أقلام وأراء

محمد أبو الفضل: الخصخصة كقرار سياسي في مصر

محمد أبو الفضل 20-2-2023: الخصخصة كقرار سياسي في مصر

يبدو التوجه العام في مصر نحو بيع عدد كبير من الشركات والمصانع والأراضي المملوكة للدولة أو ما يعرف بالخصخصة الآن، له مبررات اقتصادية أكثر منها سياسية حاليا، حيث تُقدم الحكومة عليه لسد جزء من العجز الواضح في الميزانية العامة وتخفيف حدة الأعباء الاقتصادية وتلبية متطلبات الديون الخارجية.

ظهر الحديث حول انسحاب القطاع العام من مزاحمة القطاع الخاص منذ نحو نصف قرن، تحديدا منذ إعلان الرئيس الراحل أنور السادات في منتصف السبعينات من القرن الماضي عن سياسته المعروفة بـ”الانفتاح” كمضاد لتوجهات سلفه الرئيس جمال عبدالناصر، التي وصفت في كثير من أدبيات السادات ومعاونيه بـ”الانغلاق”.

أحيط الانفتاح في عهد السادات بلغط كبير وأطلق عليه الكاتب الراحل أحمد بهاءالدين “الانفتاح سداح مداح” كدلالة على أن الخطوة تفتقد للحنكة السياسية والخبرة الاقتصادية، وجاءت بصورة فوقية وغير مدروسة.

على الرغم من الجدل الذي لاحقها، إلا أنها كانت بداية لتشجيع القطاع الخاص على المزيد من الانخراط في الاقتصاد المصري بعد فترة جمود ضربت جوانب مهمة في مفاصله، وزادت وقتها السلع المستوردة وشاع النمط الاستهلاكي في حياة المصريين.

بدأ الحديث عن الخصخصة يصعد ويهبط طوال عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك من دون أن يستقر على حال، فكلما ضاقت السبل الاقتصادية أمام أي حكومة كان يتم اللجوء إلى بيع بعض الشركات، وظهر ما يسمى بقطاع الأعمال العام للتحايل على صعوبات عمليات الخصخصة والتمهيد لتصفية القطاع العام تدريجيا.

يعد الرئيس مبارك أول من أطلق المجال عمليا لهذا المصطلح في العقد الأخير من حكمه، وبات مشبوها ومحل انتقادات لأن الحكومات التي روجت له لم تمتلك رؤية اقتصادية ناجحة، وبدا اللجوء إليه وسيلة لتخفيف العجز المالي في ميزانية الدولة.

علاوة على حملة ضارية شنها مؤيدو الرئيس عبدالناصر وداعمو تصوراته السياسية، واعتبروا بيع شركات ومصانع تابعة للقطاع العام نهبا علنيا وتفريطا في إرث الرجل الاقتصادي والاجتماعي الداعم للفقراء.

وجد هذا الصوت تجاوبا شعبيا قوض من قدرة الرئيس مبارك على المضي قدما في توجهاته المؤيدة لتصفية القطاع العام، من منطلق سياسي أيضا، حيث كان ابنه جمال مبارك يريد تقديم نفسه للغرب على أنه “حامي” الليبرالية الحديثة في مصر.

انتهت هذه الحقبة بحلوها ومرها، لكنها فتحت الباب للتفكير في مشروع الخصخصة الذي أصبح الحل السحري لتجاوز جزء معتبر من المشكلات الاقتصادية، وهو ما بدأ الاعتماد عليه في عهد الرئيس عبدالفتاح السيسي، مع فرق جوهري، هو أن التصرف في القطاع العام بالبيع كاملا أو حصة منه ليس اختيارا، بل روشتة قدمها صندوق النقد الدولي ضمن وصفاته التي منح بموجبها قروضا سخية للدولة المصرية.

تكمن أزمة الخصخصة الجديدة في تجاوزها المفهوم التقليدي، إذ ظهر نمط مغاير للقطاع العام يتمثل في ملكية الجيش المصري للعديد من الشركات والمؤسسات التي تقدم سلعا وخدمات، تداخلت حولها بعض التقديرات بشأن تبعيتها للقطاع العام أو الخاص، وجاءت مطالبة صندوق النقد مؤخرا بطرحها للبيع من واقع ما تتحصل عليه من مزايا تفقدها المنافسة النزيهة مع غيرها من الشركات الخاصة.

