أقلام وأراء

ماجد كيالي: حقبة أوسلو وتجديد شباب الطبقة السياسية الفلسطينية المهيمنة

ماجد كيالي 23-9-2023: حقبة أوسلو وتجديد شباب الطبقة السياسية الفلسطينية المهيمنة

مرة ثانية أنحو في مناقشة اتفاق أوسلو، الذي نشأ بين إسرائيل والقيادة الفلسطينية (1993)، من خارج النص (وهو ما فعلته في مقالتي السابقة هنا، 16/9)، رغم أنّ نص الاتفاق مليء بالثغرات والاجحافات بحق الفلسطينيين، وضمن ذلك مثلاً عدم النص على وقف الاستيطان، أو تعيين الحدود، أو تحديد ماهية الحل النهائي، وهي الأمور التي ما زال الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة يكابد لفرض حقوقه المشروعة فيها حتى اليوم، على مستوى ما يُسمّى حل الدولة الفلسطينية في الضفة والقطاع، أي بمعزل عن قضيتي اللاجئين والقدس.

الواقع، انّ إسرائيل باتت، بعد ذلك الاتفاق، تصارع الفلسطينيين على كل شبر في الضفة الغربية وفي القدس الشرقية، بعد أن انتزعت من القيادة الفلسطينية الاعتراف الشرعي بها في أراضي الـ 48، إذ باتت أراضي الضفة والقدس كأنّها أراض متنازع عليها بين طرفين، أو بين شعبين، علماً إنّ نص الاتفاق لم يعرّف الوجود الإسرائيلي في الضفة كاحتلال. هكذا، باتت المستوطنات تنتشر في مجمل أراضي الضفة الغربية، وفوقها الجدار الفاصل، والطرق الالتفافية، بحيث باتت كل التجمّعات الفلسطينية (المدن والقرى والمخيمات) منفصلة عن بعضها بعضاً، كما بات المجال الحيوي لكل تجمّع أضيق بكثير من قبل، إذ بات خلف جدران، وتحدّ منه، أو تقطعه، طرق التفافية ومستوطنات، وحواجز عسكرية أحياناً.

لكن ما هو تفسير ذلك، أو ما هو المقابل الفلسطيني لتلك التنازلات؟ في الحقيقة، ففي تلك الفترة، كانت القيادة الفلسطينية وجدت نفسها في وضع صعب ومعقّد، فهي، أولّا، تقيم، ومنذ عشرة أعوام، في المنفى (في تونس)، إثر انتهاء الظاهرة المسلّحة في لبنان بعد الغزو الإسرائيلي له (1982). ثانياً، كانت قيادة المنظمة في مكانة ما مركونة على “الرفّ”، مع تراجع دورها الكفاحي والتمثيلي، ومع انحسار الاحتضان العربي لها. ثالثاً، تلا العاملين السابقين تنظيم الولايات المتحدة الأميركية (وروسيا والاتحاد الأوروبي) مؤتمر مدريد للسلام (1991)، والتوجّه نحو تمثيل الفلسطينيين فيه بوفد يتشكّل من فلسطينيي الداخل (ضمن الوفد الأردني)، على خلفية الدور الذي لعبته تلك الشخصيات في الانتفاضة الشعبية الفلسطينية آنذاك (1987ـ 1993)، الأمر الذي أثار مخاوف القيادة الفلسطينية على مكانتها، كقيادة للفلسطينيين.

هكذا، فإنّ مجمل كل تلك الظروف دفعت القيادة الفلسطينية إلى فتح قناة تفاوضية سرّية مع إسرائيل، لم يكن يعلم بها سوى بعض القياديين في حركة “فتح” (لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة)، وكان ثمن ذلك فادحاً جداً، إذ مقابل تعويم المكانة القيادية والتمثيلية لمنظمة التحرير، بصرف الوفد الفلسطيني المفاوض (من الأرض المحتلة)، تمّ القبول فقط بمجرد اتفاق جزئي وهامشي ومجحف، لا يتناول أي قضية فلسطينية جدّية، أو مؤثرة، باستثناء إقامة سلطة تحت الاحتلال، وتمكين الطبقة السياسية الفلسطينية من الدخول إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة، فبهذا المعنى كان اتفاق أوسلو بمثابة إنقاذ للقيادة الفلسطينية، وللطبقة السياسية الفلسطينية بمجملها، ولكل منتسبي منظمة التحرير والفصائل المنضوية في إطارها.

كان يمكن للقيادة الفلسطينية أن تأخذ خياراً آخر لا يقطع مع التسوية، ولا يورّط المنظمة فيها، بتمكين الوفد الفلسطيني من الداخل من فرض نفسه، كوفد مستقل، وكموفد من قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، وتحصيل ما يمكنه تحصيله، من دون توريط منظمة التحرير بالتنازل عن تمثيلها لكل الشعب الفلسطيني، وللقضية الفلسطينية من كل جوانبها، وطبعاً فهي لم تفعل ذلك، بل إنّ القيادة الفلسطينية لم ترض بالفصل حتى بين قيادة المنظمة وقيادة السلطة، إذ تمّ تجميع القيادتين في شخص واحد، سواء في عهد ياسر عرفات، أم في عهد خليفته محمود عباس، رغم انه كان انتقد ياسر عرفات، في حينه، لجمعه قيادة الكيانين في شخصه.

لكن عدا ذلك، أي عدا تلك الخيارات الخاطئة، كما تبيّن حتى بالتجربة، فإنّ القيادة الفلسطينية لم يكن لديها ما تفعله في حال لم تفتح قناة أوسلو السرّية، ولم تمارس السلطة في الضفة الغربية، على نحو ما شهدنا منذ ثلاثين عاماً، بل إنّ كل شيء يؤكّد أنّ الهاجس الأساسي الذي حكم كل سياسات تلك القيادة إنما تمحور حول إقامة سلطة، في كيان سياسي، مهما كان شأنه وهو ما حصل في أوسلو، وما بعده، وبالطريقة التي شهدناها، والتي أضرّت بصدقية قضية الشعب الفلسطيني وصدقية كفاحه.

لنتخيّل الأمر، فنحن إزاء قيادة فلسطينية في المنفى، في مكان بعيد عن أرضها، وعن شعبها، وهذه القيادة باتت تجد أنّ مكانتها التمثيلية والسياسية والكفاحية باتت تخبو شيئاً فشيئاً، وهي لم تعد مؤثرة في الواقع الفلسطيني، الأمر الذي يُستنتج منه أنّ عملية أوسلو، بمفاعيلها الأميركية والإسرائيلية، هي التي انتشلت هذه القيادة من مأزقها، وهي التي أوكلتها السلطة، في الضفة والقطاع، وهي التي مكّنتها من الاستمرار، وحتى بالدعم المالي، من الدول المانحة، وهي حقيقة موضوعية يفترض إدراكها بدل التغطية عليها، لأسباب الترفّع والمكابرة.

والحقيقة، فإنّ هذا التحوّل الناجم عن الأزمة الفلسطينية لم يأتِ من فراغ، إذ إنّ تلك الأزمة في الواقع نشبت في الحركة الوطنية الفلسطينية، في منتصف السبعينات، أي في الزمن الذي وصلت فيه الحركة الوطنية الفلسطينية، بإمكاناتها الذاتية، إلى سقفها الأعلى، بفرض الاعتراف الدولي والعربي بمنظمة التحرير، التي تمّ فرضها كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني، إذ بعدها لم يعد لتلك الحركة أي قدرة على تحقيق مزيد من الإنجازات السياسية، لأنّ المزيد من ذلك يتطلّب تغيّراً في المعطيات العربية والدولية لمصلحة الفلسطينيين، وهو الأمر الذي حدث بالعكس، كما شهدنا، في ما بعد.

مع ذلك، ثمة عاملان لعبا لغير مصلحة الحركة الوطنية الفلسطينية، أو لمصلحة تهميشها وتصدّعها، الأول، خارجي، وهو ناجم عن استدراج تلك الحركة في الحرب الأهلية اللبنانية منذ منتصف السبعينات، وإلى حين إخراجها من لبنان (1982). والثاني، ناجم عن العطالة البنيوية في تلك الحركة، أي افتقادها للحراكات الداخلية، وضمنها مراجعة طريقها وأشكال عملها وخطاباتها، بعد أن ولجت مرحلة جديدة، الأمر الذي قصر عمّا يُسمى البرنامج المرحلي في حينه، والذي أثّر سلباً على وحدة الفلسطينيين، وعلى إجماعاتهم الوطنية آنذاك.

أخيراً، ففي التأريخ للحركة الوطنية الفلسطينية يمكن التحقيق بأشكال متعدّدة، فوفقاً للعامل الجغرافي، ثمة حقبة الكفاح من الخارج، وحقبة إقامة السلطة في الداخل، ووفقاً للشكل الكفاحي المعتمد في كل مرحلة، ثمة حقبة الكفاح المسلح وحقبة المفاوضات وحقبة الانتفاضات، ويمكن ملاحظة ذلك، أيضاً، وفقاً للعنوان السياسي، ما بين حقبة التحرير، وحقبة البرنامج المرحلي، وحقبة أوسلو، وهكذا، فكل مرحلة خياراتها وأشكالها ومشكلاتها، لكن حقبة أوسلو تبدو هي الأغلب والأكثر عمقاً وتأثيراً من مختلف النواحي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى