أقلام وأراء

هاني المصري: بعد ثلاثين عامًا على أوسلو إلى أين؟

هاني المصري 12-9-203: بعد ثلاثين عامًا على أوسلو إلى أين؟

في هذه الأيام من شهر أيلول 1993، تم التوقيع على اتفاق أوسلو، والأسئلة التي طرحت من ذلك الوقت لا تزال مطروحة، وتتم الإجابة عنها إجابات مختلفة.

فهناك من يرى أن أوسلو كان كارثة بدليل كل ما تعيشه القضية الفلسطينية الآن، وهناك من عدّه ممرًا إجباريًا، بحكم الظروف والعوامل العربية والدولية التي كانت قائمة حينذاك، ولا مفر من استمرار التمسك به إلى أن يتوفر بديل منه أفضل أو أقل سوءًا. وعند أصحاب هذا الرأي، لو لم توافق القيادة الفلسطينية على الانحناء، ريثما تمر العاصفة من خلال القبول بالمرّ لتجنب الأمر منه، لشطبت القضية الفلسطينية وأداة تجسيدها منظمة التحرير من الخريطة التي رسمت بعد انهيار الاتحاد السوفييتي والتضامن العربي، خصوصًا بعد احتلال العراق للكويت. وهذه الآراء مردود عليها ببساطة، فما الذي يمكن أن تكسبه إذا خسرت نفسك وما تكونه من دون مقابل من نفس الوزن والأهمية؟

لقد كانت الانتفاضة الأولى رافعة للنهوض الوطني، ولو لم يتم الإسراع باستثمارها لدرجة الاعتقاد أن الدولة على مرمى حجر، مثل الاعتقاد الآن لدى البعض بأن زوال إسرائيل لن يتجاوز سنوات قليلة، ولو لم يتم عدم الاهتمام الكلي باستثمارها لأن عدم الاستثمار لا يقل ضررًا عن الاستثمار المتسرع، وتم البناء عليها وتجديدها واستمرارها؛ لكانت أحوال الفلسطينيين جيدة، أو على الأقل ليست سيئة بقدر ما هي عليه الآن.

أنا وياسر عرفات وأوسلو

يوم 25 كانون الأول 1994؛ أي يوم عيد الميلاد، وبعد يوم واحد فقط من عودتي إلى أرض الوطن، سافرت أنا وأخي المرحوم سامر بسيارته الخاصة من نابلس إلى غزة للقاء الرئيس ياسر عرفات، وعندما وصلنا إلى مقره على شاطئ غزة، الذي يسمى “المنتدى”، سألني الحراس عن سبب طلب اللقاء، وتساءل أحدهم أَمِنْ أجل التقاط صورة معه؟ فقلت له: لا، وإنما من أجل الحوار معه حول أوسلو، فبعد أن سألوا المسؤولين عن مواعيد الرئيس قالوا: ستنتظران بعض الوقت. وبالفعل، بعد مرور نحو ساعتين أدخلوننا إلى غرفة صغيرة، وذهبوا، وكان فيها أبو عمار يصلي، وأخذ ينظر إلينا بعيون شاخصة متوجسًا منا إلى أن أنهى صلاته، وتساءلت وأخي كيف يسمحون بدخول اثنين، على الأقل واحد منهما، وهو أخي سامر، غير معروف سابقًا، أما أنا فسبق أن التقيت “الختيار” مرات عدة قبل هذا اللقاء، أما بعده فالتقيته مرات كثيرة.