قد تكون هذه الأزمة المركبة مؤجلة إلى حين وسيتم تسكينها مؤقتا من خلال الإعلان عن بيع عدد محدود من الشركات التابعة للجيش، لكن تظل العقدة في بيع الإرث الكبير من الشركات والمصانع التابعة للقطاع العام التي كلما جاء الحديث عنها وجدت استنفارا شعبيا ولو كان غالبيتها يحقق خسائر ويمثل عبئا على ميزانية الدولة.

يأتي الانقسام حول الخصخصة من إدراج الحكومة شركات تحقق أرباحا، وشكوك تصاحب عمليات التقييم الاقتصادي، وغموض يكتنف بعض الخطوات، فلم تتعامل الحكومة بشفافية كاملة مع هذه القضية وبدت وكأنها أسهمت في تعميق الأزمة الاقتصادية أو تعمدت زيادة أسعار السلع والخدمات بشكل مبالغ فيه أحيانا كي تجبر المواطنين على التسليم بالبيع وتمريره بأقل قدر من الشوشرة والرفض.

يتخطى بيع القطاع العام مسألة الرفاهية أو الاستسلام لاعتراضات قوى سياسية وعمالية، فالحكومة لا تملك مخزونا لسد المتطلبات الاقتصادية سوى الاستعانة بطريق يحتاج المضي فيه درجة عالية من الهدوء في الشارع المصري، لأن أي مستثمر يبدي استعدادا لشراء شركات أو مصانع سيتردد عندما يجد رفضا شعبيا واسعا.

أفلحت الحكومة في تعبيد طريق الخصخصة إلى حد بعيد، وأزالت الكثير من العقبات التي جعلتها خيارا اقتصاديا لا مفر منه، وروجت بعض وسائل الإعلام لذلك للتخلص من الممانعة بالحق والباطل لتسهيل بيع القطاع العام الذي تعثر في تجارب سابقة.

وصل الأمر إلى نهاية اللعبة ليكون ما للدولة للدولة وما للقطاع الخاص للقطاع الخاص، وتأكيد أن مصر ليست دكاكين وورشا أو صناعات فاشلة وتراكما في أعباء المرتبات لجيوش من الموظفين يتقاضون عائدا بلا عمل منتج، وحانت لحظة المواجهة للأخذ بمنهج الخصخصة الصعبة كقرار اقتصادي وسياسي تطبقه الحكومة.

يؤدي التعامل مع الخصخصة بالمفهوم الاقتصادي فقط إلى تعقيدات كبيرة، فهي تحتاج لركيزة أو رافعة سياسية تستند عليها تمكنها من تحقيق الأهداف المرجوة منها، فلا خصخصة دون رؤية سياسية تدعمها وتعزز قوتها، فتطبيقها لمجرد تلقي حصيلة مادية سريعة تخفف من حدة الأزمة الاقتصادية لا يضمن لها النجاح في المستقبل، ويظهرها كعملية مشوهة تترتب عليها نتائج سلبية تفضي إلى مشاكل اقتصادية لاحقا.

من فكروا سلفا في شراء شركات ومصانع وأراضي مصرية تحت إغراءات مالية متباينة يمكن أن يترددوا كثيرا إذا لم يجدوا المناخ الاقتصادي المواتي في الدولة، وهذا لن يحدث إلا في ظل تبني أجهزة الدولة منهجا سياسيا يعظم من الاستثمار وروافده، ويدعم دور القطاع الخاص، ويخلق البيئة المناسبة للمنافسة.

يتطلب هذا المنهج تهيئة في المجال العام جاذبة للمستثمرين الكبار، ويهمهم الربح الذي تتحقق جدواه ليس فقط في وجود بنية تحتية عملاقة، بل أيضا مع سيادة القانون وتطبيقه على الجميع ومكافحة الفساد في الجهاز الإداري للدولة وزيادة هامش الحريات واحترام حقوق الإنسان.

وكما يقولون رأس المال جبان، وما لم يجد أصحابه الظروف التي تمكنهم من إدارة أعمالهم بالطريقة التي تتواءم مع منهج الخصخصة المشتق أصلا من البيئة الغربية سوف تواجههم عثرات جمة، وهو ما يفرض على القاهرة أن تصيغ مع توجهاتها الاقتصادية المنهج السياسي الموازي الذي يعزز التصورات الرامية لتحويل مصر إلى دولة جاذبة للاستثمار النافع على المدى الطويل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى