أقلام وأراء

السياسة والدين في مصر

محمد أبو الفضل

محمد أبو الفضل ١٨-٤-٢٠٢٢م

طغت التفسيرات الدينية على السياسية في الكثير من القضايا المصرية في الفترة الماضية، وخضعت لتأويلات مختلفة من قبل مواطنين ينتمون إلى شرائح متباينة ومن دون النظر إلى درجاتهم العلمية ومستوياتهم الثقافية وانتماءاتهم الاجتماعية وتوجهاتهم الاقتصادية، فلم يعد الدين لله والوطن للجميع، وهو الشعار الذي رفعته نخب مصرية منذ عقود طويلة للتأكيد على التلاحم الوطني وإبعاد الدين عن الأمور الحياتية الشائكة.

مع أن الدولة المصرية خاضت، ولا تزال، معركة ضروسا لمحاربة الجماعات المتشددة ونجحت في تجفيف الكثير من منابعها الأمنية، غير أن روافدها مستمرة وتنخر أحيانا في قاع المجتمع، وهو المعنى الذي ينطوي عليه الانتشار الواسع لتفسير التعامل مع الملفات المطروحة دراميا وإعلاميا وثقافيا واجتماعيا من هذا المنطلق، حتى ولو كان طرحها يرمي إلى تعديل مساراتها.

يتحكم الدين في حياة شريحة كبيرة من المصريين، وهذا لا غبار عليه، طالما أنه ينبثق من تفكير قويم ومعتدل، لكن أن ينشغل الناس بكل شاردة وواردة ويخضعونها دوما لمدى التطابق والتنافر مع الدين فهذا أمر لم يكن معروفا بهذه الدرجة من الحدة، ولا يقتصر على المسلمين، بل يشمل المسيحيين أيضا، وهي الديانة الثانية في مصر.

كشفت مجموعة من الأحداث التي وقعت في الفترة الماضية أن المواءمات الدينية لم تعد قاصرة على القضايا الرئيسة التي تحدد ما يجب الاقتراب منه وما يجب الابتعاد عنه، وهو ما يخرج مارد التشدد من قمقمه مرة أخرى، ويمنح الحركات المتطرفة الفرصة لتعيد إلى نفسها الاعتبار وتطفو على السطح وربما تستعيد جانبا من مكاسبها التي فقدتها عقب اجتثاث جماعة الإخوان من السلطة والتخلص من ذيولها السياسية والأمنية والاقتصادية التي كادت تتسبب في تآكل جزء كبير من الجسم الحي للدولة.

يبدو أن التقديرات التي ذهبت إلى انتهاء زمن هؤلاء لم تكن في محلها، لأن كثافة الحديث عن الحلال والحرام، والكفر والإيمان، والتعامل مع إشكاليات العلاقة بين المسلمين والأقباط على أساس ديني وليس مدنيا ينذر بمخاوف متعددة في المستقبل، ويشير إلى أن البلاد مهيأة للدخول في ردة حضارية قد توقظ الكثير من الفتن التي جرى وأدها وتعيدها إلى صدارة المشهد.

لا أعلم هل ما يحدث يأتي عن قصد من قبل بعض الجهات في الداخل ليجد الناس ما يشغلهم عن تعقيدات حياتهم وما يكتنفها من أزمات اقتصادية واجتماعية، أم هو نتيجة لحالة التصحر في الفضاء العام التي أدت إلى الانشغال بالدين بدلا من السياسة.

في كل الأحوال، لا يؤكد تفوق الدين على السياسة أن المجتمع المصري متدين بالفطرة كما يردد البعض، لكن يؤكد أن عاطفته القوية ومن السهولة التأثير في حياة الناس من هذا الباب الذي تدخل منه الجماعات المتشددة وتستطيع أن تبث أفكارها بين جنباته وتستقطب ما تريد استقطابه من عناصر تساعدها على زيادة سرعة انتشارها، وهي الثغرة التي تحتاج إلى المزيد من الوعي بمخاطرها.

ما يعتقد البعض أنه يشغل الناس عن التفكير في أزماتهم اليومية ويبعدهم عن الاشتباك مع الحكومة قد يتحول إلى مدخل لتصعيد غير متوقع، لأن الكثير من المواطنين لن يجدوا أمامهم سوى عناصر غير مسؤولة تحرضهم على السمع والطاعة وإلغاء عقولهم عند التعاطي مع القضايا التي تؤرقهم، سواء أكانت كبيرة أم صغيرة.

