أقلام وأراء

محمد أبو الفضل: عقدة الحرب الروسية الأوكرانية في مصر

محمد أبو الفضل 16-1-2023: عقدة الحرب الروسية الأوكرانية في مصر

ترك التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا تداعيات كثيرة على دول مختلفة في العالم، وامتدت تأثيراته بجلاء إلى المجال الاقتصادي بحكم الموقع الجغرافي الحيوي للدولتين وتداخلاتهما المتعددة في التجارة العالمية، وحاولت كل دولة توظيف الحرب لصالحها وتحقيق مكاسب منها، وهناك دول تكبدت خسائر مادية كبيرة بسببها.

في مقدمة هذه الدول، مصر التي تعتمد بشكل أساسي على استيراد القمح من روسيا وأوكرانيا، وكان يأتيها الآلاف من السياح من الثانية، وبدأت الأولى تستعيد عافيتها في مجال السياحة بعد التوصل إلى تفاهمات مشتركة لإنهاء أزمة سقوط الطائرة الروسية فوق صحراء سيناء وعلى إثرها لم يعد الملايين من الروس يتدفقون على المنتجعات المصرية، ثم جاءت الحرب لتعيد الموقف إلى مربعه الأول في الفضاء السياحي.

تحولت الحرب إلى ما يشبه العقدة في الأدبيات المصرية مؤخرا، ومن التفسيرات التي تستخدم في الخطاب الرسمي لتخفيف حدة الانتقادات الموجهة للحكومة لتبرير تضخم الأزمة الاقتصادية في البلاد، وتحملت هذه الحرب أوزار التصرفات الخاطئة التي قامت بها الحكومة وأدت إلى مشكلات تضرب في عصب الاقتصاد حاليا.

حوى تقرير صدر عن صندوق النقد الدولي قبل أيام معلومات تشير إلى تبرئة هذه الحرب من المسؤولية المباشرة عن الأزمة الاقتصادية في مصر، وقال إنها كشفت العورات المتراكمة، بمعنى أنها ليست سببا وحيدا للتدهور الحاصل في الاقتصاد، فهناك عيوب هيكلية رفعت نتائج الحرب الغطاء عنها.

كما أن كورونا الذي كبّد دولا كثيرة، بينها مصر، خسائر باهظة، لا يقتسم جزءا من المسؤولية عن الأزمة التي عصفت بالاقتصاد المصري، ما يؤكد أن اللجوء إلى الحرب أو كورونا لتبرئة ساحة الحكومة لم يعد كافيا لإقناع المصريين الذين بدأت مؤشرات المعاناة تلوح أمامهم قبل ظهور الأزمتين في شكل ارتفاع تدريجي في الأسعار وإسراف في الصرف على المشروعات القومية ذات المردودات الآجلة.

إذا كانت الحرب أسهمت في زيادة أسعار السلع المستوردة، خاصة القمح، من روسيا وأوكرانيا، وأدت إلى ندرة سلع أخرى، فهي منحت مصر ميزة نسبية عندما تسببت في زيادة أسعار الغاز، والذي أصبحت القاهرة من بين مصدريه عقب اكتشاف حقل ظهر في شرق البحر المتوسط، فالحرب لم تكن كلها شرا، إذ نبهت الحكومة المصرية للالتفات إلى الزراعة جيدا وتوفير كميات كبيرة من الغذاء عبر الإنتاج المحلي.

نزع تقرير صندوق النقد الدولي ورقة تاجرت بها الحكومة، فكل مسؤول يتحدث يجد في الحرب قاعدة مريحة للتنصل من التأثيرات السلبية للأزمة الاقتصادية، ولا أعلم هل سيكرر هؤلاء المعزوفة مرة أخرى أم لا عقب صدور التقرير، حيث فقدت جانبا من مصداقيتها بعد أن تحولت إلى نغمة مستمرة ترددها تلقائيا وسائل الإعلام الرسمية لتبعد شبهة التراخي والتقاعس والفشل عن الحكومة بعد كل ما أدت إليه الأزمة الاقتصادية من روافد اجتماعية تفرض الحاجة إلى تبني سياسات جديدة.