التقيت أبو عمار في السابق مرات عدة، مرة في اجتماع للمجلس المركزي الذي عقد عشية اندلاع الانتفاضة المجيدة الأولى، ومرة ثانية أثناء اجتياح بيروت في العام 1982، عندما زارنا في الموقع العسكري تحت جسر الكولا، قائلًا: من الحمار الذي وضعكم في هذا المكان الميت الذي يتعرض للقذائف والصواريخ من دون القدرة على الرد أو فعل شيء؟ ومرة ثالثة وهو لم ينسني من بعدها أبدًا، وكان يقول عندما يذكر اسمي بعده وحتى رحيله بأن هاني هواه فلسطيني؛ أي ينطق ويكتب بما يراه وليس لحساب شخص أو حزب أو دولة أو عائلة أو جهاز أمني أو مكان جهوي، وكانت المقابلة أثناء قدومي مع زميلي وصديقي عريب الرنتاوي وسائق ومصور ضمن وفد من مجلة الهدف لإجراء مقابلة معه أثناء معركة طرابلس، التي اندلعت بعد عودته إلى لبنان؛ حيث جئنا من مقر الهدف في دمشق التي كانت تحتضن من يحاربه، وسرنا للقائه من تحت الصواريخ وعدنا إلى دمشق مع احتمال التعرض للاعتقال، وأجرينا مقابلة معه كانت مميزة ومثيرة سببت جدلًا كبيرًا في قيادة الجبهة الشعبية، بين من اعترض على المقابلة ورفض نشرها، وبين من دافع عنها بشدة؛ ما أدى إلى التوصل إلى حل وسط بين الفريقين يقضي بألا تنشر المقابلة كاملة، وإنما جزء منها، ولا تكون على كامل غلاف العدد، وإنما يُشار إليها ببنط على زاوية الصفحة الأولى فقط، مع أن المقابلة كانت مهمة وصريحة وناقدة لمواقف وسياسات الرئيس، ولكن على قاعدة نختلف معه ولا نختلف عليه.

بعدما أنهى الرئيس صلاته في المنتدى، وسلّم علينا، بادر إلى السؤال: أين المذكرة؟ معتقدًا أن سبب اللقاء طلب وظيفة حين كانت الوظائف تعين بالجملة وفي كتاب واحد، فقلت له: لا توجد مذكرة ولا طلبات شخصية، ولكن لدي رغبة شديدة في مناقشة اتفاق أوسلو، وكيف وصلنا إليه، مع ما تضمنه من تنازلات كبيرة، أخطرها الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود والعيش بأمن وسلام على 78% من أرض فلسطين، من دون أن تعترف إسرائيل بأي حق من الحقوق الفلسطينية. كانت المفاجأة أن أبو عمار لم يعترض على معارضتي لاتفاق أوسلو، ولكنه قال إنه ممر إجباري، وعلى الرغم من كل عيوبه، فإنه يضع أرجلنا على أرض الوطن، ومن هناك يمكن أن نكسر القيود الغليظة التي كبلنا بها.

وعلى الرغم من عدم موافقتي على رأيه النابع من تقديري أن بالإمكان أبدع مما كان، وأن لا شيء يبرر تقديم كل هذه التنازلات بلا مقابل يوازيها، مع معرفتي أن وضعنا صعب، ولا مفر من تقديم تنازلات، ولكن لا تمس الحقوق الأساسية والرواية التاريخية، مقابل مجرد حكم ذاتي، وسلطة تجسد نوعًا من الهوية الوطنية ولكنها مقيدة سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا، ولا تملك الفكاك من قيودها، ولا تفتح أي أفق حقيقي لتحقيق أمنيات الشعب الفلسطيني وطموحاته، حتى في إقامة دولة على حدود 67، وعودة قيادة وكوادر ومقاتلي المنظمة إلى أرض الوطن، على أهمية ذلك، ولكن الثمن باهظ جدًا.

لقد تنازل أوسلو عن المقاومة من دون أن تحقق أهدافها، وفصل القضية عن الشعب والأرض، وقسّم كل واحدة منها إلى أجزاء، وجزّأ التفاوض على مرحلتين انتقالية ونهائية، متضمنًا فصل القدس عن بقية الأرض المحتلة، وجعلها تحت رحمة الاحتلال، من خلال تأجيل التفاوض عليها إلى المرحلة الأخيرة من التفاوض، إلى جانب قضايا الحدود والأمن والاستيطان واللاجئين، وذلك من دون مرجعية واضحة وملزمة ولا آلية تطبيق، إضافة إلى الاتفاق لا يتضمن وقفًا للاستيطان، كما كان يطالب حيدر عبد الشافي والوفد المفاوض معه، ولا إطلاق سراح الأسرى الذين لا يزال بعضهم وراء القضبان حتى الآن بعد ثلاثين عامًا على الاتفاق المشؤوم.

لقد كان هاجس عرفات الأكبر أن يرحل من دون أن يحقق شيئًا مثل سلفه الحاج أمين الحسيني، لذا ذهب بعيدًا في أوسلو آملًا أن يكون هناك ضوء في آخر النفق، وخاب أمله ووجد نفسه محاصرًا ومطالبًا بالاستسلام أو بالاستشهاد، فآثر الشهادة.

حاول أبو عمار مبكرًا التفلت من التزامات أوسلو

بالفعل، حاول ياسر عرفات تجاوز الاتفاق مبكرًا جدًا، من خلال إحضار أربعة من القيادات الفلسطينية معه في طائرته من دون الحصول على الموافقة الإسرائيلية، فما كان من إسحاق رابين الذي وصف بـ “بطل السلام” أن هدد بإيقاف كل شيء إذا لم يعد الأربعة من حيث أتوا، وعادوا ليدخلوا لاحقًا بعد الموافقة الإسرائيلية، وحاول أبو عمار أن يتصدى لمحاولة الحكومة الإسرائيلية التفلت من الالتزامات الإسرائيلية مجددًا على تطبيق الالتزامات بشكل متبادل ومتوازن، وتصدى من أجل ذلك للمشروع الاستيطاني في جبل أبو غنيم، وخاض معركة حامية ارتقى فيها عدد من الشهداء، معظمهم من أفراد الأجهزة الأمنية، وحاول أن يربط تطبيق الالتزامات الفلسطينية بتطبيق الالتزامات الإسرائيلية التي رد عليها رابين بأن “لا مواعيد مقدسة”.

لقد ارتكبت القيادة الفلسطينية كل أنواع الأخطاء منذ توقيع أوسلو، الذي ما كان يجب أن يكون، وكان ولا يزال ولا بد من الخروج منه بسرعة بعد أن ظهرت نتائجه على الأرض التي كانت باستمرار أسوأ وأسوأ، ومن الأخطاء عدم الإشارة في الاتفاق إلى أن الأرض محتلة، وأن هدف التفاوض إنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية على حدود 1967، بل كانت المفاوضات سيدة نفسها، وهدفها التوصل إلى اتفاق نهائي من دون مرجعية تحكم، ولا الاتفاق على مضمونه، وما حصل منذ ذلك الوقت وحتى الآن، وما أكده محضر اجتماع الحكومة الإسرائيلية الذي أقر اتفاق أوسلو الذي رفعت عنه السرية بعد مرور أكثر من ثلاثين عامًا على توقيع الاتفاق، أن لا إسحاق رابين ولا شمعون بيرس ولا الحكومة الإسرائيلية كانوا بوارد الموافقة على إقامة دولة فلسطينية، بل هذا كان مجرد أضغاث أحلام من القيادة الفلسطينية التي تصورت أنها ستحصل على دولة فلسطينية مقابل التنازلات الكبيرة التي قدمتها (الاعتراف بإسرائيل والتنازل عن تمثيل شعبنا في 48 والتعاون الأمني)، وأبدت استعدادًا لتقديمها لاحقًا، مثل “حق العودة للاجئين”، تحت تأثير وجهة نظر خاطئة ترى أن مكانة إسرائيل تراجعت، ومرشحة للتراجع أكثر في الإستراتيجية الأميركية بعد انتهاء الحرب الباردة، وبدء السيطرة الأميركية الأحادية على العالم، وحاجة المصالح الأميركية إلى استخدام حل القضية الفلسطينية بوصفه جسرًا للتطبيع مع العالم العربي، والاستفادة من ثرواته وأسواقه الكبيرة.

الرئيس محمود عباس: أوسلو أُفشِل ولم يفشَل

شاءت الصدف أنني تناولت موضوع أوسلو في أكثر من اجتماع مع الرئيس محمود عباس، وذلك بعد اغتيال ياسر عرفات؛ لأرى الفرق بينه وبين عرفات، وأجابني عن سؤال لماذا فشل أوسلو، بأنه لم يفشل، وإنما أفشِل، وهناك فرق كبير بين الفشل والإفشال، فالإفشال قابل ليتحول إلى نجاح إذا توفرت الظروف المناسبة، وغمز من قناة أطراف فلسطينية وإسرائيلية متطرفة حاربت ضد الاتفاق منذ البداية، كما حمل سلفه قسطًا مهمًا؛ لأنه لم يف بالالتزامات الفلسطينية، ولم يساعد على تقديم أداء فلسطيني يوصل الفلسطينيين إلى الدولة وليس إلى الكارثة.

كان الخلف يتصور أنه قادر باعتداله وتنفيذ الالتزامات، ولو من جانب واحد، على إنجاز ما عجز سلفه عن تحقيقه، وهو الحلم الفلسطيني بإقامة دولة ولو على حدود 67، وها هو في الحكم منذ 17 عامًا ولم تتحقق الدولة، على الرغم من اعتداله المفرط، لدرجة أصبح سقف طموحه الحالي إعادة أوسلو والمحافظة على بقاء السلطة ليس أكثر. وهذا يفسر السياسة الرسمية الحالية واستمرار العمل لإعادة إنتاج أوسلو باعتباره أقصى ما يمكن تحقيقه.

جذر الخلل توهم إمكانية التوصل إلى تسوية من دون تغيير موازين القوى

يكمن جذر الخلل في عدم إدراك أن المشروع الصهيوني وأداة تجسيده إسرائيل، بسبب جذريته وخصائصه وطبيعته العدوانية الاستعمارية العنصرية الاحتلالية الإحلالية لا يقبل التسوية والحلول الوسط، لذا لا مكان فيه، كما يظهر في ممارساته وفي الحلول والمشاريع التي يطرحها أو يوافق عليها، للحقوق الفلسطينية حتى في حدها الأدنى. وهذا هو الذي أفشل أساسًا كل المبادرات والمشاريع التي سعت للتوصل إلى تسوية، وهذا لا يتجاهل الأخطاء والخطايا التي ارتكبها الفلسطينيون والأداء السيئ، ولكن المسؤولية الكبرى تقع على عاتق عدم إدراك حقيقة الحركة الصهيونية التي كان ولا يزال مشروعها مفتوحًا ولم يغلق، وهي لن تتخلى عنه ما دام رابحًا وما دامت متفوقة عسكريًا ومدعومة من الولايات المتحدة، أقوى دولة في العالم، ومن الغرب الاستعماري برمته، فلا يمكن قبولها بأي تسوية حتى لو كانت الأم تريزا تتحكم في قيادة وقرار الفلسطينيين.

إن إدراك هذه الحقيقة يجبر صاحبه أنه من دون تغيير الحقائق على الأرض وميزان القوى ليصبح المشروع الاستعماري الاستيطاني بمختلف أدواته (الاحتلال، والفصل العنصري، العدوان العسكري، والتوسع الاستيطاني … إلخ) يخسر أكثر مما يربح ومكلف لإسرائيل ومن يدعمها، لا يمكن تغيير المسار الذي تسير فيه القضية الفلسطينية من السيئ إلى الأسوأ؛ إذ بات شائعًا أنه ليس للحضيض حضيض.

يبقى أن نتوقف أمام هل القيادة الفلسطينية تتحمل وحدها ما حصل أم أن المعارضة، وخصوصًا حركة حماس تتحمل هي الأخرى قسطها من المسؤولية؟ هذا ما سنتناوله في المقال القادم.

(2/2)

تناولت في القسم الأول من المقال، الذي نشر الأسبوع الماضي، أبرز الأخطاء التي ارتكبتها القيادة الفلسطينية عند توقيعها لاتفاق أوسلو، وفي هذا القسم سأتناول الأخطاء التي ارتكبتها المعارضة للاتفاق، والتي حالت دون أن تقدم بديلًا قادرًا على إسقاطه، على الرغم من مرور أكثر من ثلاثين عامًا على توقيعه.

لقد أُقر الاتفاق عبر جلسة عقدها المجلس المركزي من دون عرضه على المجلس الوطني المرجعية العليا للمنظمة وصاحبة الاختصاص والصلاحية بإقرار مثل هذه القضايا الجوهرية والمصيرية، ولم تتم دعوة المجلس الوطني للانعقاد خشية من عدم إقراره أو معارضته من أقلية كبيرة جدًا، وعقد المجلس الوطني في العام 1996 في دورته الحادية والعشرين لإلغاء بنود في الميثاق الوطني بعد أن غدا الاتفاق أمرًا واقعًا من الصعب إلغاؤه، وحتى تجاوزه، في ظل تبلور جماعات مصالح وبنية أخذت تتكامل مستفيدة منه.

وحضر جلسة المجلس المركزي التي أقرت الاتفاق وأنشأت السلطة 83 عضوًا من أصل 110 أعضاء؛ أي بمقاطعة 27 عضوًا من مندوبي عدد من الفصائل والمستقلين، كما أن هناك عددًا لا بأس به من الحاضرين عارض الاتفاق، وشاركت الفصائل المعارضة في تشكيل صيغة عرفت باسم “الفصائل العشرة” التي عارضت الاتفاق سياسيًا مستخدمة أغلظ وأشد الإدانات له من دون أن تقدم بديلًا متكاملًا منه، واستمرت هذه الصيغة سنوات عدة، ثم خرجت منها الجبهتان الشعبية والديمقراطية.

على الرغم من المعارضة التي عبرت عن موقف واسع وليس من المبالغة أنه كان يحظى بتأييد أغلبية سياسية وشعبية، بمن فيهم أعضاء قياديون في حركة فتح والمنظمة وشخصيات مستقلة بارزة من أعضاء المجلس الوطني، لم تستطع منع الاتفاق، بل حكمتها ردود الأفعال، وهبطت بموقفها من المعارضة الشديدة له إلى التعامل مع نتائجه، وخصوصًا تشكيل السلطة، فقد تباينت مواقف الفصائل المعارضة للاتفاق في تعاملها مع السلطة المترتبة على الاتفاق؛ حيث وافقت بشكل متدرج ومتفاوت على الانخراط في السلطة الفلسطينية بعد إدراج أعداد منها في القوائم التي سمحت سلطات الاحتلال بعودتها إلى أرض الوطن، وفيما بعد شاركت فصائل يسارية مثل الجبهة الديمقراطية وحزب الشعب في بعض الحكومات.

ثلاثون عامًا على “اتفاقيّة أوسلو”: ماذا أراد رابين؟

وكذلك تباينت مواقف تلك الفصائل من الانتخابات بين المشاركة والمقاطعة؛ حيث قاطعت انتخابات المجلس التشريعي والرئاسة الأولى، وشاركت في الانتخابات الثانية من دون اشتراط التخلي عن أوسلو أو تجاوز التزاماته، كما قاطعت الجبهة الشعبية جلسة المجلس المركزي الأخيرة وشاركت فيها الجبهة الديمقراطية، ونصف مشاركة لحزب الشعب.

أما بالنسبة إلى حركة حماس، فقد انتقلت من الدعوة، والأهم، الممارسة الفعلية لخيار إقامة منظمة تحرير بديلة أو موازية إلى خيار الاستعداد للمشاركة في المنظمة والسلطة لتبوء الدور القيادي فيهما من الداخل، بعد أن استنتجت بأن هناك قرارًا عربيًا ودوليًا ضد إقامة منظمة بديلة أو موازية عبر الموافقة (باستثناء حركة الجهاد الإسلامي) على المشاركة في الانتخابات المحلية والتشريعية في العامين 2005 و2006، كما تأكد في إعلان القاهرة في آذار 2005، من دون اشتراط الالتزام بالميثاق الوطني الذي قامت جلسة من جلسات المجلس الوطني كما أشرنا آنفًا بتغيير مواد أساسية فيه بحضور الرئيس الأميركي بيل كلينتون، من دون استكمال هذه العملية بشكل كامل.

كما لم تشترط المعارضة عند انخراطها في السلطة والموافقة على المشاركة في المنظمة إلغاء أوسلو أو التخلي عن التزاماته، بل وضعت عليها شروطًا، أهمها الالتزام بالاتفاقات والالتزامات التي تجاوبت معها جزئيًا، من خلال تضمين بيان الحكومة التي شكلتها “حماس” بعد فوزها في الانتخابات احترام الاتفاقات والالتزامات، والعبارة نفسها تكررت في برنامج حكومة الوحدة الوطنية التي كانت برئاسة إسماعيل هنية.

برر كتّاب “حماس” وبعض قادتها ذلك بأن أوسلو مات، مع أن الوقائع والدلائل تشير بلا شك أن ما حدث بعد اغتيال الرئيس ياسر عرفات هبوط بسقف الموقف الفلسطيني أكثر مما كان عليه في عهده، وأقل من سقف أوسلو من خلال تبني سياسة تلبية الالتزامات من جانب واحد؛ لأنها تلبي مصلحة فلسطينية؛ ما يفسر موقف “حماس” أنها تصورت أن الطريق لقيادتها للمنظمة والسلطة باتت أسهل؛ نظرًا إلى رحيل عرفات الرئيس الشهيد والقائد والمؤسس وصاحب المكانة والصفات القيادية التي كان يتحلى بها، ولوجود رهانات بأن “حماس” بوصفها جزءًا من “الإسلام المعتدل” يمكن الاعتراف بها إذا حصرت برنامجها في برنامج الدولة، وإذا استعدت لوقف المقاومة المسلحة وإعطاء المفاوضات فرصة.

وإذا لم يكن الأمر كذلك، فما الذي يفسر موافقة “حماس” ومختلف الفصائل، مع تحفظ حركة الجهاد، على تفويض اللجنة التنفيذية للمنظمة، وتحديدًا الرئيس محمود عباس، بالتفاوض باسم الفلسطينيين كما ورد في وثيقة الوفاق الوطني المستندة إلى وثيقة الأسرى في العام 2006، وكذلك إقدامها على التهدئة المتكررة التي تعقد مع الاحتلال بدءًا من العام 2003 وحتى الآن، التي تتناقض أو على الأقل تتعارض مع إستراتيجية التحرير المعتمدة في برامج “حماس”؛ حيث طغى هذا التعارض على السطح بعد انقلاب/ حسم “حماس” للسلطة في قطاع غزة.

معضلة “حماس” أن إسرائيل لم تتبن مقاربة إدارة بوش الأولى التي شجعت “حماس” على المشاركة في الانتخابات التشريعية، حتى تهتم كما قالت كونداليزا رايس بحقائب الطلاب بدلًا من اهتمامها بحقائب المتفجرات، ولا إدارة أوباما التي شجعت الربيع العربي والأصح الإسلامي، بل أصرت على ضرورة قبول “حماس” قولًا وفعلًا شروط اللجنة الرباعية قبل الاعتراف بها بوصفها لاعبًا رئيسيًا أو ممثلًا للفلسطينيين.

وعلى الرغم من كل المرونة والتنازلات التي قدمتها “حماس”، وقبلها العمل على تغيير قواعد اللعبة من داخلها، الذي أدى إلى تذبذبها بين خط التسوية وخط المقاومة، بين خط التوافق مع الرئيس و”فتح” والانفتاح على الشراكة والمحاصصة معهما، وبين خط الحلول محلهما والبحث عن بديل، ومع ذلك لم يُعترف بها إلا بحدود تُمكِّن من وقوع الانقسام الفلسطيني واستمراره وتعميقه، وهو الدجاجة التي تبيض ذهبًا خالصًا للاحتلال.

معارضة الاتفاق من الداخل بدلًا من الخارج هي جذر الخلل

ما سبق يعني أن المعارضة الفلسطينية انتقلت من معارضة اتفاق أوسلو من الخارج إلى معارضته من الداخل، وهذا جعلها أقرب ما تكون إلى لاعب مشاغب ضمن اللعبة المسيطرة في المدينة ليس أكثر، والنقطة الفارقة التي أكدت ذلك هي سيطرة حركة حماس على السلطة في غزة، والتفاهمات التي عقدتها بشكل غير مباشر مع الاحتلال (هدنة مقابل تسهيلات وتخفيف الحصار)، وإقامة إمارة ذات بعد ديني من دون أن تتمكن من توفير شروط الحياة لها ولشعبنا في القطاع؛ ما أدى إلى وقوعها في مصيدة لم تستطع الفكاك منها حتى الآن، وتجلت في الاعتماد على ما يسمح به الاحتلال المحاصر للقطاع، الذي يمارس العدوان ضده، لدرجة الوصول أخيرًا إلى السماح للعمال الغزيين بالعمل في الداخل، فضلًا عن الاعتماد على ما تقدمه قطر وتركيا وتسمح به مصر، ويتحقق قدر من التوازن المترتب على علاقة “حماس” بإيران وحزب الله، التي تتباين التفسيرات حولها، حتى داخل الحركة نفسها، بين من يعدّ “حماس” جزءًا لا يتجزأ من محور المقاومة، وبين من يرفض ذلك علنًا، على أساس أن القضية الفلسطينية بحاجة إلى علاقات ودعم من مختلف الفرقاء والمحاور.

إن محاولة الجمع ما بين السلطة في القطاع والمقاومة المسلحة في ظل المعطيات المحلية والإقليمية والدولية بحاجة إلى تصويب، وهو الذي يفسر أكثر من أي شيء آخر لماذا تغلّب “حماس” مصلحة السلطة على مصلحة المقاومة، وعليها أن تختار أحدهما عاجلًا أم آجلًا.

كيف يمكن الخروج من هذه الدوامة؟

أضاعت حركة حماس وبقية الفصائل المعارضة، بما فيها من داخل “فتح” والمستقلين، وخصوصًا اليسارية، فرصًا عديدة، وآخرها الفرصة الثمينة التي بدأت من لحظة قرار الرئيس محمود عباس إلغاء الانتخابات التشريعية والرئاسية، ومرورًا بمعركة سيف القدس ونفق الحرية، وانتهت أو تكاد تنتهي باجتماع الأمناء العامين في مدينة العلمين، الذي استعاد فيه الرئيس زمام المبادرة.

ولو استغلت الفصائل هذه الفترة لبناء بديل نظري وعملي ليس عن السلطة والمنظمة ومؤسساتهما كما يفكر البعض، بل عن نهجهما وسياساتهما ورهاناتهما، لقاطعت أو ذهبت إلى اجتماع العملين وهي تطرح حلًا متكاملًا قادرًا على تجاوز المأزق العام الذي تعيش فيه القيادة والمؤسسة والمشروع الوطني، أزمة فقدان الخيارات، بعد وصول الإستراتيجيات المعتمدة إلى طريق مسدود، وبدلًا من بناء بديل أو بدائل، تتم إعادة إنتاج الخيارات الفاشلة.