يمنح غياب النشاط السياسي للأحزاب المجال للقوى الدينية لملء هذا الفراغ وإصدار فتاوى يمكن أن تدفع الناس إلى التفكير في حياتهم من منطلق ديني بحت، وتجني الحكومة خسائر لا حصر لها بعد أن وثقت في ارتياحها إلى عدم وجود مناكفات سياسية تعكر مزاجها، فإذا كانت حققت هذا الهدف خلال السنوات الماضية، فإنها أطلقت يد المارد الذي يمثل تهديدا أشد خطورة عليها وعلى المجتمع.

مهما كان الإزعاج الذي يأتي من وراء الأحزاب سوف يكون أقل تأثيرا مما تؤدي إليه زيادة نفوذ الجماعات التي تجد في ذيوع مظاهر التدين ملاذا لحضورها وقدرتها للسيطرة على مفاصل في دولة ينشد حكامها تعميم المدنية والتخلص من المتطرفين.

قد تكون إجراءات الحكومة لتقويض الحركة في المجال العام وحرمان القوى المدنية من ممارسة السياسة بصورة مريحة جعلت البعض يلجأون إلى تضخيم التفسير الديني، خاصة في الإعلام والثقافة والدراما والمجتمع عموما. ووجدوا أن أجهزة الدولة لا تمانع صعودهم، حيث تشاهد المشاجرات بين الأزهر ووزارة الأوقاف، والصدامات بين الأول ودار الإفتاء، وارتفاع قضايا ازدراء الأديان في المحاكم، والتجاذبات بين من يسمّون بالمتدينين والعلمانيين، ولا يحركون ساكنا، أو يتحركون عند مستوى معين من الإفراط والتفريط.

زحف هذا القاموس دون أن يزعج أجهزة الدولة إلا في الحدود التي يمكن أن تخرج عن السيطرة، فتتدخل الحكومة لزجر هذا وردع ذاك، وتظل في النهاية رواسب تؤكد أن المجتمع يمر بأزمة حقيقية تدفعه إلى التدين المنقوص؛ منقوص لأنه يأخذ بالمظهر أكثر من الجوهر، ويغلب الصياح على الهدوء.

أخشى أن تصبح الحكومة مثل القطة التي تقتل أبناءها، فعندما تطرب للخلافات وكأنها تشجعها في صمت سوف تجد نفسها أمام مردودات سياسية خطيرة، لأنها تستنفر المتشددين، بقطع النظر عن هوياتهم الدينية والفكرية، حيث يجهز كل منهم أسلحته الفتاكة لهزيمة الآخر فتكون الحصيلة أن يعيش المجتمع حالة مرتفعة من الغليان.

ربما تكتشف الحكومة بعد فوات الأوان أن الخيار في عودة السياسة وفتح الأبواب المغلقة أمام الأحزاب للقيام بأدوارها بالمزيد من الحرية، فقبول الأخيرة بالاسترخاء الذي تعيشه الأحزاب لا يعني الرضاء التام عن هذه الحالة، فتحويل العمل السياسي إلى اجتماعي يخضع التطورات التي تحدث في البلاد إلى منظور ضيق، بدلا من أن يرى في السياسة مفتاحا لحل المشكلات يراها سببا لها، ويقامر المسؤولون بالتوسع في الإجراءات التي تفضي إلى دفنها تماما.

تجد الجماعات الدينية الواعية لما تقوم به أو الطيّعة والمغرر بها مجالا لتنمية دورها والتسلل إلى أناس يرون فيها ملاذا لتفريغ شحنات الغضب التي تعتمل داخلهم، وهي نتيجة تقود إلى خطر مزدوج، حيث تؤثر على الخطوات الرامية إلى التوجه نحو وضع أسس متينة للدولة المدنية، ومواجهة الحركات الدينية.

يمكن أن تستيقظ الحكومة فجأة فتجد نفسها في مواجهة كابوس مزعج يضطرها إلى العودة إلى استنفار الأحزاب والسياسة مجددا، فهي الجهات الوحيدة التي تستطيع استيعاب أية مخاطر يمثلها تغول التفسيرات الدينية في المجتمع، خاصة إذا أحسنت التصرف في التعامل مع الواقع والتباساته.

 

مركز الناطور للدراسات والأبحاث  Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى