصريحات القادة الإيرانيين تفصح عن ذلك:
قال المرشد علي خامنئي، “سنجعلهم يندمون على أيدي رجالنا الأبطال”، ومستشاره علي شمخاني أكمل أن “الكيان (الصهيوني) بوصفه جيش الوكالة عن أميركا ارتكب حماقة ولا بد من أن يدفع الثمن”. وقال الرئيس إبراهيم رئيسي إن “الجريمة لن تبقى من دون رد”، وزاد عليه اللواء يحيى صفوي مستشار المرشد أن “العقوبة مؤكدة ولا يمكن تجاهلها”، وذهب مسؤولون آخرون إلى شعارات حاسمة، فرئيس السلطة القضائية رأى أن “الكيان (إسرائيل) يقضي أيامه الأخيرة”، وزاد عليه المتحدث باسم “الحرس الثوري” العميد رمضان شريف أن “الكيان تفكك عملياً”، قبل أن يحسم قائد الحرس اللواء حسين سلامي في “يوم القدس” أن “انهيار الكيان أصبح وشيكاً جداً” ليضيف جملة لافتة عندما ربط هذا الانهيار الوشيك باستمرار الحرب في غزة، حيث “سيضطر في النهاية إلى الاستسلام”.
استغرق الانتقام الإيراني لتفجيرات كرمان في ذكرى قاسم سليماني مطلع هذا العام نحو أسبوعين، قبل أن يقوم “الحرس الثوري” بعمليات بقصف في دولتي “الممانعة” العراق وسوريا، وفي باكستان التي عاجلت بالرد بالمثل. ومع أن إيران اتهمت إسرائيل وأميركا في تلك الواقعة، على رغم إعلان “داعش- خراسان” مسؤوليته عنها، إلا أنها ارتأت الرد في سوريا والعراق على مواقع صنفتها إرهابية، واكتفت في ما يتعلق بإسرائيل بتكليف وكلائها مشاغلة هذه الأخيرة من جنوب لبنان وجنوب البحر الأحمر.
اليوم لا تحتمل الضربة على القنصلية الإيرانية وحجم الخسائر البشرية الكبير فيها ترف النأي بالنفس والاكتفاء بحروب الوكلاء، أو إغارة على التنف وحقل كونيكو، فالأرض الإيرانية نفسها تعرضت للاستباحة (القنصلية) والخسائر في الجنرالات تتراكم ضمن مهلة زمنية قصيرة، من مسؤول استخبارات “الحرس الثوري” في سوريا صادق أوميد زادة إلى القيادي البارز رضي موسوي وأخيراً الجنرالان محمد رضا زاهدي قائد فيلق القدس في سوريا ولبنان ومحمد حاجي رحيمي ومعهما خمسة من الضباط الآخرين.
لذلك فالتهديد الإيراني بضربة مقابلة يبدو مفهوماً، ويتوقع الإسرائيليون ومعهم الأميركيون حصولها، وربما تكون الأيام الفاصلة فرصة لاتصالات ما تحدد حجم هذه الضربة وتوقيتها، تماماً كما حصل في الرد الإيراني على اغتيال سليماني، عندما أبلغت طهران إدارة دونالد ترمب مسبقاً بالهجوم على قاعدة عين الأسد العراقية.
في السياقات العامة لنزاعات المنطقة ترتاح إيران إلى قيادتها من بعد لحرب المشاغلة مع إسرائيل وأميركا، عبر الحوثي في اليمن و”حزب الله” في لبنان و”المقاومة الإسلامية” في العراق، وهي لا تخفي “سلطتها” على حركتي “حماس” و”الجهاد” في غزة، وهي التي استضافت قيادتهما أثناء الغارة على العاصمة السورية، كما أن سير المعارك التدميرية في القطاع يفتح شهيتها على التلاعب بساحات أخرى، وظهرت بوادر من هذا النوع في الأردن، حيث تتهم بتشجيع الفوضى والتحريض على حمل السلاح، فالفوضى غالباً ما كانت مدخل إيران إلى دول عربية أخرى والنماذج ليست قليلة، من لبنان إلى سوريا والعراق، مروراً بالبحرين ووصولاً إلى اليمن، والآن الأردن.
في غزة وفلسطين تخوض إيران معركتها بين حدي المقاومة والفوضى، والجنرال زاهدي كان كما يقول قادة “الجهاد” ومسؤولون إيرانيون، شريكاً ومنظماً وقائداً في عملية “طوفان الأقصى” التي أسفرت عن الواقع القائم حالياً في القطاع، فإذا صح ذلك تكون إسرائيل باغتياله واصلت حربها المفتوحة في غزة نفسها ضد كل هؤلاء الذين أسهموا في ضرب صورة أمنها في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 وما تلاه، وقدمت لإيران فرصة للقول إن جنرالاتها يموتون دفاعاً عن غزة وفلسطين.
لكن لقول ذلك لا بد من فرصة، لن يوفرها هجوم إيراني ساحق ينطلق من الأراضي الإيرانية، ولا تكليف شرعي للوكلاء بتصعيد هجماتهم، ففي الحالين ينتصر إمكان نشوب حرب شاملة تقف فيها أميركا ودول غربية إلى جانب إسرائيل، وتتعرض خلالها إيران نفسها لضربات مدمرة تهدد النظام القائم الذي يستند في شرعيته إلى تصويت ضئيل عبرت عنه الانتخابات النيابية الأخيرة، فيما يتعرض الوكلاء بدورهم لخسائر حرصت إيران حتى الآن على تجنيبهم إياها.
ربما يكون المخرج الملائم للجميع في لحظة المأزق الراهنة ما تسعى إليه الولايات المتحدة بقوة من وقف للنار في غزة يتيح تبادل الأسرى وتعزيز الدعم الإنساني لسكان القطاع، ولقد عملت الإدارة الأميركية بنشاط على هذا المسار في أعقاب غارة دمشق، وبدا الرئيس جو بايدن حاسماً في اتصاله الأخير مع بنيامين نتنياهو بدعوته إلى وقف النار وتسهيل وصول المساعدات، فتم على الفور فتح معبر جديد لقوات التموين وعاد الوفد الإسرائيلي إلى مفاوضات القاهرة، ومثله قررت “حماس” المشاركة بعد غياب، وسارعت الإدارة الأميركية إلى الإعلان عن حضور مدير الاستخبارات الأميركية وليام بيرنز إلى العاصمة المصرية.
قد يتيح هذا التسهيل المستجد للمفاوضات برعاية أميركية لصيقة، هدنة ما في غزة عشية عيد الفطر، تكون فرصة للجميع للنزول عن شجرة الحرب المفتوحة والرد المزلزل أو المساندة المكلفة، وتوفر في الوقت نفسه لإيران والوكلاء فرصة الاحتفال بتحقيق وقف النار الذي سيكون الجنرال زاهدي دفع حياته ثمناً له، وفي ذلك تعويض موقت لإيران ووكلائها في محطة لا بد من أن تفتح الباب على مسارات أخرى، مهمتها الأولى ليست إرضاء إيران ولا السكوت على سياسة الاحتلال، وإنما إنجاز حل حقيقي لقضية الشعب الفلسطيني.