بدلًا من ذلك، ذهبت الفصائل إلى اجتماع العلمين وهي منقسمة بين من سيحضر، ومن يقاطع؛ لأن القيادة رفضت إطلاق سراح المعتقلين السياسيين، حتى التي أصدرت المحكمة قرارات بالإفراج عنهم. كما أن الرئيس هو من بادر إلى الاجتماع، وحدد توقيته ومكانه والمدعوين وجدول أعماله ونتائجه، واشتركت الفصائل في هذه المسرحية المعادة، مغيرة خطابها قبل الاجتماع بأن هناك فرصة صغيرة أو كبيرة للنجاح، أو أننا لا نستطيع مقاطعة حوار وطني، وكأن ما جرى كان حوارًا وطنيًا وليس نوعًا من الرقص على ألحان الرئيس!

إسرائيل تكشف برتوكول الجلسة التي صادقت خلالها الحكومة على اتفاقية أوسلو

قد لا تزال الفرصة مفتوحة، مع أنها تكاد أن تغلق، خصوصًا بعد تشكيل حكومة في إسرائيل أكثر تطرفًا، وبعض أركانها لا يرى ضرورة لبقاء أي شكل يعبر عن الهوية الوطنية الفلسطينية، حتى لو كانت سلطة متعاونة مع الاحتلال. لذا، تطالب بحل السلطة، وإقامة إدارات محلية بدلًا منها بوصف ذلك جزءًا من خطة الحسم التي يتصور أنصارها أن إسرائيل قادرة الآن على حسم الصراع نهائيًا مع الفلسطينيين، وهذا ما عجزت الحكومات السابقة عن تحقيقه.

وحتى يتم توظيف هذه الفرصة، لا بد من بلورة رؤية شاملة متكاملة تدرس تجارب الماضي، وتستخلص الدروس والعبر، وتُحدد معالمها عبر حوار وطني عميق ومسؤول وتمثيلي، يهدف إلى تغيير بنيوي وسياسي شامل، ويستند إلى أسس وطنية وديمقراطية توافقية، وليس إلى محاصصة فصائلية ثنائية أو جماعية، تمهيدًا لتحقيق توافق وطني يكون مدخلًا للاحتكام إلى الشعب عبر انتخابات على كل المستويات حيثما يكون ذلك ممكنًا. وينبثق من هذه الرؤية برنامج عمل على أساس القواسم المشتركة، والتصدي للتحديات والمخاطر الجسيمة التي تحدق بالقضية الفلسطينية، بعيدًا عن استمرار أو إعادة إنتاج الخيارات والرهانات السابقة، إضافة إلى توظيف الفرص في ظل أن المنطقة والعالم في مرحلة انتقالية ويشهدان متغيرات مهمة يمكن إذا أحسن الفلسطينيون استغلالها أن تصب لصالحهم، أو لا تأتي على الأقل على حسابهم.

مبادرة إنقاذ وطني

يمكن أن تكون مثل هذه الخطوة من خلال مبادرة إنقاذ وطني، تخاطب الكل الوطني، وتدعو الجميع إلى المشاركة فيها، من دون أن ينتظر المؤمنون بها موافقة الجميع، بل لا بد من الشروع فورًا في بناء خيار بديل نظري وعملي من كل القوى والشخصيات الموافقة على هذا التوجه لإنقاذ الشعب والقضية وأداة تجسيدها منظمة التحرير، وعندما يثبت هذا البديل نفسه يمكن أن يتمكن من إعادة بناء مؤسسات المنظمة على أساس الرؤية التغييرية، وإذا تعذر ذلك ستبنى مؤسسات جديدة، فمن يمثل الشعب وحقوقه ومصالحه هو صاحب الحق والجدير بتمثيله.

 

مركز الناطور للدراسات والابحاثFacebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى