أقلام وأراء

محمد أبو الفضل: اتفاق ضمني بين مصر وتركيا في السودان

محمد أبو الفضل 15-5-2023: اتفاق ضمني بين مصر وتركيا في السودان

تجمدت المحادثات النشطة بين مصر وتركيا بعد أن وصلت إلى أعتاب عودة تبادل السفراء بينهما، وتوقفت بما أوحى بأن القاهرة فضلت اتخاذ هذه الخطوة بعد إجراء الانتخابات الرئاسية التي يواجه فيها الرئيس رجب طيب أردوغان خصما قويا، هو كمال قليجدار أوغلو، ما يجعلها مناسبة جيدة لفتح صفحة مع الرئيس القديم أو الجديد.

بعد اتساع نطاق التفاهمات بين القاهرة وأنقرة الفترة الماضية هدأت غالبية الملفات الخلافية بينهما أو جرى تجاوز الكثير من مقاطعها، بشأن دعم الثانية لجماعة الإخوان والمتطرفين، وفي شرق البحر المتوسط، وحتى ليبيا لم تشهد منغصات تعكر صفو المشاورات المتقطعة التي تمت بين الجانبين، وبدا الطرفان مستعدين لتجاوز قضايا شائكة عديدة في ليبيا، وإمكانية الوصول إلى مساحة مشتركة للتفاهم بينهما.

جاء اندلاع الصراع في السودان بين قوات الجيش والدعم السريع ليوجد قاسما جديدا للتقارب بينهما، بدون اتفاق أو محادثات مباشرة هذه المرة، حيث أشارت مواقفهما العامة من الاشتباكات العسكرية المستمرة في الخرطوم منذ منتصف أبريل الماضي إلى ميل ضمني نحو دعم قائد الجيش الفريق أول عبدالفتاح البرهان على حساب قائد الدعم السريع الفريق أول محمد حمدان دقلو (حمديتي)، لكن من زوايا مختلفة.

جاء تأييد تركيا للبرهان والوقوف في صف فريقه انطلاقا من عاملين، الأول: وجود علاقة وثيقة نسجتها أنقرة مع المؤسسة العسكرية السودانية منذ عهد الرئيس الراحل عمر البشير، وما أبداه الرجل من مرونة حيالها بحكم التوجهات الإسلامية المشتركة بينه وبين الرئيس أردوغان، فتحت الطريق للتفاهم من خلال قنوات خلفية متعددة.

يتعلق العامل الثاني بمخاوف تركيا من تضخم قوات الدعم السريع وتوسع نفوذها في الداخل وعلاقاتها في الخارج، تحديدا مع قوات فاغنر الروسية المتمركز جزء منها في الأراضي الليبية، ومثلت عنصر إزعاج للوجود التركي في طرابلس والطموحات التي راودت أردوغان منذ عامين للتمدد شرقا وجنوبا، بالتالي ليس من مصلحته تمدد دور فاغنر في السودان، ما ضاعف صعوبة اقتلاعها من المنطقة مستقبلا.

وجاء التأييد المصري للجيش السوداني انطلاقا من عاملين مهمين أيضا، أحدهما الحفاظ على تماسك الجيوش العربية النظامية، ويكفي ما حدث من تداعيات جرّاء انهيارها في كل من العراق وسوريا واليمن وليبيا، وترى القاهرة أن المؤسسة العسكرية أحد أهم ضمانات الأمن والاستقرار ووحدة الدول العربية.

العامل الآخر، هو أن انتصار الدعم السريع يمنح مبررات للقوى الموازية للجيوش النظامية للضغط والحصول على مزايا نوعية تتخطى حدود الدمج وإعادة الهيكلة التي يمكن أن تحدث عقب النزاعات التقليدية، ما يخلق احتقانا يصعب السيطرة على ما يقود إليه من انفلات يؤثر على تماسك المؤسسة العسكرية، ويؤدي إلى إضعافها للدرجة التي لا تساعدها على الصمود لوأد محاولات التمرد المتوقعة، في وقت يعج فيه السودان بحركات مسلحة لا تزال عملية استيعابها في الجيش تواجه تحديات صعبة.

وعلى الرغم من التباين في أسباب مصر ودوافع تركيا للوقوف في صف البرهان، فإن التلاقي غير المباشر يمكن أن يوجد تنسيقا لاحقا بينهما يساعد على ردم ما تبقى من هوة سياسية – أمنية، فالسودان بالنسبة إلى كلتيهما يمثل أهمية إستراتيجية كبيرة، وربما تتحول هذه القاعدة إلى ركيزة للمزيد من التعاون بصورة تفضي إلى تصفية ما تبقى من ملفات عالقة أو قضايا بحاجة إلى حسم قريب.

سواء فاز أردوغان أو منافسه قليجدار في الانتخابات، فالموقف التركي من السودان مرجح ألا يتغير كثيرا، لأن المؤسسة العسكرية لا تزال لديها ثوابت في عدم تفضيل التعامل مع جماعات أو تنظيمات موازية للجيوش النظامية، بما يعني عدم حدوث تغير في الموقف من الجيش أو توقع انحياز للدعم السريع، ومن ثم استمرار التوافق الضمني مع القاهرة في التعاطي مع أحداث السودان.

تأتي المشكلة أو التغير المنتظر من ارتفاع مستوى البراغماتية في السياسة الخارجية التي تتبناها تركيا – أردوغان، مقارنة بمصر – السيسي، حيث يجيد الأول اللعب على التناقضات وينجح في توظيفها لصالحه بما يحقق له مكاسب عدة، بينما يتمسك الثاني بجملة من الثوابت التي تكبحه عن التنقل سريعا من مربع إلى آخر، خاصة في مسألة دعم المؤسسة العسكرية وتفضيل التعامل مع جنرالاتها، ما يشير إلى صعوبة تغير موقف القيادة المصرية من الجيش السوداني.

أدت هذه الصعوبة إلى تعطيل الدور المصري للقيام بمبادرة أو تبني وساطة بين البرهان وحميدتي، فهناك موقف مبدئي سائد لدى دوائر سودانية وإقليمية ودولية بانحياز القاهرة للأول، وهو ليس انحيازا لشخص بقدر ما هو انحياز لمؤسسة، وعندما أعلنت مصر استعدادها لفتح قنوات تواصل مع جميع الأطراف في السودان، عسكرية وسياسية ومجتمعية، لم يحظ حديثها هذا بما يستحقه من الجدية والتقدير، فلا يزال عالقا في الأذهان أنها طرف غير محايد بما يكفي.

في حين قد يجد ما جاء على لسان مسؤولين كبار في تركيا بشأن الاستعداد لاستضافة لقاء مباشر بين البرهان وحميدتي في أنقرة ما يستحق التفكير فيه، لأن أردوغان الذي يتقن عملية التقلب في مواقفه السياسية لن يجد معضلة كبيرة في ضبطها على الموجة التي تتناسب مع الأوضاع الراهنة في السودان، وما بدا من تعاطف أو تأييد ظاهر للجيش لن يؤثر على تغيير موقفه من الدعم السريع، والتي يعلم قائدها منهج التفكير الفضفاض الذي يستخدمه أردوغان، وشكل السياسة التي يتبناها السيسي.

مثلت مرونة أو براغماتية أو انتهازية أردوغان واحدة من الإشكاليات التي واجهتها القيادة المصرية، فالرجل لا يتورع عن الانتقال من روسيا إلى الولايات المتحدة والعكس، ولم يتورع عن التهدئة مع كل من إسرائيل والإمارات والسعودية ومصر بذريعة تصفير الأزمات الإقليمية، وقبلهما وضع ورقة الإخوان على الرف، والتضحية بالتنظيمات المتطرفة، وغيرها من تنقلات لم يجد فيها العارفون بتفكير أردوغان أي دهشة أو استغراب، فهو يتأقلم سريعا مع ما يساعده على تحقيق أهدافه.

لن يكون السودان ببعيد عن هذا التفكير، وما يمكن اعتباره اتفاقا ضمنيا مع مصر قد يتغير عند أول فرصة يبحر فيها أردوغان إلى السودان، والذي يملك فيه طموحات سياسية واقتصادية وأمنية لم تبارح ذهنه، ربما تكون هدأت أو توارت، لكنها لن تنتهي سريعا، فالخرطوم في أجندته من المكونات الرئيسية التي يبني على قلاعها جانبا من تطلعاته في أفريقيا، بينما القاهرة ترى ما يدور في السودان جزءا مهما بالنسبة إلى الأمن القومي المصري، ولا يمكن استبداله بإغراءات أو مساومات إقليمية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى