التوازن الروسي الهش
أنديرس أوسلوند* موسكو- 21/2/2017
بعد انكماش اقتصادي استمر أكثر من عامين، يبدو أن روسيا قد حققت بعض مظاهر الاستقرار. ورغم أن النمو الاقتصادي للعام 2017 من المتوقع أن يبلغ 1 % فقط، فقد تبخرت كل المخاوف المتعلقة بزعزعة الاستقرار الاقتصادي والتي انتشرت في البلاد منذ الغزو الروسي للقرم في العام 2014 -الذي واجهه الغرب بفرض عقوبات شديدة على روسيا. ويبدو أن الجمع بين التفاؤل في مجال السياسة الخارجية وتوفير أسباب الراحة المادية للروس والقمع الداخلي أكسير قوي المفعول.
تماماً كما كان الحال في عصر ليونيد بريجينيف، تُلقي السياسة الخارجية بظلالها الكثيفة على السياسة الداخلية. ومع ذلك، وخلافاً لعصر بريجينيف، تبدو الآفاق الروسية واعدة. فقد أعلن الرئيس الأميركي صراحة رغبته في تحسين العلاقات مع الكرملين، وسيلتقي كما قيل بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في شهر حزيران (يونيو) المقبل.
وقد تصب انتخابات الرئاسة الفرنسية، المقرر إجراؤها في شهر نيسان (أبريل) أيضاً في صالح روسيا. فمرشح يمين الوسط، فرانسوا فيون، ومرشحة اليمين المتطرف، مارين لوبان، صديقان حميمان لبوتين، رغم أن مرشح الوسط إيمانويل ماكرون، وهو ليس صديقاً لبوتين، يتطلع هو الآخر للفوز في الانتخابات.
أما انتخابات الرئاسة الروسية، المقرر إجراؤها في شهر آذار (مارس)، فلا تتسم بهذا الطابع المصيري الحاد؛ حيث من غير المتوقع أن تأتي بأي تغيير، فسيُعاد انتخاب
بوتين رئيساً وسيظل دمتري ميدفيدوف رئيساً للوزراء. ويبدو أن هذا مقبول من جانب معظم الروس، أو في أقل تقدير من جانب المُرَفَهين من سكان موسكو.
ولم تكن البنية التحتية لموسكو أبداً أفضل حالاً مما هي عليه الآن: حيث تتباهى المدينة بشبكة مترو رفيعة الأداء تم توسيعها مؤخراً وبمطارات حديثة ونظيفة وعالية الكفاءة. وأعيد النظام حتى إلى مواقف السيارات التي كانت في السابق غارقة في فوضى، وبانتشار خدمات استئجار السيارات بسرعة وبأسعار منخفضة انخفضت الحاجة إلى مواقف سيارات. ويمكن للمقيمين في المدينة الآن زيارة متاجر تسوق فاخرة وجيدة، وشراء أي أطعمة يشتهونها (باستثناء الجبن الأوروبي) من محلات بقالة راقية.
لا شك أن هناك من الروس من هم غير راضين عن الأوضاع الراهنة، مثل ممارسات جهاز الأمن الاتحادي هائل البأس -من بين أمور أخرى. وقد خفضت مؤسسة فريدوم هاوس مؤخراً مكانة روسيا من حيث توفر الحقوق السياسية إلى أدنى مستوى ممكن.
خيم شبح القمع بوضوح على أعمال منتدى جيدار في الشهر المنصرم، وهو منتدى تنظمه سنوياً الأكاديمية الرئاسية الروسية للاقتصاد الوطني والإدارة العامة، ويسمى جيدار تكريماً لإيغور جيدار الاقتصادي والسياسي والمؤلف الروسي ورئيس الوزراء إبان حكم الرئيس يلتسن. ويجتمع في المنتدى سنوياً آلاف من علماء الاجتماع الروس ومئات العلماء الأجانب طوال ثلاثة أيام لمناقشة السياسة الاقتصادية.
ويَظْهَر وزراء الحكومة في اجتماعات النقاش هذه مسترخيين منفتحين وأكفياء، لكن حريصين على تجنب الإدلاء بتصريحات صارخة. وهذا العام، جرى التطرق إلى المشاكل الجوهرية التي تعاني منها روسيا -كغياب حقوق الملكية العقارية ودور
القانون والديمقراطية- بشكل رئيسي من جانب وزير المالية السابق ألكسي كوردين، ولكن برفق وبشكل عابر. وكُرِّسَت كالعادة معظم لقاءات النقاش لتناول تفاصيل سياسات الاقتصاد الكلي الكفء للبلاد. أما المؤسسة الاقتصادية الروسية العملاقة فظلت بعيدة للغاية عن إثارة أي ضجيج بشأنها.
وبينما قد لا ينطوي موقف الوزراء على أي جديد، فقد بعثت منتديات جيدار السابقة الأمل -إن لم يكن الترقب والتطلع- في بلورة بعض التحدي للنخبة الحاكمة. ويشارك الاقتصاديون الأكاديميون من موسكو باهتمام في المنتدى كل عام آملين سماع شيء راديكالي، أو حتى شيء يتسم ببعض الجرأة، برغم أنهم أنفسهم غير راغبين في التحدي.
وفي منتدى العام المنصرم، تصورت لجنة مؤلفة من عشرة من أبرز المحللين السياسيين الليبراليين الروس -إحدى الآليات المنتظمة لعمل المنتدى، والتي أشارك فيها- أن شيئاً من التحدي في سبيله للظهور. بل إن بعض أعضاء اللجنة قد تنبأ حتى بنشوء بعض التحدي للنظام- قائلين إن عضوا من المعارضة قد يتم انتخابه في الدوما (البرلمان)، أو أن الصعوبات الاقتصادية قد تفضي إلى اضطرابات اجتماعية.
ولم تتحقق أي من هذه التوقعات. وشاركت قلة من الليبراليين الروس ذوي التوجه الأوروبي في التصويت في انتخابات الدوما، وأبدى المحافظون من جنوب وشرق البلاد قدرا أكبر جدا من الحماس للمشاركة في الانتخابات. أما لجنتنا، فيبدو أنها قد بالغت في تقدير تأثير النتائج الاقتصادية وقللت من تأثير دور الحرب والقمع في تعزيز وحدة القوى الداعمة لبوتين وسلاطينه الإقليميين.
وفي الحقيقة، فالشعور المهيمن في أوساط الروس هو أن غزو بوتين لأوكرانيا وضمه للقرم كان أمراً مفيداً لروسيا. كان “ضربة معلم” من جانب بوتين، فبتحويل أوكرانيا إلى عدو ضعيف تعصف به الصراعات تمكن بوتين من تخفيف حدة المشاعر المناصرة للديمقراطية في روسيا، والمستمدة جزئياً من تحرك أوكرانيا صوب الاتحاد الأوروبي، ومن إثارة النزعة القومية لدي الروس على حد سواء. وهناك تطور آخر في السياسة الخارجية ربما أفاد بوتين. فوفقا لتاتيانا فوروجيكينا الأستاذة بجامعة موسكو للعلوم الاجتماعية والاقتصادية منح تدمير روسيا لحلب نصراً آخر يروج به بوتين لنفسه. وإذا أضفنا إلى ذلك النفوذ المتزايد للشعبويين اليمينيين في الغرب -وهو أحد أعراض أزمة أكبر تعيشها الليبرالية- يُصبِح من السهل تصوير بوتين باعتباره الزعيم الذي تحتاجه البلاد.
في منتدى جيدار هذا العام، لم يتوقع أي من أعضاء لجنة النقاش شيئاً سوى الجمود في مجال السياسة ومزيد من القمع والانصياع التام. فقد وَحَّدَ نظام بوتين صفوفه حول العَلَم، واقتصرت الرغبة في تحدى الوضع القائم على حفنة صغيرة من الروس. بالتالي تعد الأحداث والعلاقات الخارجية -أي تلك المساحات التي لا يملك بوتين سيطرة كاملة عليها- المصادر الوحيدة المحتملة للتغيير. وتبدو روسيا، وهذه حالها، قوة تتمتع بمكانة جيوسياسية راسخة. بيد أن الأمور ليست دائماً كما تبدو عليه. فعلى سبيل المثال، ورغم أن دعم ترامب لعلاقات أوثق يبدو أمراً يصب في صالح روسيا، فإن أحد المقومات الرئيسية للنهج القومي الذي يتبناه بوتين هو قدرته على ترسيخ دراما الحرب الباردة. وهو لهذا السبب في احتياج إلى أن تكون الولايات المتحدة – والغرب بشكل عام- أعداء له. أما الوئام فقد يفضي إلى مشاكل بعيدة المدى بالنسبة لبوتين.
على المدى القصير، وكما صاغ المحلل السياسي الروسي المستقل دمتري أوريشكين الأمر في منتدى جيدار، فعلى الأرجح أن حدثاً مدوياً فارقاً يأتي من الخارج هو فقط ما من شأنه إحداث تغيير في روسيا. أما التوازن الجديد للبلاد فقد لا يكون جيداً، ولكنه يبدو في الوقت الراهن مستقراً.
*زميل رفيع في “مجلس الأطلسي” في واشنطن. مؤلف كتاب “تحدث النمو الأوروبي”.
*خاص بـ”الغد”، بالتعاون مع “بروجيكت سنديكيت”.