ردد البعض من الخبثاء في مصر سؤال ماذا لو انتهت الحرب في أوكرانيا غدا أو بعد شهر أو أكثر، هل تنتهي الأزمة الاقتصادية وتوابعها، وهل تسترد الدولة المصرية عافيتها وتنتهي مشاكل المواطنين الحياتية؟

يصعب تحديد موعد زمني لانتهاء الأزمة لأنها تتوقف على حسابات قوى كبرى وتوازنات متعددة في النظام الدولي، لكن لا مفر من حدوث تسوية لها قد تكون بعد أسابيع، أشهر، سنوات، وفي كل الحالات سوف تطوي صفحاتها العسكرية.

تكمن المشكلة الأكبر في أن إفرازات ما بعد نهاية الحرب على الصعيد الاقتصادي ربما تكون أشد خطورة من بداياتها، فمن المتوقع أن تعيد صياغة الكثير من التفاعلات على هذا المستوى، ويجب أن تكون دولة مثل مصر مستعدة للتعامل معها، وهي التي حافظت على شبكة متنوعة من العلاقات بين القوى الرئيسية في الحرب، بما يخفف الخسائر الناجمة عنها حال كسب أحد الطرفين المعركة، روسيا والولايات المتحدة.

تحولت هذه الحرب إلى عقدة في حالتي التضخيم والتهوين، فمن أرجعوا كل سوءات الاقتصاد المصري إليها أنكروا أي دور سلبي للحكومة في الأزمة خلال الفترة الماضية، ومن اعتقدوا أنها غير مسؤولة عنها حملوا الحكومة أكثر مما تحتمل من عيوب، فالعقدة ضربت أنصار الفريقين، غير أنها تؤكد أن هناك أزمة عميقة.

بعيدا عن حجم التأثير الذي سببته الحرب توجد مجموعة من العبر والدروس المستفادة من الشد والجذب بين الطرفين تستوجب استيعابها، من بينها أن العوامل الخارجية تلعب دورا مهما في اقتصاديات الدول، فكما قادت الحرب إلى نتائج قاتمة على بعض الدول جنت منها دول أخرى مكاسب، لاسيما الدول المنتجة للنفط والغاز والحبوب، وبالتالي للحرب وجوه متباينة وليس وجها واحدا، سلبيا أو إيجابيا.

ويرفع تعاطي القاهرة مع الحرب على أساس هذه المسألة المزدوجة الحرج عن فريقي التبرير والتنصل، ما يمكّن كلاهما من النظر إليها بصورة موضوعية تضع الأمور في نصابها الصحيح، فلم يعد مقنعا أن تمتطي الحكومة المصرية حصان الحرب الروسية – الأوكرانية دائما وتذهب بعيدا في الجلوس عليه للدرجة التي قد تعميها عن رؤية حقيقة الأزمة الاقتصادية وإيجاد السبل اللازمة لعلاجها.

وليس المطلوب تجاهل الحرب وما يتمخض عنها، لكن من الواجب إنهاء فكرة الاستسلام لها وتحويلها إلى أداة للتبرير وكفى، لأن ذلك يكبل الرغبة في الحل الحقيقي للأزمة الاقتصادية التي تحتاج إلى آليات خلّاقة للتعامل معها، حيث تصاعدت ارتداداتها بما يفرض تبني طروحات للتخفيف بدلا من التبرير والتفسير والخمول، فالأزمة التي تمر بها البلاد دخلت في نفق يفرض التخلي عن خطاب الاستسهال.

يأتي تجاوز عقدة الحرب من التفكير في الدوافع المحلية للأزمة دون تجاهل الأسباب الخارجية، فالنجاح في معالجة أوجه القصور في الأولى يجب أن يحظى بأهمية فائقة، لأنه يحوي اعترافا بالمسؤولية كخطوة أساسية لتصحيح التحركات الخاطئة، قبل أن تتعاظم روافد الثانية في ظل التشابك بين الاقتصاد المصري وجهات دولية تلعب دورا كبيرا للتحكم في مفاصله، وهي أبعد من عقدة الحرب الروسية – الأوكرانية.

ما لم تعالج القاهرة السلبيات المحلية سوف تجد نفسها عرضة للمزيد من الاستنزاف مع الجهات المقرضة، وقد تنتهي الحرب ولا تستطيع الحكومة أن تحدث تغييرا ملموسا يقود إلى التغلب على التحديات التي خلقتها الأزمة، وما لم تتمكن من ضبط أوجه الخلل في الاقتصاد سوف تواصل الدوران في الحلقات ذاتها، والتي تفرّغ وقف الحرب من الفوائد الإيجابية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى