أقلام وأراء

مختار الدبابي: الحلول في تونس لا تأتي من واشنطن، أوروبا أولى بالرهان

مختار الدبابي 28-3-2023: الحلول في تونس لا تأتي من واشنطن، أوروبا أولى بالرهان

باتت تونس في الأيام الماضية قبلة لزيارات لا تكاد تتوقف لمسؤولين أميركيين وأوروبيين للوقوف على وضعها الاقتصادي، وخاصة لتحديد مدى قدرتها على الاستمرار في النهوض بدورها في منع موجات اللاجئين من الانتقال إلى أوروبا.

وفيما كانت المواقف الأميركية فضفاضة، فإن كلام الأوروبيين بدا أقرب إلى الواقع، وخاصة إيطاليا وفرنسا المعنيتين بشكل مباشر بآثار الأزمة التونسية الداخلية على أزمة اللاجئين وسط توقعات بأن ترتفع أعداد المغامرين بركوب قوارب الموت.

اكتفى الأميركيون بتصريحات من وزير الخارجية أنتوني بلينكن ومساعدته باربرا ليف مفادها أن واشنطن تنصح تونس بالذهاب إلى صندوق النقد الدولي والاتفاق معه لتحصيل الدعم المالي الذي تبحث عنه للخروج من أزمتها. وما سوى ذلك لم يشمل كلام الأميركيين سوى بعض مشاعر التعاطف و”الأصدقاء يتحدثون مع أصدقائهم بصدق”، والتي تعني توجيه انتقادات أميركية تجاه تونس حول ملف حقوق الإنسان.

هل يعني هذا أن الولايات المتحدة بجلالة قدرها تعجز عن تقديم دعم مالي أو شكل من أشكال الضمان لتونس تستطيع بواسطته الحصول على تمويلات من السوق الدولية، كما حصل في يونيو 2014 وقت حكم الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي، في فترة حكم التوافق مع حركة النهضة الإسلامية، حيث وقعت معها اتفاقا لضمان قرض بقيمة 500 مليون دولار تسمح لتونس بالوصول إلى تمويل ميسر من أسواق رأس المال العالمية.

أم أنها غير قادرة على أن توجه نداء خفيا لصندوق النقد نفسه للتعجيل بالتمويل وزيادة حجمه، خاصة أن 1.9 مليار دولار لا تساوي شيئا أمام احتياجات تونس، أو أن تدعو إلى مؤتمر مانحين كما حصل مع دول أخرى مثل لبنان واليمن لتحصيل غلاف مالي ذي قيمة يكون مدخلا لتنفيذ الإصلاحات التي يطالب بها صندوق النقد. كما يمكنها بفعل علاقاتها المتينة مع دول عربية ثرية أن تدعوها لتقديم قرض عاجل أو استثمارات لمساعدة أحد الحلفاء المهمين لواشنطن على الأقل في مجال التعاون الدفاعي والتنسيق الأمني في الحرب على الإرهاب.

صحيح أن هناك استثمارات أميركية معتبرة في تونس، لكن مشكلة الولايات المتحدة أنها لا تقارب الوضع التونسي مستقلا عن إستراتيجيتها في الإقليم، ملف مرتبط بالصراع الفرنسي – الأميركي على ليبيا وشمال أفريقيا، وليس شريكا مباشرا يحتاج إلى مقاربة خاصة يستفيد ويفيد، ولا يحتاج إلى الكثير من الدروس والرسائل المشفرة عبر البيانات والتصريحات.

كما أن واشنطن تتعامل مع تونس كملف حقوق الإنسان، أي من زاوية واحدة، زاوية مقاربتها هي بقطع النظر عن حاجة الطرف الآخر إلى حماية ديمقراطيته أو تعديلها بما يتماشى مع ظروفه، خاصة أن الديمقراطية التي شهدتها تونس بعد 2011 كانت أقرب إلى الفوضى لأسباب عديدة، من بينها أن الطبقة السياسية التي حكمت خلال السنوات العشر أساءت لصورة الديمقراطية لدى الناس فأصبحوا يلعنونها بالتمسك بتركيز نظام برلماني فشل في أعرق الديمقراطيات في أن يحقق استقرارا فما بالك ببلد سنة أولى ديمقراطية.

وفي ظل التباين الكبير بين حاجة تونس إلى دعم مالي غير مشروط وبين رؤية إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن التي لا تحسب حساب الواقع التونسي، فإن تونس لا تحتاج أن ترد على تهويمات واشنطن، وأن تبحث عن حل مع شركائها الأوروبيين الذين يعرفون تونس أكثر من الأميركيين ويحتاجونها كما تحتاجهم.

وهذا ما يفسر صمت تونس وتلافيها الرد على ما قاله بلينكن وليف، وتفاعلها مع تصريحات مسؤول السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، التي وصفتها بأنها غير مناسبة وانتقائية ولم تقل إنها مضللة أو منحازة أو إنها تدخّل في الشؤون التونسية، لأنها تعرف الموقف الأوروبي جيدا وتعرف أن شركاءها الشماليين يبنون مواقفهم بشكل عقلاني يراعي مصالح دول الضفة الجنوبية للمتوسط.

ووجهت تونس الاثنين خطاب مكاشفة ومصارحة لشركائها الأوروبيين حتى لا يبنوا موقفا متسرعا أو مبنيا على مزايدات أو تقارير سياسية منحازة بشأن واقع حقوق الإنسان، وحثتهم على “تفهّم خصوصية ودقّة المرحلة التي تمرّ بها بلادنا واعتماد خطاب مسؤول وبنّاء يعكس حقيقة الواقع ويثمّن ما تمّ تحقيقه في إطار السعي إلى إرساء ديمقراطية حقيقية”، كما جاء في بيان وزارة الخارجية التونسية عقب استقبال وزير الخارجية نبيل عمّار المفوّض الأوروبي لشؤون الاقتصاد باولو جنتيلوني.

ونقل البيان عن عمّار قوله إنّ تونس “تعوّل على إمكانياتها الذاتية وعلى الدعم الاقتصادي والمالي لشركائها، بمن فيهم الاتّحاد الأوروبي، لإنجاح مسار الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي”.

ومن الواضح أن هذه الأزمة ستدفع نحو إعادة تشكيل موقف تونس على المدى البعيد وضبط اتجاه دبلوماسيتها نحو الرهان على أوروبا، وخصوصا فرنسا وإيطاليا في ظل تشابك المصالح وفي ظل مقاربة جغرافية تظهر أن حماية الأمن القومي تحد مشترك، فمثلما تحرس تونس حدود هذه الدول من موجات الهجرة، فهي أيضا تنسق معها وتقدم لها التفاصيل الأمنية التي ساعدت في كشف شبكات متطرفة أو ذئاب متطرفة كانت تخطط لتنفيذ عملياتها في أوروبا.

لن تقدم هذه الدول دعما لتونس في شكل هبات ولا مساعدات لاعتبارات إنسانية كما يحصل مع دول أخرى في العالم. إن فرنسا وإيطاليا على سبيل المثال إن قدمتا دعما لتونس فستقدمانه ضمن خطط إستراتيجية لتأمين أمنهما القومي الخارجي والداخلي. أي إن الدعم ضروري لأمنهما، وهو ما يفسر النداءات المتكررة التي توجهها رئيسة الحكومة الإيطالية جورجيا ميلوني لمؤسسات الاتحاد الأوروبي من أجل دعم تونس التي هي حائط الصد الأول ضد موجات المهاجرين، فإن ضعفت الدولة أو عجزت أو فشلت فإن عشرات الآلاف من الأفارقة، بينهم آلاف التونسيين، سيجدون الطريق سهلا ودون عوائق للذهاب إلى شواطئ إيطاليا أو فرنسا ولاحقا نحو دول أخرى تظهر تشددا في موضوع اللاجئين لكنها تنأى بنفسها عن ملف دعم تونس ولا تعتبره أمرا يخصها.

في هذه الحال ستجد أوروبا نفسها في مواجهة موجة لاجئين شبيهة بالموجات الآتية من سوريا أو أفغانستان، وستضطر لأن تراجع موقفها الرافض لاستقبال اللاجئين وستضخ أموالا أكثر بكثير من تلك التي يتوجب أن تعطى لتونس الآن حتى تكون قادرة على لعب دورها في حراسة شمال المتوسط.

تصريحات رئيسة الحكومة الإيطالية وتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في بروكسل منذ أيام، التي طالبت بالتحرك سريعا لدعم تونس ومساعدتها على مواجهة الأزمة الاقتصادية تؤكد أن تونس أمام فرصة لإعادة تشكيل علاقاتها الخارجية بأبعادها المختلفة، ومن ضمنها العلاقات الاقتصادية التفضيلية الخاصة مع إيطاليا وفرنسا على قاعدة المصالح المشتركة اقتصاديا وأمنيا ودبلوماسيا، خصوصا أن ألمانيا منشغلة بالموضوع الأوكراني، وانتهى الدور البريطاني المؤثر في أوروبا الذي ظل يعمل بالنيابة عن الولايات المتحدة لعقود.

الموقف الأوروبي المستقبلي عكسه كلام المفوض جنتيلوني حين قال الاثنين لدى زيارة تونس “نريد أن نواصل دعم تونس لتحقيق نمو اقتصادي حقيقي، ووظائف جديدة وآفاق أفضل للتونسيين خاصة النساء والشباب”.

ومن المهم الإشارة إلى أنه مثلما تطلب تونس دعما عاجلا وعدم ربطه بمسار التفاوض مع صندوق النقد، فإن من مصلحتها التسريع بهذا التفاوض والتوصل إلى اتفاق يفتح أمامها فرصا أوسع للإصلاح، وهي لحظة ضرورية مهما تهربت منها لحسابات داخلية، فإنها ستجد نفسها ملزمة بطرقها وحسمها، وتعطي فرصة لأصدقائها كي يبادروا بدعمها دون عوائق، خاصة أن إصلاحات صندوق النقد لا تخص تونس لوحدها، فهي مسار مفروض على دول كثيرة من أجل تحصيل الدعم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى